التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَٱضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي ٱلْبَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَىٰ
٧٧
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ ٱلْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ
٧٨
وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىٰ
٧٩
يٰبَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ ٱلطُّورِ ٱلأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ
٨٠
كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ
٨١
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ
٨٢
وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يٰمُوسَىٰ
٨٣
قَالَ هُمْ أُوْلاۤءِ عَلَىٰ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ
٨٤
قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِيُّ
٨٥
فَرَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَٰنَ أَسِفاً قَالَ يٰقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ ٱلْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي
٨٦
قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَـٰكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ ٱلْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى ٱلسَّامِرِيُّ
٨٧
-طه

تفسير الجيلاني

وكيف لا يكون للتزكية هذه الآثار! { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ } من عندنا { إِلَىٰ مُوسَىٰ } المختار بعدما هذَّبنا ظاهره عن ذمائم الأخلاق ورذائل الأطوار، وحلَّينا باطنه بأنواع المكاشفات والأسرار، إنجاءً له ولقومه من يد الكفار حين عزم عليه فرعون الغدَّار { أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي } أي: سِر ليلاً معهم على صورة الفِرَار، فمتى أُخبروا بذلك، اتبعوا أثرك بمقتضى الاغترار، ومتى أردفك العدو وقربوا أن يدركوا، ومنعك البحر من العبور، قلنا لك: { فَٱضْرِبْ لَهُمْ } بعصاك المعين في الأمور البحرَ؛ ليكون لك معجزةً وظهر لهم { طَرِيقاً فِي ٱلْبَحْرِ يَبَساً } جافاً لا وحلَ فيها؛ لئلا يخافوا من الغرق ومن ورائك العدو، وأنت أيضاً { لاَّ تَخَافُ دَرَكاً } أي: أن يدركك فرعون { وَلاَ تَخْشَىٰ } [طه: 77] أن يغرقك البحر، فضربَ البحرَ بأمر به بعدما سار بإذنه، فسلك فيه مسلك قومه خلفه، فعبروا، فصول فرعون وملؤه الأرض، فرأوا عبورهم من الطريق اليابس.
{ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ } بلا تراخٍ فدخلوا اغتراراً بيبسه { فَغَشِيَهُمْ } أي: غطَّاهم وسترهم { مِّنَ ٱلْيَمِّ } أي: البحر { مَا غَشِيَهُمْ } [طه: 78] أي: غشاوةً عظيمة بحيث يكون البحر كما كان، فهدى موسى قومه فأنجيناهم امتناناً عليه وعليهم { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ } باتباعهم بني إسرائيل على الفور { وَمَا هَدَىٰ } [طه: 79] وأرشد لهم طريق المخلص، فأغرقناهم متبوعاً وتابعاً زاجراً عليه وعليهم.
ثم بعد إنجائنا بني إسرائيل من عدوهم وإهلاك عدوهم بالمرة، وإيراثهم أرضهم وديارهم وأموالهم، نبهنا عليهم التوجه والرجوع إلينا بتعديد نعمنا التي أنعمناهم؛ ليواظبوا على شكرها أداءً لحقٍّ شيء منها، حتى يكونوا من الشاكرين المزيدين لنعمنا إياهم.
لذلك ناديناهم ليقبلوا إلينا، ويعلموا أن الكل من عندنا: { يٰبَنِي إِسْرَائِيلَ } المنظورين بنظر الرحمة والشفقة { قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ } أولاً بقدرتنا { مِّنْ عَدُوِّكُمْ } الغالب القاهر عليكم { وَ } أنجيناكم ثانياً عن جرائم تقصيراتكم بامتثال الأوامر الوجوبية حال { وَاعَدْنَاكُمْ } نزول التوراة بصعودكم { جَانِبَ ٱلطُّورِ } لا جميع جوانبه بل جانبه { ٱلأَيْمَنَ } ذا اليُمن والكرامة؛ ليشير إلى العفو عن التقصير { وَ } أنجيناكم ثالثاً عن شدائد التيه من جوعه وعطشه وحره وبرده بأن { نَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ } الزنجبين { وَٱلسَّلْوَىٰ } [طه: 80] السماني.
وأمرناكم بالأكل منهما مباحاً بأن قلنا: { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } بعد تحملكم شدائد الابتلاء واشكروا لنعمنا لنزيدهم { وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ } أي: لا تضلوا بإسناد النعم إياكم إليكم لا إلينا، مثل فرعون وقومه، وإن كنتم مثلهم في كفرانها { فَيَحِلَّ } أي: فينزل { عَلَيْكُمْ غَضَبِي } ألبتة مثل حلولهم { وَ } اعلموا أن { مَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ } [طه: 81] سقط عن درجة الاعتبار والتقرب.
