التفاسير

< >
عرض

بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
١
ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٢
ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ
٣
مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ
٤
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
٥
ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ
٦
صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ
٧
-الفاتحة

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

قال الشيخ -رحمه الله ونفعنا به وبعلمه في الدارين - سُمِّيت الفاتحة لمعنيين:
أحدهما: أن الله تعالى بها فتح أبواب خزائن الحقائق التي ما فتح أبوابها لأحد من العالمين على حبيبه ونبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الكتاب بعد أن أودع فيه حقائق جوامع الكلام التي أنزلها على جميع أنبيائه ورسله - عليهم السلام - يدل على هذا المعنى قوله تعالى:
{ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مُّبِينٍ } [الأنعام: 59].
والثاني: أنها هي فاتحة فتوحات هذا الكتاب بأن الله تعالى ضمَّن فيها: حقائق مراتب الربوبية ومراتب العبودية، ومراتب الأمور الدنيوية ومراتب الأمور الأخروية التي هذا الكتاب مشتمل عليها سنجمع دقائق مبانيها.
1- فمراتب الربوبية عشرة:
أولها: مرتبة اللاسم؛ بأن له تعالى أسماء.
والثاني: الذات.
والثالث: الصفات.
فهذه المراتب الثلاثة حاصلة في { بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } [الفاتحة: 1].
والرابع: الثناء.
والخامس: الشكر.
وهما حاصلان في { ٱلْحَمْدُ } [الفاتحة: 1].
والسادس: الألوهية بمعنى الخالقية، وهي حاصلة في { للَّهِ } [الفاتحة: 1].
والسابع: الربوبية بالوحدانية في الخالقية، وهي حاصلة في { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الفاتحة: 1].
والثامن: الملكية بالمالكية، وهي حاصلة في { مَـٰلِكِ } [الفاتحة: 1].
والتاسع: المعبودية بالألوهية والوحدانية، وهي حاصلة في { يَوْمِ ٱلدِّينِ } [الفاتحة: 1].
والعاشر الهداية بالحق والإنعام من الأزل إلى الأبد، وهي حاصلة في { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة: 1].
2- وكذلك في مرتبة العبودية عشرة:
أولها: معرفة الله تعالى بهذه المراتب.
والثاني: الإقرار بالربوبية لله تعالى وبعبودية نفسه له.
والثالث: معرفة النفس وخلوها عن مراتب الربوبية.
والرابع: العلم باحتياجه إلى الله تعالى واستغناء الله تعالى عنه.
والخامس: عبادة الله تعالى على ما هو أهله بأمره.
والسادس: الاستعانة بالله تعالى في عبوديته بالتوفيق والقدرة والتعليم والإخلاص.
والسابع: الدعاء بالخضوع والخشوع والشوق والمحبة، فإنه خُلق لهذا كما قال تعالى:
{ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ } [الفرقان: 77] وقال تعالى: { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة: 54].
والثامن: الطلب لوجدان الله تعالى وصفاته ونعمه، وهو المقصد الأعلى والمنية القصوى.
والتاسع: الاستهداء عنه ليُهتدَى به وينعم عليه بإرشاده طريق الهداية.
والعاشر: الاستدعاء منه بأن ينعم عليه، ويديم نعمته عليه، ولا يغضب فيرده إلى الضلالة والغواية.
وهذه المراتب كلها حاصلة في { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } إلى آخر السورة فافهم جدّاً.
3- ومراتب الأمور الدنيوية أربعة:
الملك والملك والتصرف فيهما بالملكية والمالكية، وفاتحة الكتاب مشتملة على هذه المراتب كلها كما أشرنا إلى طرف منها، وسنبينها في تفسيرها إن شاء الله تعالى، ولهذا المعنى أيضاً سُمِّيت أم الكتاب؛ لأن أم الكتاب في الحقيقة مصدر حقائق كل دين، وكتاب ومنشأ دقائق كل حكم وخطاب، كقوله:
{ يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَابِ } [الرعد: 39].
