التفاسير

< >
عرض

مَثَلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ ٱلْعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ ٱلْبُيُوتِ لَبَيْتُ ٱلْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
٤١
إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٤٢
وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ ٱلْعَالِمُونَ
٤٣
خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ
٤٤
ٱتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ
٤٥
-العنكبوت

تفسير الجيلاني

ثم أشار سبحانه إلى توهيم جميع التقليدات والتخمينات الحاصلة من هوية النفوس الخبيثة بالماديات، والعقول المكدرة بكدورات الأوهام والخيالات، فقال على سبيل التمثيل والتشبيه، على مقتضى إدراك العوام؛ توضيحاً لهم ليتنبهوا على طريق الحق ويتفطنوا بالتوحيد القويم: { مَثَلُ } القوم { ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ } المنزه عن الأشباه والأنداد مطلقاً { أَوْلِيَآءَ } يوالونهم كولاية الله ويعبدونهم مثل عبادته، متوهمين أنهم شركاء معه أو شفعاء لهم عنده سبحانه مع أنهم لا يتأتى منهم الشركة والشفاعة أصلاً، إنما مثلهم في هذا الاتخاذ والاعتقاد { كَمَثَلِ ٱلْعَنكَبُوتِ } التي { ٱتَّخَذَتْ بَيْتاً } من لعابها، ثم تركتها واتخذت آخر مثلها، ثم تركتها، وهكذا حالها دائماً مع أن هذه الأبنية البيوتات المتخذة لا تدفع حراً ولا برداً، ولا تصير مانعاً له من العدو وحجاباً كهؤلاء المقلدين الضالين الذين اتخذوا تقليد بعض الضلال ديناً، ثم تركوها بتقليدٍ آخر منهم بلا رسوخ ولا تمكن، وهكذا حالهم دائماً مع أن الأديان المتخذة لا تكشف لهم طريق الحق، ولا توصلهم إلى معرفته وتوحيده، ولا تنقذهم من الأوهام والخيالات الباطلة العائقة عن مشرب التوحيد، ولا تخرجهم من سجن الطبيعة وقيود الإمكان وأغلال الأنانيات وسلاسل العينات.
{ وَ } قال سبحانه على سبيل التأكيد والمبالغة والتصريح بالتوهين بعدما كنى؛ لينزجروا ويرتدوا على ما هم عليه من الأديان الباطلة: { إِنَّ أَوْهَنَ ٱلْبُيُوتِ } وأضعف الأبنية { لَبَيْتُ ٱلْعَنكَبُوتِ } إذ لا بيت أضعف منه، وأشرف إلى التخريب والانهدام، وأقل وقاية من الحر والبرد ودفع الضر { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [العنكبوت: 41] وهنه وعدم نفعه لما اتخذوها، لكنهم لم يعلموا، فاتخذوا جهلاً وعناداً، فيسعلمون عاقبة ما اتخذوا ووبال ما عبدوا.
ثم قال سبحانه على وجه الوعيد إياهم، آمراً لحبيبه صلى الله عليه وسلم: قل لهم يا أكمل الرسل: { إِنَّ ٱللَّهَ } المطلع لضمائر عباده وسرائرهم { يَعْلَمُ } بعلمه الحضوري { مَا يَدْعُونَ } وتعبدون { مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ } من الأصنام والأوثان على التفصيل؛ إذ لا يعزب عن حيطة علمه شيء مما ظهر وبطن وخفي وعلم، ولكن يمهلهم ويؤخر أخذهم بها زماناً؛ لحكم ومصالح استأثر الله بها ولم يطلع أحداً عليها { وَ } كيف لا يأخذهم بما صدر عنهم إنه { هُوَ ٱلْعَزِيزُ } الغالب القادر على الانتقام بالقوى الكاملة والبطش الشديد { ٱلْحَكِيمُ } [العنكبوت: 42] المقتن في أفعاله بما لا مزيد عليه.