{ وَ } إن ابتليتم بحلول الغضب لا تيأسوا عن نزول الرحمة بعد التوبة؛ إذ { إِنِّي } بعد رجوعكم إليّ بالإخلاص { لَغَفَّارٌ } ستارُ { لِّمَن تَابَ } عما جرى عليه { وَآمَنَ } بعد التوبة تأكيداً للإيمان السابق { وَعَمِلَ صَالِحَاً } بعد ذلك نادماً على ما مضى من العصيان { ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ } [طه: 82] بالأخلاص والعمل الصالح إلى درجات القرب واليقين.
ولما كان موسى حريصاً على أهداء قومه لشفقته عليهم، تسارع إلى تصفيتهم، واختار منهم سبعين رجلاً من خيارهم حتى يذهبوا معه إلى الطور ليأخذوا التوراة، فساروا معه، فسارع موسى في الصعود شوقاً إلى لقاء ربه، وأمرهم أن يتبعوه في الارتقاء إلى الجبل، فوصل موسى الموعد قبل وصولهم.
فقال له سبحانه تنبيهاً على استعجاله واضطرابه في أمره: { وَمَآ أَعْجَلَكَ } أي: أي شيء أسبقك { عَن قَومِكَ } المستكملين برفاقتك { يٰمُوسَىٰ } [طه: 83] المرسَل لتكميلهم، بل من حقك أن تجيء معهم مجتمعين.
{ قَالَ } موسى: { هُمْ } من غاية قربهم { أُوْلاۤءِ } المشار إليهم التابعين { عَلَىٰ أَثَرِي وَعَجِلْتُ } من غاية اشتياقي { إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ } [طه: 84] عني ويزداد تقربي إليك.
{ قَالَ } تبارك وتعالى: إذ فارقتهم وتركتهم، صرتَ سبباً لوقوعهم في البلاء العظيم { فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا } ابتلينا { قَوْمَكَ } الذي أبقيتهم مع أخيك { مِن بَعْدِكَ } أي: بعد خروجك من بينهم بعبادة غيرنا فأشركوا بنا { وَ } ما { أَضَلَّهُمُ } إلا { ٱلسَّامِرِيُّ } [طه: 85] المفرط بصوغه صورة العجل من حلي القبط، ورميه عليها التراب الذي أخذه من حافر فرس جبريل وخوار العجل بعد رمي التراب وقوله:
{ هَـٰذَآ إِلَـٰهُكُمْ وَإِلَـٰهُ مُوسَىٰ } [طه: 88].
فإذا سمع موسى من ربه ما سمع { فَرَجَعَ مُوسَىٰ } من ساحة عز الحضور في مقام السرور { إِلَىٰ قَوْمِهِ } المتخلفين عن أمره، المشركين بربه، قد استولى عليه الغضب حمية لهم و غيرة على ربه، فصار { غَضْبَٰنَ } من فعلهم { أَسِفاً } متأسفاً متحزناً متفكراً، هل يمكن تداركه أم لا؟ فلما وصل إليهم { قَالَ يٰقَوْمِ } المضيعين سعيي في تكميلكم، أما تستحيون من ربكم ألذي رباكم بأنواع النعم وأنجاكم من أصناف البلاء سبما عند وعد الزيادة لكم { أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً } يحسن أحوالكم ويوصلكم إلى مقام القرب بإنزال التوراة عليكم؛ لتكملوا بها أخلاقكم { أَ } تنكرون من إنجاز وعده { فَطَالَ عَلَيْكُمُ ٱلْعَهْدُ } ا لمدة بأن صار أربعين بعدما كان ثلاثين { أَمْ أَرَدتُّمْ } بزيادة الإنكار والإصرار { أَن يَحِلَّ } وينزل { عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ } بسبب ذلك { مَّوْعِدِي } [طه: 86] الذي وعدتكم من متابعتي لأخذ التوراة.
{ قَالُواْ } يا موسى { مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } بقدرتنا واختيارنا من غير ظهور دليل يشغلنا عن موعدك، بل { وَلَـٰكِنَّا } كنا على ما وعدتنا، ولا يصدر عنا مخالفتك غير أن { حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً } وآثاماً مستعاراً { مِّن زِينَةِ ٱلْقَوْمِ } أي: من حلي القبط ولم يمكنا الرد إليهم لاستئصالهم، ولا يمكننا أيضاً حملها وحفظها دائماً؛ لذلك اضطررنا فحفرنا حفرة { فَقَذَفْنَاهَا } أي: قذف كل منَّا منا في يده من الحلي فيها { فَكَذَلِكَ أَلْقَى ٱلسَّامِرِيُّ } [طه: 87] ما في يده من الحلي فيه بعد قذفنا بلا صنع زائدٍ منا.