وأما الحكمة في أن الله تعالى جعل افتتاح كتابه بحرف الباء واختياره على سائر الحروف لا سيما على الألف بأنه أسقط الألف من الـ "اسم" وأثبت مكانه الباء، وقال: { بِسمِ } فعشرة معانٍ:
أحدها: إن في الألف ترفعاً وتكبراً وتطاولاً، وفي الباء انكساراً وتواضعاً وتساقطاً، فالألف لما تكبرت وضعها الله تعالى والباء لما تواضعت رفعها الله تعالى كما ورد في الحديث:
"من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله" وقد ورد أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام أن يأتي الجبل ليسمعه كلامه، فتطاول كل جبل طمعاً أن يكون محلاً لموسى عليه السلام، وتصاغر طور سيناء في نفسه "متى استحق أن أكون محلاً لقدم موسى عليه السلام في وقت المناجاة؟" فأوحى الله تعالى إلى موسى: "أن ائتِ ذلك الجبل المتواضع الذي ليس يرى لنفسه استحقاقاً" فكذلك حال الباء مع الألف.
وثانيها: إن الباء مخصوصة بالإلصاق، وتصل كل حرف بخلاف أكثر الحروف خصوصاً الألف؛ لأن الألف مخصوصة بالقطع وتكون منقطعة عن الحروف كلها، فلما كانت الباء واصلة للرحم في الحروف وصلها الله تعالى، ولما كانت الألف قاطعة الرحم عن الحروف قطع الله معها كما روى عبد الله بن عوف: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيما يحكي عن ربه - جل ثناؤه -:
"أنا الله وأنا الرحمن خلقت الرحم شققت لها اسماً من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته" حديث صحيح.
وثالثها: إن الباء مكسورة أبداً فلما كانت فيها كسرة وانكسار في الصورة والمعنى وجدت شرب العندية من الله تعالى واسمه دون الألف كما قال تعالى:
"انا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي" .
ورابعها: إن في الباء وإن كانت في الظاهر تساقط وتكسر، ولكن في الحقيقة رفعة درجة وعلو همته وهي من صفات المصدقين، وفي الألف ضده. أما رفعه درجتها فبأنها أعطيت نقطة وليست للألف هذه الدرجة، وأما علو الهمة فإنه لما عُرضت عليه النقطة ما قبلت إلا واحداً بسكون حاله كحال موحدٍ لا يقبل إلا واحداً، وعابدٍ لا يعبدُ إلا معبوداً واحداً، وقاصدٍ لا يقصدُ مقصوداً واحداً ومحبِّ لا يحبُّ إلا محبوباً واحداً.
وخامسها: إن للباء صدقاً في طلب قُربة الحق ونيل المقصود الحقيقي لا يوجد في غيرها من الحروف وذلك أنها لما وجدت درجة حصول النقطة وبلغت هذه المرتبة وضعتها تحت قدمها؛ لصدقها في طلب المقصود الحقيق والمطلوب الأصلي، وما تفاخرت بها بل أعرضت عنها حتى بلغت مقصدها الأقصى ومقصودها الأعلى، فالباء مخصوصة من سائر الحروف بوضع النقطة تحتها ولا تناقضها الجيم وإنا كانت تحتها نقطة واحدة؛ لأن نقطة الجيم في وضع الحروف ليست تحتها بل هي وسطها وكذلك الباء، وإنما موضع النقطة تحتها عند اتصالهما بحرف آخر لئلا تشبها بالخاء والثاء بخلاف الباء فإن نقطتهما موضوعة تحتها وإن كانت مفردة غير متصلة بحرف آخر.
وسادسها: إن الألف حرف العلة وهو معلول لا يتحمل الحركة، والباء حرف صحيح غير معلول يتحمل الحركة وحالهما كما أن الله عرض الأمانة على أهل السماوات والأرض من الملائكة وغيرهم
{ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ } [الأحزاب: 72] فأمر الملائكة بالسجود له فأبى إبليس واستكبر فلعنه الله وأسقطه عن قربته وطرده عن جواره وحضرته، واصطفى آدم من بريته واجتباه لقربته وزاد علو درجته وهداه إلى محبته ومعرفته.
