التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ
٢٨
إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ
٢٩
يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
٣٠
أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ
٣١
وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ
٣٢
وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلأَرْضُ ٱلْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ
٣٣
وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ ٱلْعُيُونِ
٣٤
لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ
٣٥
-يس

تفسير الجيلاني

{ وَ } بعدما قتلوه ورفعناه عنايةً منا إياه، وأدخلناه في جنة وحدتنا مغفوراً مسروراً، وكشفنا عنه غطاءه، أخذنا في انتقام قومه عنه، فأهلكناهم بصيحة واحدة صاح بها جبريل عليه السلام بأمرنا إياه { مَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ } أي: قوم الحبيب، وهم أهل أنطاكية { مِن بَعْدِهِ } أي: بعد قتله؛ لننتقم عنهم لأجله { مِن جُندٍ مِّنَ } جنود { ٱلسَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } [يس: 28] أي: ما ثبت منا، وما جرى في لوح قضائنا إنمال الملائكة لإهلاكهم كما جرت سنتنا لإهلاك سائر الأمم الهالكة.
بل { إِن كَانَتْ } أي: ما كانت علة هلاكهمه { إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } أي: ما وقعت وصدرت منا لإهلاكهم إلا صيحة واحدة - على القراءتين بالرفع والنصب - وذلك أنا بمقتضى قهرنا وجلالنا أمرنا جبريل عليه السلام بأن يأخذ بعضادة باب مدينتهم، فأخذ وصاح عليهم مرة واحدة { فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } [يس: 29] أي: فاجئوا جميعاً على الخمود والجمود بعدما سمعوا الصيحة الهائلة؛ يعني: صاروا كالرماد بعدما كانوا أحياء كالنار المشتعلة الساطعة.
ثم قال سبحاه من قبل عصاة عباده، المأخوذين بشؤم ما اقترفوا من المعاصي والآثام: { يٰحَسْرَةً } وندامة وكآبة عظيمة وحزناً شديداً { عَلَى ٱلْعِبَادِ } المصرين على العناد بعدما عاينوا العذاب الدنيوي أو الأخروي النازل عليهم حتماً بسبب إنكارهم على الرسل والمرسل جميعاً، وتكذيبهم بجميع ما جاءوا به من عند ربهم، ولس لهم حنيئذ قوة المقاومة والمدافعة؛ لذلك صاروا حيارى، سكارى، هائمين، متحسرين بلا ناصر ومعين وشفيع حميم من نبي ورسول كريم؛ إذ { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ } في نشأتهم الأولى يصلح أحوالهم وأعمالهم لئلا يترتب عليهم الوبال والنكال الموعود في النشأة الأخرى { إِلاَّ كَانُواْ } من غاية كبرهم وخيلائهم { بِهِ } أي: بالرسول المصلح المرشد لهم { يَسْتَهْزِئُونَ } [يس: 30] ويستحقرونه ويستنكفون عن قبول دينه ودعوته، وينكرون عليه كهؤلاء المسرفين المشركين معك يا أكمل الرسل.
{ أَ } يستهزئون معك - يعني: أهل مكة - وينكرون بدينك وكتابك { لَمْ يَرَوْاْ } ولم يخبروا ولم يعلموا { كَمْ أَهْلَكْنَا } أي: كثرة إهلاكنا واستئصالنا { قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ } الماضية، ولم يعتبروا مما جرى عليهم بشؤم تكذيبهم وإنكارهم على رسله مع { أَنَّهُمْ } أي: الأمم الهالكة السالفة { إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [يس: 31] أي: لا يرجعون إلى هؤلاء المفسدين، المسرفين في تكذيبك وإكارك يا أكمل الرسل في نشأتهم هذه، بل مضوا وانقرضوا إلى حيث لم يعودوا إلى ما كانوا، وهؤلاء أيضاً سينقرضون إثرهم، ولِمَ لم يتنبهوا ولم يعتبروا مما جرى عليهم مع أنهم إن أُخذوا صاروا كأن لم يكونوا شيئاً مذكوراً أمثالهمه؟!.
