التفاسير

< >
عرض

وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً
٢٧
يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً
٢٨
يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَٰطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً
٢٩
وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً
٣٠
-النساء

تفسير الجيلاني

ثم كرر سبحانه ذكر التوبة والرجوع عن المزخرفات الباطلة المانعة من الوصول إلى دار السرور حثاً للمؤمنين إليها؛ ليفوزوا بمرتبة التوحيد بقوله: { وَٱللَّهُ } المرشد لكم إلى توحيده الذاتي { يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } أي: يفوقكم على التوبة التي هي الرجوع عما سوى الحق مطلقاً، ومتى انفتح عليكم باب التوبة انفتح باب الطلب المستلزم للترقي والتقرب نحو المطلوب، إلى أن يتولد من الشوق المزعج إلى المحبة المفنية لغير المحبوب مطلقاً، بل نفس المحبة بل نفس المحبوب أيضاً، كما حكي عن مجنون العامري أنه وله يوماً من الأيام واستغرق في بحر المحبة إلى أن اضمحلت عن بصره غشاوة التعيينات مطلقاً، بل ارتفع حجب الاثنينية رأساً، وفي تلك الحالة السريعة الزوال تمثل ليلى قائمة على رأسها فصاحت عليه صيحة: عمن اشتغلت يا مجنون؟ فقال: طاب وقته وعنى على حالٍ فإن حبك شغلني عنك وعني.
ثم قال سبحانه: { وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ } يضلونكم عن طريق التوحيد المسقط لجميع الرسوم والعادات بوضع طرقٍ غير طريق الشرع مبتدعاً أو منسوباً إلى مبتدع، وعينوا فيه اللباس والكسوة المعنية، ومع ذلك { يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَاتِ } ويبيحون المحرمات، ويرتكبون المنهيات إرادة { أَن تَمِيلُواْ } وتنحرفوا عن جادة التوحيد بأمثال هذه الخرافات والهذيانات { مَيْلاً عَظِيماً } [النساء: 27] وانحرافاً بليغاً لا يستقيم لهم أصلاً.
{ يُرِيدُ ٱللَّهُ } المدبر لأحوالكم { أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } أيها المؤمنون أثقالكم التي هي سبب احتياجاكم وإمكانكم { وَ } الحال أنه قد { خُلِقَ ٱلإِنسَانُ } في مبدأ الفطرة { ضَعِيفاً } [النساء: 28] لا يحتمل تحمل أثقال الإمكان مثل الحيوانات الأخر.
خفض عنا بفضلك ثقل الأوزار، واصرف عنا شر الأشرار بمقتضى جودك وارزقنا عيشة الأبرار.
ثم نبه سبحانه على المؤمنين بما يتعلق بأمور معاشهم مع بني نوعهم؛ ليهذبوا به ظاهرهم، فقال منادياً لهم ليهتموا باستماعها وامتثالها: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بالله ورسله وكتبه عليكم أن { لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ } أي: بعضكم مال بعض بلا رخصةٍ شرعية بل { بِٱلْبَٰطِلِ } ظلماً وزوراً سواء كانت سرقةً أو غصباً، أو حيلةً منسوبة إلى الشرع افتراءً أو رباً أو تلبيساً وتشيخاً كما يفعله المتشيخة، ويأخذون بسببها حطاماً كثيرة من ضعفاء المؤمنين، واعلموا أيها المؤمنون أن مال المؤمن على المؤمن في غير العقود المتبرعة حرام { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً } معاملة ومعاوضة حاصلة { عَن تَرَاضٍ } مراضاة { مِّنْكُمْ } منبعثة عن اطمئنان نفوسكم عليها بلا اضطرار وغرر.
{ وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ } ولا تلقوها بأيديكم في المهالك التي جرت بين أرباب المعاملات من الربا والخداع والتغرير والتلبيس وغير ذلك من أنواع الحيل؛ حتى لا تنحطوا عن مرتبتكم الأصلية ومنزلتكم الحقيقية التي هي مرتبة العدالة؛ إذ لا خسران أعظم من الحرمان منها - أدركنا بلطفك يا خفي الألطاف - { إِنَّ ٱللَّهَ } المنبه عليكم بأمثال هذه التدبيرات الصادرة عن محض الحكمة والمصلحة { كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } [النساء: 29] مشفقاً عليكم، مريداً إيصالكم إلى ما خلقكم لأجله وأوجدكم لحصوله.
{ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ } أي: ما يحذر عنه من المهالك ويمقت نفسه بالعرض عليها لا عن جهل ساذج بل عن جهل مركب اعتقدها حقاً { عُدْوَاناً } مجاوزاً مائلاً عن الحق إصراراً { وَظُلْماً } خروجاً وميلاً عن طريق الشرع الموضح سبيل التوحيد { فَسَوْفَ } ننتقم عنه يوم الجزاء { نُصْلِيهِ } ندخله { نَاراً } حرماناً دائماً عن ساحة عز الحضور وطرداً سرمدياً عن فضاء السرور، بك نعتصم يا ذا القوة المتين { وَ } لا تغفلوا أيها المنهمكون للاقتحام في المهالك المتعلقة لأمر المعاش عن انتقام الله القادر القدير الغيور إياكم، ولا تعتقدوا عسره بالنسبة إليه؛ إذ { كَانَ ذٰلِكَ } الانتقام عن تلك الآثام { عَلَى ٱللَّهِ } الميسر لكل عسير { يَسِيراً } [النساء: 30] وإن استعسرتم في نفوسكم؛ إذ لا راد لإرادته ولا معقب لحكمه، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.