وسابعها: إن الباء حرف تام متبوع في المعنى وإن كان ناقصاً منكسراً تابعاً في الصورة، والألف حرف ناقص تابع في المعنى وإن كان تاماً متبوعاً في الصورة ألا ترى أنك إذا نظرت إلى صورة وضع الحروف وجدت الألف مقدماً على الباء متبوعاً له، وإذا قلت الباء وجدت الألف تابعاً وإذا قلت الألف لم تجد للباء تبعية فالابتداء بالمتبوع التام في المعنى والناقص المنكسر التابع في الصورة أولى من الابتداء بمن هو على مثل هذا.
وثامنها: إن الباء حرف عامل يعمل ويتصرف في غيره، فظهر لها من هذا الوجه قدر وقدرة فصلحت للابتداء، والألف ليس بعامل ولا متصرف في غيره فليس له هذا القدر والقدرة، فما صلح للابتداء والاقتداء.
وتاسعها: إن الباء حرف في صفاته مكمل لغيره، فكماله في صفاء نفسه بأنه للإصاق والاستعانة والإضافة، وفيه تواضع إذا لم تقبل من الحركات إلا الكسرة، وله علو وقدر في تحميل الغير بأن يخفض الاسم التابع له ويجعله مكسور الصفات نفسه بحيث كل اسم يجيء خلف الاسم التابع له يكون مسكوراً بالإضافة، والذي يجيء بعده يكون مكسور بالصفة إلى غير النهاية كما دخل على الاسم، وجعل ميم بسم مكسورة، وجعل الهاء من الله مكسورة بالإضافة، والنون من الرحمن مكسورة بالصفة، والميم من الرحيم أيضاً مكسورة بالصفة لو شئت هلم جرَّا، فالكامل المكتمل أولى بالإمامة والتقدم من الألف الذي هو ناقص معلوم في نفسه منقص معلل لغيره، فإنه لو دخل في الفعل الماضي يجعله مهموز الفاء معتل العين ناقص اللام.
وعاشرها: إن الباء حرف شفوي تفتح الشفة به ما لم تفتح بغيره من الحروف؛ لأن بالميم وإن كان شفوياً لا تفتح الشفة به كما تفتح بالباء حسّاً، وكان أول انفتاح فم الذرة للإنسانية في عهد
{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [الأعراف: 172] بالباء في جواب { بَلَىٰ } فلما كان الباء أول حرف نطق به الإنسان وفتح به فمه، وكان مخوصاً بهذه المعاني اقتضت الحكمة الإلهية اختيارها من سائر الحروف، فاختيارها ورفع قدرها وإعلاء شأنها وأظهر برهانها وأعز سلطانها وجعلها مفتتح كتابه ومبتدأ كلامه وخطابه، وأعطاه رفعة الألف وقامته وتقدمه على الحروف وإمامته فحذف الألف في { بِسمِ ٱلله } وطوَّل باؤه لإظهار تعظيمها وتفخيمها؛ إذ منها مرتبة الألف وأثبتها مكانه وقرنها باسم ذاته وصفاته، وجعلها معدن إشاراته ومنبع كراماته مع بريته.
كما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: الباء بره بأوليائه، والسين سره مع أصفيائه، والميم منته على أهل ولائه، وأخبرنا المؤيد بن محمد الطوسي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن عيسى ابن مريم عليه السلام أرسلته أمه إلى الكتاب يتعلم فقال له المعلم: قل: { بِسمِ ٱلله }، فقال عيسى: وما { بِسمِ ٱلله } فقال: ما أدري! فقال: الباء بها الله، والسين سناؤه، والميم منته" .
وأخبرنا الثعلبي ثنا أبو القاسم بن حسين بن محمد يقول: سمعت أبا بكر محمد بن عمر الوراق يقول في { بِسمِ ٱلله }: إنها روضة من رياض الجنة لكل حرف منها تفسير على حدة:
* الباء على ستة أوجه:
"بارئ" خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:
{ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة: 284].
"بصير"، "باسط" رزق خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:
{ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ } [الرحمن: 27].