{ وَ } إن استهزءوا معك يا أكمل الرسل، متهكمين بما في كتابك من التمثيلات بأحقر الأشياء وأضعفها مثل: الذباب والعنكبوت والنمل وغيرها لا تبال بهم وبتهكمكم و استهزائهم؛ إذ { تِلْكَ ٱلأَمْثَالُ } التي { نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ } المنهمكين في الغفلة والنسيان؛ لنوضح لهم طريق التوحيد والعرفان وسبيل السلامة والإيمان، إنما هو للموفقين منهم المجبولين في استعداد القبول وفطرة الإسلام، لا كل أحدٍ من أهل الغفلة والمترددين في أودية الجهل والخيال وهاوية المراء والجدال { وَ } لذلك { مَا يَعْقِلُهَآ } ويفهم معناها وما يصل إلى مغزاها { إِلاَّ ٱلْعَالِمُونَ } [العنكبوت: 43] الواصلون بما فاض عليهم من رشحات بحر العلم الإلهي ينبوع بحر الوحدة الذاتية التي هي منبع جميع الكمالات اللائحة على صحائف الآفاق وصفحات الأكوان، حيث { خَلَقَ ٱللَّهُ } المتجلي بجميع صور الكمالات وأظهر على مقتضى الأسماء والصفات { ٱلسَّمَٰوَٰتِ } أي: العلويات المتفاوتة، المتخالفة باختلاف الأسماء والصفات، والمنتشئة من الذات الأحدية حسب الشئون والتطورات المترتبة على الكمالات المندمجة فيها { وَٱلأَرْضَ } أي: طبيعة العدم، القابلة لجميع الانعكاسات المنعكسة من أشعة التجليات الذاتية غيباً وشهادةً، ظهوراً وبطوناً، بروزاً وكموناً، جمالاً وجلالاً؛ يعني: ما خلق وأظهر ما ظهر وبطن إلا ملتبساً { بِٱلْحَقِّ } المطابق للواقع بلا شائبة شك فيه وارتياب { إِنَّ فِي ذٰلِكَ } الإيجاد والإظهار على الوجه الأبدع الأبلغ والنظام الأتم الأكمل { لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ } [العنكبوت: 44] الموحدين الموقنين بوحدة ذاته وكثرة أسمائه وصفاته حسب شئونه وتطورات على مقتضى التجليات المتجددة الغير المتكررة أزلاً وأبداً.
{ ٱتْلُ } يا أكمل الرسل { مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَابِ } الجامع لما في النشأتين، الحاوي لجميع الأمور الجارية في المنزلتين، وتأمل في مرموزاته وإشارته حق التأمل والتدبر واتصف بأوامره واجتنب عن نواهيه، واعتبر عن عبره وأمثاله وذق حلاوة معارفه وحقائقه { وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ } أي: دوام على الميل المقرب إلى الله بجميع جوارحك وأركانك بالانخلاع عن لوازم ناستوك مطلقاً { إِنَّ ٱلصَّلاَةَ } على الوجه المذكور { تَنْهَىٰ } وتكف صاحبه { عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ } المترتبة عن القوى البهيمية من الشهوية والغضبية { وَٱلْمُنْكَرِ } المترتب على البشرية المنغمسة بالعلائق المادية والشواغل الجسمانية { وَ } بالجملة: { لَذِكْرُ ٱللَّهِ } المنزه في ذاته عن جميع الأكوان، المبرئ أوصافه وأسماءه عن وصمة النقصان وسمة الحدوث والإمكان، والاشتغال بذكره حسب إطلاقه { أَكْبَرُ } شمولاً وأتم توجهاً وأكمل حصولاً ووصولاً لو جذبتك العناية من لدن جنابه ووفقك التوفيق منه نحو بابه { وَ } كن يا أكمل الرسل في نفسك متوجهاً إلى ربك، متقرباً إليه على الوجه الذي أمرت به، ولا تلتفت إلى هذيانات أهل البدع والأهواء الفاسدة؛ إذ { ٱللَّهُ } المطلع بجميع حالاتهم { يَعْلَمُ } منهم { مَا تَصْنَعُونَ } [العنكبوت: 45] من الاستخفاف الاستهزاء وعدم المبالاة بمعالم الدين ومراسم التوحيد واليقين، فيجازيهم على مقتضى علمه بهم.