التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١١٤
إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
١١٥
قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يٰنُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمَرْجُومِينَ
١١٦
قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ
١١٧
فَٱفْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١١٨
فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ
١١٩
ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ ٱلْبَاقِينَ
١٢٠
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ
١٢١
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ
١٢٢
-الشعراء

تفسير الجيلاني

{ وَ } إذا سمعتم مقالتي هذه فاعلموا أني { مَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 114] ونافيهم من عندي؛ بسبب مليكم إلي واستدعائكم طردهم، وتوفيقكم الإيمان بي على تبعيدهم.
{ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ } من قبل الحق { مُّبِينٌ } [الشعراء: 115] ظاهر الحجج، واضح البينات والمعجزات بالنسبة إلى عموم المكلفين سواء كانوا فقراء أو أغنياء؛ إذ الإيمان والتوحيد، والتدين والإخلاص إنما هي من أفعال القلوب، لا مدخل للأمور الخارجية فيها التي هي الغناء والثروة، والفقر والرذالة، فمن وفقه الحق على التوحيد، وسبقت له العناية في سابق القضاء، فهو مؤمن سواء كان غنياً أو فقيراً، ومن سبق عليه الغضب الإلهي، وكتب في لوح القضاء من الأشقياء، فهو كافر نافٍ للصانع، مشرك سواء كان غنياً أو فقيراً.
وبعدما سمعوا منه ما سمعوا من عدم مبالاته بهم وثباتهم، وعدم رعاية جانبهم وغبطتهم { قَالُواْ } من فرط عتوهم واستكبارهم: { لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يٰنُوحُ } عن دعوتك وادعائك هذا، أو لم تترك هذياناتك التي جئت بها من تلقاء نفسك افتراءً ومراءً { لَتَكُونَنَّ } بإصرارك عليها { مِنَ ٱلْمَرْجُومِينَ } [الشعراء: 116] المقتولين بالحجارة زجراً وقهراً، فارجع إلى حالك، وتب من هذياناتك؛ حتى لانقتلك بأقبح الوجوه.
وبعدما قنط نوح عن إيمانهم، وآيس من توحيدهم وعرفانهم { قَالَ } مشتكياً إلى الله، ملتجئاً نحوه: { رَبِّ } يا من رباني بأنواع الكرامة، ووفقني على الهداية والتوحيد { إِنَّ قَوْمِي } الذي بعثني إليهم؛ لأهديهم إلى دينك وطريق توحيدك { كَذَّبُونِ } [الشعراء: 117] بجميع ما جئت به من عندك تكذيباً شديداً، وسفهوني تسفيهاً بليغاً، بل قصدوا مقتي وقتلي بأشد العذاب وأقبح العذاب.
وبالجملة: ما بقي بيني وبينهم ائتلاف وارتباط { فَٱفْتَحْ } واحكم يا ربي بمقتضى عدلك { بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً } حكماً مبرماً، منجزاً لوعدك الذي وعدتني به بعدما كذبوني وأنزل عليهم العذاب الموعود من عندك { وَ } بعد إنزال العذاب عليهم { نَجِّنِي } منه بلطفك { وَمَن مَّعِي مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 118] المصدقين بدينك ونبيك، الممتثلين بأوامرك، المجتنبين عن نواهيك بفضلك وطولك.
وبعد إفراطهم وإصرارهم المتجاوز عن الحد في الإعراض عن الله، والانصراف عن دينيه وتكذيب نبيه، وإيذائه إياه من آمن له من المؤمنين، أنزل الله عليهم الطوفان الموعود { فَأَنجَيْنَاهُ } أي: نوحاً { وَمَن مَّعَهُ } من متابعيه ومصدقيه بأن أدخلناهم { فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } [الشعراء: 119] المملوء منهم، ومن كل شيء زوجين اثنين.
{ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ } أي: بعد إنجائنا، وإدخالنا نوحاً ومن معه في الفلك { ٱلْبَاقِينَ } [الشعراء: 120] من قومه إلى حيث لم يبقَ منهم أحد على وجه الأرض سوى أصحاب السفينة.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } الإنجاء والإغراق { لآيَةً } عظيمة دالة على كمال قدرتنا وسطوتنا وعلو شأننا وبسطتنا { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم } أي: أكثر الناس { مُّؤْمِنِينَ } [الشعراء: 121] بوحدة وجودنا، وكمال قدرتنا وعزتنا، ومتانة حكمنا وحكمتنا.
{ وَإِنَّ رَبَّكَ } الذي وفقك يا أكمل الرسل على الإيمان والتوحيد، وكشف لك سر سريان وحدته الذاتية على هياكل المظاهر { لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ } الغالب القاهر في نفسه، بحيث لم يكن أحد في فضاء الوجود سواه ولا إله معه، ليس كمثله شيء، وهو السميع العليم { ٱلرَّحِيمُ } [الشعراء: 122] لخلَّص عباده ممن جذبته العناية الأزلية نحو بابه، ويسر له الوصول إلى جنابه، ربِّ اجعلنا من المنجذين إليكم، المنكشفين بوحدة ذاتك.