"باعث" الخلق عبد الموت للثواب والعقاب، من العرش إلى الثرى، بيانه:
{ وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي ٱلْقُبُورِ } [الحج: 7].
"بار" بالمؤمنين من العرش إلى الثرى بيانه:
{ إِنَّهُ هُوَ ٱلْبَرُّ ٱلرَّحِيمُ } [الطور: 28].
* والسين على خمسة أوجه:
"سميع" لأصوات خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:
{ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ } [الزخرف: 80].
"سيد" قد انتهى سؤدده من العرش إلى الثرى، بيانه:
{ ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ } [الإخلاص: 2].
"سريع" الحساب مع خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:
{ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [البقرة: 202].
"سلام" على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:
{ ٱلسَّلاَمُ ٱلْمُؤْمِنُ } [الحشر: 23].
"ستار" ذنوب عباده من العرش إلى الثرى، بيانه:
{ غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ } [غافر: 3].
* والميم على اثنى عشر وجهاً:
"ملك" الحق من العرش إلى الثرى، بيانه:
{ ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ } [الحشر: 23].
"مالك" خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:
{ قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ } [آل عمران: 26].
"منان" على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:
{ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ } [الحجرات: 17].
"مجيد" على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:
{ ذُو ٱلْعَرْشِ ٱلْمَجِيدُ } [البروج: 15].
"مؤمن" أمَّن خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:
{ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [قريش: 4].
"مهيمن" اطلع على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:
{ ٱلْمُؤْمِنُ ٱلْمُهَيْمِنُ } [الحشر: 23].
"مقتدر" على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:
{ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً } [الكهف: 45].
"مقيت" على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:
{ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً } [النساء: 85].
"مكرم" أوليائه من العرش إلى الثرى، بيانه:
{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ } [الإسراء: 70].
"منعم" على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:
{ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } [لقمان: 20].
"مِفْضَلُ" عما خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:
{ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ } [البقرة: 243].
"مصور" خلقه من العرش الى الثرى، بيانه:
{ ٱلْخَالِقُ ٱلْبَارِىءُ ٱلْمُصَوِّرُ } [الحشر: 24].
قال الشيخ المحقق مصنف الكتابرحمه الله تعالى: الباء بلاؤه لأنبيائه وأحبائه، والسين سلامه لأوليائه وأصفيائه، والميم معروفة مع أهل ولائه في ابتلائه ومعرفة مبتلاه بالابتلاء، وإنه لأوليائه وأصفيائه ومنته على أهل سلامته بالآئه ونعمائه وسلامة القلب وصفائه.
قالرحمه الله تعالى: قيل: ما المناسبة في حمل هذه الحروف على هذه المعاني؟
قلنا: إن مناسبة حمل الباء على البلاء وفي ابتداء كلامه وابتداء خطابه أن الإنسان في أصل الجبلة وبدء الخلقة خلق مجبولاً على الابتلاء، قال الله تعالى:
{ إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ } [الإنسان: 2] إنما بنى أمر خلقته على الابتلاء؛ لأنه خلق للمحبة والولاء، كما قال تعالى: { فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة: 54]، والمحبة مظنة الابتلاء كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أحب الله عبداً ابتلاه وإذا أحبه حباً شديداً اقتناه فإن صبر ورضي اجتباه، قيل: يا رسول الله وما اقتناه؟ قال: لا يبقى له مالاً وولداً" .
وإن مناسبة حمل السين على السلامة في المرتبة الثانية من افتتاح الكتاب، فملعنيين:
أحدهما: أن السلامة مرتبة لأهل البلاء؛ لأن البلاء على نوعين: بلاء المحبة وبلاء النعمة، فبلاء المحبة على نوعين: بلاء المحبة وبلاء المحنة، وبلا النعمة على نوعين: بلاء الرحمة وبلاء النقمة، فأما بلاء المحبة فمخصوص بالأنبياء والأولياء كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن البلاء موكل بالأنبياء والأولياء ثم بالأمثل فالأمثل" ، فمنهم من يختص ببلاء المحنة كما كان حال أيوب عليه السلام، ومنهم من يختص بلاء النعمة كما كان حال سليمان عليه السلام واعلم أن الطريق إلى الله تعالى جادة المحنة أقرب من جادة المنحة؛ لأن غبار بلاء المحنة بناء خُلَّص الأنبياء والأحباء أبرز، فَنزه النبوة والمحنة عن تدنس غش معدن الإنسانية وبموت الحسية الحيوانية.
