التفاسير

< >
عرض

فَٱسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ
١١
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ
١٢
وَإِذَا ذُكِّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ
١٣
وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ
١٤
وَقَالُوۤاْ إِن هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ
١٥
أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ
١٦
أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ
١٧
قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ
١٨
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ
١٩
وَقَالُواْ يٰوَيْلَنَا هَـٰذَا يَوْمُ ٱلدِّينِ
٢٠
هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
٢١
-الصافات

تفسير الجيلاني

{ فَٱسْتَفْتِهِمْ } أي: المشركين المتخذين الشياطين أولياء آلهة من دوننا، واستخبرهم يا أكمل الرسل على سبب التبكيت والتعبير تنصيصاً على غيهم، وتصريحاً بكفرهم واستحقاقهم العذاب المؤبد والنكال المخلد { أَهُمْ } أي: آلهتهم وشياطينهم { أَشَدُّ خَلْقاً } أي: إيجاداً وتأثيراً { أَم مَّنْ خَلَقْنَآ } وأظهرنا بمقتضى قدرتنا الكاملة من المخلوقات المذكورة التي هي الملائكة الصافات، والسماوات المطبقات، والكواكب المتفاوتة في التأثيرات فيها،ت والأرض وما عليها من المركبات والمواليد، وبينهما من الممتزجات وغير ذلك من الاستعدادات القابلة لشروق شمس الذات، سيما { إِنَّا خَلَقْنَاهُم } وقدرنا وجوده هؤلاء المتخذين لغيرنا أرباباً أولاً { مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } [الصافات: 11] لاصق منتن مهين لازم النتن و الهوان، ثم ربيناهم بانواع التربية إلى أن سويناهم رجالاً عقلاء؛ ليعترفوا بتوحيدنا وبألوهيتنا وربوبيتنا، ويواظبوا على شكر نعمتنا، فعكسوا الأمر واتخذوا أولياء من دوننا، واعتقدوهم آلهة سوانا، وبالجملة: انقلبوا خاسرين.
أو المعنى: { فَٱسْتَفْتِهِمْ } وسلهم؛ أي: المشركين { أَهُمْ } في أنفسهم { أَشَدُّ خَلْقاً } وأعظم مخلوقاً { أَم مَّنْ خَلَقْنَآ } من المخلوقات المذكورة سابقاً مع أنهم لم يتخذوا إلهاً سوانا، ولم يعبدوا غيرنا، هؤلاء الحمقى كيف اتخذوا من دوننا أولياء، ويسمونهم آلهة شفعاء، مع أنهم أضعف بالنسبة إليهم، مخلوقين من أدون الأشياء وأرذلها؟! { إِنَّا خَلَقْنَاهُم } وقدرنا وجودهم { مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } [الصافات: 11] مسترذل منتن تستكرهه الطبائع.
ومهما سمعت يا أكمل الرسل قولهم وإنكارهم للتوحيد وإشراكهم بالله أدون الأشياء مع ضعف خلقهم، وتأملت حالهم واستبعدت منهم هذا { بَلْ عَجِبْتَ } أنت - أو "عَجبت" أنا على القراءتين - منهم أمثال هذا، مع أنهم مجبولون على فطرة الدراية والشعور، مرهون لهم العقل المفاض المشير لهم إلى التوحيد وتصديق البعث والحشر وجميع الأمور الأخروية { وَ } هم { يَسْخَرُونَ } [الصافات: 12] بكل متى سمعوا منك الأخبار والآيات الواردة في أمر البعث والحشر.
بل { وَ } هم من شدة قسوتهم وعمههم في سكرتهم { إِذَا ذُكِّرُواْ } ووعظوا بالإنذارات والتخويفات الشديدة المتعلقة للآخرة { لاَ يَذْكُرُونَ } [الصافات: 13] أي: لا يتأثرون ولا يتعظون.
{ وَ } لا يقتصرون على عدم القبول والتذكر بل { إِذَا رَأَوْاْ } أي: علموا وسعموا { آيَةً } معجزة نازلة في شأن البعث والنشور { يَسْتَسْخِرُونَ } [الصافات: 14] بها، ويستهزئون بك يا أكمل الرسل عناداً واستكباراً.
{ وَقَالُوۤاْ } من شدة بغضهم وضغينتهم معك يا أكمل الرسل ومع كتابك: { إِن هَـٰذَآ } أي: ما هذا الذي جاء مفترياً إلى ربه { إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } [الصافات: 15] أي: سحرية ما جاء به ظاهر، وهو في نفسه ساحر ماهر، لكن مضمون كلامه زور وباطل.
{ أَ } نبعث ونحيى { ءِذَا مِتْنَا } وانفصل عنَّا روحنا، سيما { وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً } بالية رميمة { أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } [الصافات: 16] بعدما صرنا كذلك.
{ أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ } [الصافات: 17] الأقدمون يبعثون ويحشرون
{ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } [المؤمنون: 36-37].
{ قُلْ } لهم يا أكمل الرسل بعدما بالغوا في إنكار البعث، واستحالة نشأة النشور: { نَعَمْ } تبعثون أيها الضالون المنكرون، وإلى ربكم تحشرون، وعن أعمالكم تسألون، وعليها تحاسبون، وإلى جهنم تساقون { وَأَنتُمْ } حينئذ { دَاخِرُونَ } [الصافات: 18] صاغرون ذليلون مهانون.
وكيف تنكرون قدرتنا على البعث وقيام الساعة؟! { فَإِنَّمَا هِيَ } أي: الساعة والبعث بعدما تعلقت مشيئتنا { زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ } أي: صيحة واحدة منشرة لهم عن قبورهم، زاجرة لهم نحو المحشر زجر الراعى الصائح للغنم، وبعدما سمع الأموات الصيحة؛ أي: النفخة الثانية في الصور { فَإِذَا هُمْ } قيام { يَنظُرُونَ } الصافات: 19] حيارى سكارى تائهين والهين.
{ وَقَالُواْ } بعدما قاموا كذلك متحسرين متمنين الهلاك والويل: { يٰوَيْلَنَا } وهلاكنا أدركنا { هَـٰذَا } اليوم { يَوْمُ ٱلدِّينِ } [الصافات: 20] والجزاء الذي وعدنا الله به على ألسنة رسله كتبه في النشأة الأولى، فنحن قد كنا ننكره ونكذبه ونستهزئ بمن جاء به وأخبر عنه عناداً ومكابرة، فالآن نُبتلى به، يا حسرتنا على ما فرطنا في ترك الإيمان به وتصديق مخبره.
وبعدما قالوا ما قالوا، قيل لهم من قبل الحق على سبيل التقريع والتعبير إظهاراً لكمال القدرة: { هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ } والقضاء بالعدل { ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (*) } أيها الضالون المنكرون المصرون على التعب والعناد.