{ وَ } بالجملة: { إِن كُلٌّ } أي: ما كل من الفرق والأحزاب المنقرضة عن الدنيا عن التعاقب والترادف مردودون إليها، مجتمعة في وقت من الأوقات، بل { لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [يس: 32] يعني: لا يجتمعون إلا عندنا ولا يحضرون جميعاً إلا لدنيا في يم العرض والجزاء، وفي حضرة علمنا ولوح قضائنا.
وبالجملة: لا اجتماع لهم بعد انقراضهم ما داموا مسجونين في سجن الإمكان، مقيدين بسلاسل التعينات وأغلال الهويات والأنانيات، بل متى خلصوا عن مضيق الطبيعة وانخلعوا عن لوازمها، حضروا واجتمعوا، بل وصلوا واتصلوا، وحنيئذ لم يبق الفرق، وصاروا ما صاروا.
لا إله إلا هو ولا موجود سواه، هذا على قراءة "لمَّا" بالتشديد، وأما على قراءة من قرأ بالتخفيف "إن" حينئذ مخففة من الثقيلة، و"ما" في "لما" مزيدة للتأكيد، واللام للفرق بين المخففة والنافية، والمعنى: أنه - أي: الشأن - كل من الأمم الهالكة السالفة مجموعون ألبتة لدينا، محضرون عندنا يوم الجزاء، أو في حضرة لاهوتنا بعد انخلاعهم عن لوازم ناسوتهم.
{ وَآيَةٌ } عظيمة منا، دالة على كمال قدرتنا على جمعهم وإحضارهم يوم الجزاء { لَّهُمُ } أن يستدلوا بها على صدقها { ٱلأَرْضُ ٱلْمَيْتَةُ } اليابسة الجامدة، التي { أَحْيَيْنَاهَا } وأحضرناها في وقت الربيع بإنزال قطرات الماء المترشحة من بحر الحياة عليها { وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً } أي: جنساً من الحبوبات التي يقتاتون بها { فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } [يس: 33] وبه يعيشون وينعمون، كذلك في النشور أحيينا الأبدان المائتة الجامدة البالية، المتلاشية في أراضي الأجداث بإنزال الرشحات الفائضة من بحر حياة الوجود بمقتضى الجود، فأعدناهم أحياء كما أبدعناهم أولاً من العدم.
{ وَ } أيضاً من جملة الآيات التي تدعل على كمال قدرتنا: إنَّا { جَعَلْنَا فِيهَا } أي: في الأرض { جَنَّاتٍ } بساتين ومتنزهات مملوءة { مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } ومن سائر ما يتفكهون به؛ تتميماً لتنعمهم وترفههم { وَفَجَّرْنَا } أي: أخرجنا وأجرينا { فِيهَا } أي: في خلال البساتين { مِنَ ٱلْعُيُونِ } [يس: 34] والينابع الجارية التي لا صنع لهم في إجرائها وإخراجها؛ عنايةً منا إياهم، إبقاء لنضارتها ونزاهتها.
كل ذلك { لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ } أي: من ثمر ما ذكر وقوته، ويقوِّموا أمزجتهم بأنواع ما وهبنا عليهم من النعم حتى يقوموا ويواضبوا على شكرها؛ أداء لحقوقنا إياهم { وَ } كذا علمناهم وأقدرناهم على عموم { مَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } من العقارات والمزارع والبساتين وإجراء الأنهار والقنوات وحفر الآبار { أَ } ينكرون على كمال قدرتنا ووفور حولنا وقوتنا { فَلاَ يَشْكُرُونَ } [يس: 35] نعمنا الفائضة إياهم على التعاقب والتوالي ولا ينسبونها إلينا، بل ينسبونها إلى الوسائق والأسباب العادية جهلاً وعناداً، وطغياناً كفراً.