كما جاء: البلاء للولاء كاللهب للذهب، فأهل المحنة مجذوبون بجذبة البلاء واصلون إلى المبلي غير منقطعين في رتبة البلاء بالغون إلى كعبة وصال المحبوب، ألا ترى أن أيوب عليه السلام كيف وصل بجذبة
{ مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ } [الأنبياء: 83]، إلى مشاهدة كمال { وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ } [الأنبياء: 83]، وذلك لأنه تمسك بيد الصبر على جذبة الضر فسمه الضر إلى الضار، فأنسته لذة مشاهدة الضار عن شهود ألم الضر، فأرى أن الضر كان جذبة فوصله إلى الضار فعرفها أنها رحمة في صورة بلاء المحنة رحمه بها محبوبه وخلصه من حبس وجوده، فقال: { مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ } [الأنبياء: 83]، أي أفنيتني عني بضاريتك { وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ } [الأنبياء: 83]، والواو فيه واو الحال أي: في هذا الحال أرحم علي من جميع الراحمين؛ لأن رحمة الرحماء على المرحومين بالنعمة والمنحة في الظاهر لدفع الفقر والمرض وذلك أيضاً بلاء؛ بلاء النعمة لبعضهم رحمة وهم أهل الوفاء، ولبعضهم نقمة وهم أهل الجفاء، كما قال تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } [الكهف: 7].
فأهل الوفاء: أوفوا بما عهدوا الله على ترك الشهوات النفسانية والزينة الدنيوية حتى اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم
{ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ } [التوبة: 111].
وأهل الجفاء: نقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا استعدادهم بالركون إلى زينة الدنيا، واتباعهم الهوى أولئك هم الخاسرون؛ فصارت عليهم النعمة في الظاهر نقمة في الحقيقة، فالنعمة توجب الإعراض، كما قال تعالى:
{ وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ } [الإسراء: 83].
ومس الضر يوجب الإقبال إلى الله تعالى؛ لقوله تعالى:
{ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ } [فصلت: 51] فأنت رحمة علي بدفع النعمة والصحة على أنها مظنة الإعراض، وأفنيتني بك عني فلما جاوز الضر حده آل إلى ضده، فما أبقى الضرب مني شيئاً، وما بقي الضر كالنار إذ لم تبق من الحطب شيئاً لا تبقى النار، فإذا لم يبقى الضر ما بقي إلا الرحمة، فبنظر الرحمة نظرت إليك فرأيتك رحمة أرحم الراحمين، فإذا تحققت هذا فاعلم أن المرتبة الثانية من بلاء المحنة لأهل السلامة كما كان حال أيوب وإبراهيم ويونس وغيرهم من الأنبياء - عليهم السلام - في المرتبة الثانية السلامة.
وأما المعنى الثاني: في حمل السين على السلامة في المرتبة الثانية فهو أنا ذكرنا أن الباء في افتتاح الكتب إشارة إلى البلاء لأهل الولاء، وقررنا أن الإنسان لا يخلو من البلاء بحال، وأثبتنا أن البلاء على نوعين بلاء المحبة وبلاء النعمة، فبلاء النعمة ما يكون مع سلامة الدين والدنيا لأهلهما، فالسين بعد باء البلاء إشارة إلى أهل الصفاء كما ذكر. فإن قيل: ما الفرق بين بلاء المحنة وبلاء النعمة التي هي الرحمة وكلامها السلامة في الدنيا والآخرة؟ قلنا: الفرق بينهما من وجهين:
أحدهما: أن بلاء المنحة وإن كانت السلامة ولكن يخلو بها صاحبها من المحنة.
