التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
١٠
سَيَقُولُ لَكَ ٱلْمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَٱسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً
١١
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ ٱلرَّسُولُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ ٱلسَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً
١٢
وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً
١٣
وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
١٤
سَيَقُولُ ٱلْمُخَلَّفُونَ إِذَا ٱنطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ ٱللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ ٱللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً
١٥
-الفتح

تفسير الجيلاني

ثم قال سبحانه بلسان الجمع على سبيل الإرشاد والتكميل: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ } يا أكمل الرسل، و يختارون متابعتك، ويستهدون من هدايتك وإرشادك { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ } الذي استخلفك عليهم وجعلك نائباً عن ذاته فيما بينهم، فعليهم ألاَّ ينقضوا العهد والبيعة التي عهدوا معك، بل وكيف يسع لهم النقض مع أن { يَدُ ٱللَّهِ } وقبضة قدرته الغالبة { فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ } ونقض البيعة والعهد مع رسوله { فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ } أي: ما يعود وبال نقضه إلا عليه { وَمَنْ أَوْفَىٰ } وحفظ { بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ } وهو معاهدتهم مع الرسول الله صلى الله عليه وسلم بخلافته صلى الله عليه وسلم عنه سبحانه { فَسَيُؤْتِيهِ } للوفاء { أَجْراً عَظِيماً } [الفتح: 10] هو الفوز بشرف اللقاء والتحقيق لدى المولى.
{ سَيَقُولُ لَكَ } يا أكمل الرسل على سبيل الاعتذار { ٱلْمُخَلَّفُونَ } أي: المنافقون الناقضون للعهود، المتخلفون عن الجهاد { مِنَ ٱلأَعْرَابِ } المجبولين على الكفر والنفاق: { شَغَلَتْنَآ } عن متابعتك ومشايعتك { أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا } أي: ليس لنا متعهد سوانا؛ لذلك حرمنا عن صبحتك وعن أجر الجهاد { فَٱسْتَغْفِرْ لَنَا } يا رسول الله عند الله حتى يغفر ما صدر عننا من التخلف، لا تبال يا أكمل الرسل بهم وباعتذارهم واستغفارهم هذا، فإنه من شدة شكميتهم وغيظهم وضعف عقيدتهم { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } تغريراً وتلبيساً { قُلْ } لهم على سبيل التفضيح والتبكيت: { فَمَن يَمْلِكُ } أي: يدفع ويمنع { لَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ } القادر المقتدر { شَيْئاً } من غضب الله إن { أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ } شيئاً من لطقه ورحمته إن { أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً } وبالجملة: لا راد لفضله، ولا معقب لحكه { بَلْ كَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } [الفتح: 11] يجازيكم على مقتضى خبرته.
{ بَلْ ظَنَنْتُمْ } أيها المتخلفون المثقلون { أَن لَّن يَنقَلِبَ } ويرجع { ٱلرَّسُولُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَداً } بل يستأصلهم العدو، فلن يرجع منهم أحد من سفرهم هذا، بل { وَزُيِّنَ } أي: حُبب وحُسِّن { ذَلِكَ } الاستئصال وعدم الرجوع، وتمكن { فِي قُلُوبِكُمْ وَ } قد { ظَنَنتُمْ } بزعمكم هذا { ظَنَّ ٱلسَّوْءِ } بالله ورسوله والمؤمنين { وَ } بالجملة: { كُنتُمْ } أزلاً { قَوْماً بُوراً } [الفتح: 12] هالكين في تيه الجهل والعناد.
{ وَ } بالجملة: { مَن لَّمْ يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } اي: لم يجمع بين الإيمان بالله وتصديق الرسول المستخلف منه سبحانه { فَإِنَّآ } بمقتضى قهرنا وجلالنا { أَعْتَدْنَا } وهيأنا { لِلْكَافِرِينَ } المصرين على الكفر والتكذيب { سَعِيراً } [الفتح: 13] ناراً مسعرة ملتهبة تحيط بهم؛ جزاء ما أوقدوا في نفوسهم نار الفتن والطغيان لأولياء الله.
{ وَ } كيف لا ينتقم عنهم سبحانه مع أنه { لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } وله التصرف فيهما بالاستقلال والاختيار { يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } فضلاً وإنعاماً { وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } عدلاً وانتقاماً { وَكَانَ ٱللَّهُ } المتصف بكمال اللطف والمرحمة { غَفُوراً } لمن تاب وآمن وعمل صالحاً { رَّحِيماً } [الفتح: 14] يقبل توبة التائبين، ويعفو عن زلاتهم.
ثم لما سمع المخلفون من الأعراب يوم الحديبية أن الله قد وعد المؤمنين فتح خيبر، وخص لهم الغنائم، قصدوا الخروج نحوها طامعين الغنائم؛ لذلك أخبر الله سبحانه حبيبه بقصدهم هذا، فقال: { سَيَقُولُ ٱلْمُخَلَّفُونَ } المذكورات وقت { إِذَا ٱنطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ } الموعودة لكم خاصة { لِتَأْخُذُوهَا } بفضل الله إياكم: { ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ } بغزوتكم هذه وننصركم، مع أنهم لا يقصدون الرفاقة والوفاق في نفوسهم ونياتهم، بل { يُرِيدُونَ } ويقصدون بقولهم هذا أن { يُبَدِّلُواْ } ويغيروا { كَلاَمَ ٱللَّهِ } الدال على تخصيص غنائم خيبر لمن حضر الحديبية بدل غنائم مكة.
{ قُل } لهم يا أكمل الرسل على وجه التأييد في النفي: { لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ } أي: مثلما سمعتم { قَالَ ٱللَّهُ } المطلع على ما في نفوسهم من النفاق والشقاق { مِن قَبْلُ } أي: قبل تهيئاتكم أيها المؤمنون للخروج إلى خيبر { فَسَيَقُولُونَ } بعدما سمعوا النهى على وجه التأييد في نفوسهم: ما أمرهم الله هذا { بَلْ تَحْسُدُونَنَا } على أخذ الغنيمة؛ أي: ما حملهم على هذا النهي المؤكد المؤبد إلا الحسد والشح { بَلْ } هم قوم جاهلون { كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ } ولا يفهمون مراد الله العليم الحكيم عن منعهم هذا { إِلاَّ قَلِيلاً } [الفتح: 15] منهم، وهم المصدقون بالله ورسوله في سرائرهم ونجواهم.