التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ
١٥
إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُـمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ
١٦
وَمَا ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ
١٧
وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ إِنَّمَا تُنذِرُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَيْبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ
١٨
-فاطر

تفسير الجيلاني

ثم نادى سبحانه عموم عباده على سبيل الاستغناء عنهم وعن أعمالهم وعن محامدهم وأثنيتهم الجارية على ألسنتهم، فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } الناسون عهود الله ومواثيقه التي واثقكم بها ربكم مع أنكم تنسون نعمه، وتذهلون عن حقوق كرمه { أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ } المحتاجون بالذات المقصورون على الافتقار { إِلَى ٱللَّهِ } الذي أظهركم من كتم العدم ولم تكونوا شيئاً مذكوراً، ورباكم بأنواع النعم، سيما العقل المفاض، الذي هو مذكركم عن مبدئكم ومنشئكم، فلم تشكروا نعمة مبدعكم ومربيكم أيها الغافلون الجاهلون مع أنكم محتاجون إليه.
{ وَٱللَّهُ } المنزه بذاته عن شكر الشاكرين وكفر الكافرين { هُوَ ٱلْغَنِيُّ } المنحصر على الغنى الذاتي، بحيث لا احتياج له ولا استكمال أصلاً؛ إذ كمالاته سبحانه كلها بالفعل بحيث لا ترقب في شئونه مطلقاً { ٱلْحَمِيدُ } [فاطر: 15] المحمود في نفسه على الوجه الذي يليق بشأنه؛ إذ لا يتأتى عن مصنوعاته الحمد الحقيقي بذاته، وإنما أظهركم أيها الأظلال الهالكة بمقتضى جماله ولطفه؛ لتواظبوا على عبادته وعرفانه، كي تصلوا إلى توحيده صاعدين من حضيض الإمكان إلى أوج الوجوب الذاتي علماً وعيناً وحقاً، فأنتم تتكاسلون وتتمايلون إلى أهوية نفوسكم البهيمية ومشتهيات قواكم البشرية، أَمَّا تخافون وتتأملون أيها المغرورون؟!.
{ إِن يَشَأْ } سبحانه { يُذْهِبْكُـمْ } عن فضاء البروز بالمرة إلى كمون العدم { وَيَأْتِ } بدلكم { بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } [فاطر: 16] أي: بمخلوق سواكم؛ تتميماً لحكمة العبادة والمعرفة.
{ وَ } اعلموا أيها الهالكون في تيه الغفلة أنه { مَا ذَلِكَ } التبديل والإتيان { عَلَى ٱللَّهِ } القادر المقتدر على إظهار جميع ما لاح عليه برق علمه وإرادته { بِعَزِيزٍ } [فاطر: 17] غير متعذر، بل عنده ويجنب سرعة نفوذ قضائه سهل يسير.
{ وَ } بعدما عرفتم قدرة الله وسمعتم كمال استغنائه، فلكل منكم الإتيان بمأموراته والاجتناب عن منهياته؛ إذ { لاَ تَزِرُ } تحمل نفس { وَازِرَةٌ } آثمة عاصية { وِزْرَ } نفس عاصية { أُخْرَىٰ وَإِن تَدْعُ } تطلب نفسه { مُثْقَلَةٌ } بالأوزار والمعاصي { إِلَىٰ حِمْلِهَا } أي: حمل بعض من الأوزار المحمول عليها { لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ } أي: لا يحمل أحد شيئاً من أوزاره، وإن رضي بحملها على مقتضى العدل الإلهي { وَلَوْ كَانَ } المدعو للحمل { ذَا قُرْبَىٰ } أي: من قرابة الداعي، بل كل واحد من النفوس يومئذ رهينة ما اقترفت من المعاصي، ما حملت إلا عليها وما حوسبت بها إلا هي.
ثم قال سبحانه مخاطباً لحبيبه صلى الله عليه وسلم في شأن عباده: { إِنَّمَا تُنذِرُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَيْبِ } يعني: ما تفيد إنذاراتك التي تلوت يا أكمل الرسل على هؤلاء الغفلة إلا القوم الذين يخافون من الله، ومن عذابه وعقابه حال كونهم غائبين عنه، سامعين له، خاشعين من نزوله، خائفين من حلوله بغتة { وَ } مع ذلك { أَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ } المأمورة، المقربة لهم إلى جانب قدسه، المخلصين فيها، المطهرين نفوسهم عن الميل إلى ما سوى الحق { وَمَن تَزَكَّىٰ } وظهر نفسه عن الميل إلى البدع والأهواء { فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ } إذ نفع تزيكته عائد إليه، مفيد له في أولاه وأخراه { وَ } بعد تزكيته عن لوازم بشريته ومقتضيات بهيميته العائقة عن الوصول إلى مبدأ فطرته { إِلَى ٱللَّهِ } المنزه عن مطلق النقائص، المبرء عن جملة الرذائل { ٱلْمَصِيرُ } [فاطر: 18] أي: المنقلب والمآب يعني: مرجع الكل إلأيه، ومقصده دونه سبحانه.