إمَّا في ابتداء أمره: كما كان حال إسماعيل ويوسف - عليهما السلام - ابتلاهما الله تعالى بالمحبة في حال عبادتهما فخلصهما منها بعد ذلك وأعطاهما النبوة والملك كما حكى الله تعالى عن يوسف عليه السلام:
{ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ ٱلْمُلْكِ } [يوسف: 101].
أمَّا في أثناء أحواله: كما كان لإبراهيم عليه السلام ابتلاه الله تعالى بذبح ولده ورميه في المنجنيق إلى نار نمرود حتى خلصه الله من ذبح الولد بعد التسليم عند الامتحان كقوله تعالى:
{ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } [الصافات: 103]، وكقوله: { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } [الصافات: 107]، وخلصه عن النار بقوله: { قُلْنَا يٰنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَٰماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ } [الأنبياء: 69].
وأما في آخر عهده: كما كان حال زكريا ويحيى وجرجيس - عليهم السلام - كانت فتنتهم في آخر عمرهم، ولهذا كان بلاء المحنة وبلاء المنحة مخصوصين بالأنبياء والأحباء؛ لأنهما فرع بلاء المحبة وهم مخصوصون بالمحبة وأهل المحبة لا ينفكون عن المحنة والمنحة، ولا يخلو أهل المنحة في بعض الأحوال من المحنة عن المنحة وإن كان الغالب على أحوالهم المحنة أو المنحة بخلاف أهل بلاء النعمة، فإنه يمكن أهل بلاء الرحمة منهم أن يستديم نعمته في سلامة الدين والدنيا، ولهذا أثبتناهم في المرتبة الثانية بإشارة السين السلامة لهم وهم الأولياء والأصفياء مع أنه يمكن أن يصيب بعضهم المصائب والمحن نادراً.
الفرق الثاني: أن سلامة أهل بلاء المنحة غير سلامة بلاء أهل بلاء النعمة، وإن كانت سلامة بلاء النعمة داخلة في سلامة بلاء المنحة وهما شريكان في اسم السلامة لا في المعنى؛ لأن سلامة بلاء النعمة راجعة إلى البدن والمال والأولاد والأقرباء والأحباء في الدنيا والآخرة راجعة إلى عبور الصراط والنجاة من النار والدخول في دار السلامة كما قال تعالى:
{ ٱدْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ } [الحجر: 46].
وسلامة أهل بلاء المنحة وهم أهل المحبة من الأنبياء والأولياء في العبور من النعمة إلى المنعم ومن البلاء إلى المبلي ومن دار السلام كما قال تعالى في شرح عبورهم عن الجنة إلى مليك الجنة:
{ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } [القمر: 54-55] أي: في عبورهم في جنات ونهر إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر، والإشارة في قوله تعالى: { قُلْنَا يٰنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَٰماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ } [الأنبياء: 69] لهذه السلامة مودع في ترك سلامة أهل بلاء النعمة، وإنما قوله تعالى للنار: { كُونِي بَرْداً وَسَلَٰماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ } [الأنبياء: 69] كان بعد أن أُلقي إبراهيم في النار لتخليص إبريز الخلة عن دنس التفات لغير الخليل، وإن كان إبراهيم عليه السلام في بدء مقام الخلقة نظر إلى غير خليله بنظر العداوة، وقال: { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } [الشعراء: 77]، وأعرض عن الأغيار وقال: { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [الأنعام: 79] وسعى على قدم العبودية إلى حضرة الربوبية: { وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الصافات: 99].
واعلم أن الطريق إليه بغير هدايته منسد، فأحال بعد إقامته شروط العبودية هداية الربوبية عليه، قال: { سَيَهْدِينِ } ليهديه الله إليه بقدم الوصال كما هداه بنظر التوحيد متى رأى القمر بازغاً قال:
{ هَـٰذَا رَبِّي } [الأنعام: 76]، إلى أن قال: { لاۤ أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ } [الأنعام: 76]، { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ } [الأنعام: 79] لأن الهداية بالنظر والتوحيد هداية أهل البداية، والبداية بالقدم والوصول إلى الوحدة هداية أهل النهاية، وبين النظر والقدم مسالك ومهالك كثيرة وقد انقطع فيها خلق عظيم من العلماء المتقين، وأعزة السالكين وهلك فيها جمهور الحكماء المتفلسفين اللهم إلا عبادك منهم المخلصين المجذوبين بجذبات المحبة من الأنبياء والمرسلين وأوليائك المحفوظين على صراط المستقيم والدين القويم كما خلصت بفضلك ورحمتك خليلك عليه السلام حين ابتليته بالإلقاء بالنار ليتخلص بالكلية من آفة التفاته كما تخلص من آفة الالتفات إلى المال والولد فلما ألقي في النار أدركته العناية الأزلية، وخلصت إبريز خلقته عن آفة الالتفات إلى غير خليله من نفسه ومن الوسائط كلها حتى جبريل حين تلقاه في الهواء ليمتحن إبريز خلته: "بمحك هل لك من حاجة"، فيرى هل هو صاف خالص أم فيه بقية روحانية بعد بذل الجسم والروح تتعلق بالمناسبة الروحانية بجبريل عليه السلام فاشتعلت نار الخلة بكبريت الغيرة وأحرقت بقيته الغيرية، فاشتعلت منها شعلة: "أما إليك فلا" فرجع جبريل عليه السلام بخفي حنين، فعبر عن مقاطع الوسائط بدلالية نور الخلة في خفاء العناية وصل الخليل إلى الجليل بالسلامة، فالنار كانت واسطة تخليصه وتمحيصه بترك سلامة أهل بلاء النعمة لنيل سلامة أهل بلاء المنحة وهي الوصول إلى المليك بالسلام.
وكذلك الفرق بين بلاء أهل المنحة وبين بلاء أهل النعمة أن بلاء المحنة يكون الامتحان لأحباء في دار الدنيا كما كان محنة أيوب عليه السلام فلا يدفع أنها تنقضي في دار الدنيا صورة ومعنى، وإما تنقضي في الدنيا بالمعنى وبالموت صورة. بخلاف بلاء النعمة فإنه إما يدفع في الدنيا والآخرة صورة ومعنى وإما أن يكون في الدنيا بالمعنى لا بالصورة بأن يكون في التنعم ويكون في الآخرة بالصورة والمعنى.
وأما مناسبة حمل الميم في المرتبة الثالثة من حروف بسم على معروفة مع أهل بلائه وولائه في أثناء ابتلائه، وعلى منته على أهل سلامة في الابتلاء بآلائه ونعمائه فظاهر، فإنه لو لم يكن معروفة ومع أهل بلائه بنعمة الصبر لزال قدمهم عن جادة العبودية ورؤية رحمة الربوبية في عين البلاء وانقطع نظريهم بحجاب البلاء عن الجمع كما كان في حق الأكثرين من المخذولين.
قال تعالى:
{ وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَهَانَنِ } [الفجر: 16] فرؤية الإهانة في البلاء من الخذلان، والصبر ليس من شأن الإنسان لأن الإنسان خلق من عجل، والصبر من الله تعالى كما قال تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: { وَٱصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ } [النحل: 127] فالبلاء لأهل الولاء المنحة نعمة الصبر كقوله تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ } [البقرة: 155]، إلى قوله: { وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ } [البقرة: 155]، أي: بشر بأن هذا البلاء ليس للإهانة كما كان في حق أهل الخذلان بل للإعانة على نيل درجة الصبر ليستحقوا به الصلاة والرحمة والهداية من الله تعالى، وإن أيوب عليه السلام وجد مرتبة الصابرين ونعم العبد بمعروف الصبر من الله تعالى، كما قال تعالى: { إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ ٱلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ص: 44]، وكذلك لو لم تكن منته على أهل السلامة في بلاء النعمة المنحة الشكر ورؤية النعم من المنعم لزالت قدمهم عن الجادة كما كان حال قارون وفرعون؛ انقطع نظريهم لحجاب البلاء في النعمة عن المنعم قال قارون: { قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ } [القصص: 78].
وقال فرعون:
{ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيۤ } [الزخرف: 51]، وقال: { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } [النازعات: 24]، وهذه الآفة مذكورة في جبلة كل إنسان كما قال تعالى: { إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [العلق: 6-7]، وإنما تخلص من هذه الورطة من تخلص بمنته عليه في عطية نعمة الصبر والشكر، فبقوه الصبر لا ينفق نعمة في معصية، وبقوة الشكر ينفقها في سبيل الله تعالى ويستعين بهما على طاعته ليصفو ويسلم قلبه عن كدورات الطغيان المنتهى عن الاستغناء، ويتنور بنور الشكر والصبر، فيرى بصر بصيرته بذلك النور نعمة الشكر من الشكور ونعمة الصبر من الصبور وهو الله تعالى، فبقدر الصبر والشكر يصل السالك إلى الصبر والشكور كما قيل: خطوتان وقد وصلت، وإن سليمان عليه السلام نال مرتبة العبدية بامتنان نعمة الشكر ودعوة { وَهَبْ لِي مُلْكاً } [ص: 35] كانت لاستكمال نعمة الشكر، وإنما أيوب وسليمان - عليهما السلام - اشتركا ي نيل مقام نعم العبد لأن كل منهما كان مخصوصاً بالاتصاف بصفة من صفات الله وهي الصبور والشكور، فلمَّا اشتركا في الاتصاف بصفات الله تعالى اشتركا في مقام نعم العبدية، والله أعلم.
ثم اعلم أن في { بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } أربع مراتب: الاسم والذات وصفة الجلال وصفة الجمال، وهذه هي مراتب الموجودات كلها فإنها أربعة أقسام: الألوهية والروحانية والجسمانية والحيوانيات، وهي كل ذي روح، ففي الباء في أول هذه المراتب الأربع إشارة إلى أن وجود هذه العوالم لي وليس لغيري وجود حقيقي إلا بالاسم. فللعالم، أعني ما سوى الله تعالى، بالاسم والمجاز وجود لا بالمعنى والحقيقة، وإلى هذا إشارة بعضهم بقوله: "ما نظرت في شيء إلا ورأيت الله فيه"، وأوضح من هذا قول بعضهم: "ما نظرت في شيء إلا ورأيت الله قبله".
وصرَّح النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
"لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو الله" حديث متفق على صحته، فتحقق { بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } أن وجودي بذاتي وهو الله وصفاتي كلها - التي هي إمَّا من قبيل الجلال أو من قبيل الجمال -، فبذاتي قائمة وما سواي وهو العالم اسم موجود بإيجادي وقائم بقيوميتي { فَسُبْحَانَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [يس: 83]. وفيه أخرى وهي: أن الخلائق محجوبون عن الله تعالى بحجاب أسماء أنفسهم وحجاب أسماء ما سواهم من العالم، وقد تصوروا لكل اسم مسمى فوقعوا في تيه الشرك والتفرقة، وتاهوا في بيداء الضلالة وزلت قدمهم عن الصراط المستقيم وجادة التوحيد والوحدة والوحدانية، فلمَّا عبروا بقدم الصدق في المتابعة عن حجب الأسماء وقطعوا مفاوزها بتعلم { وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا } [البقرة: 31] الذي كان آدم مخصوصاً به، وعلموا أن لا طائل تحتها عرفوا أن هذه الأسماء على الأشياء كلها { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } [النجم: 23].
ولكشف هذا القناع كان دعاء: النبي صلى الله عليه وسلم
"اللهم أرنا الأشياء كما هي" لأت كل شيء بحسب نظر المظاهر أسماء بإزاء معنى يلائمه، كما سمي آدم لأنه من آديم الأرض فهذا الاسم يلائم لآدم عليه السلام في الظاهر، وله في الحقيقة اسم آخر بإزاء اسم حقيقي، فلما أودع الله تعالى فيه ما يلائم لتلك الحقيقة وذلك قوله تعالى: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة: 30] فسماه بمناسبة المعنى الحقيقي المودع: خليفة.
فكذلك لكل شيء في الظاهر اسم وفي الحقيقة اسم آخر والآدمي مخصوص بتعليم الأسماء كلها دون الملك وغيره، فلما خلصوا عن حبس حمل الأسماء ورفعوا حجبها وصلوا إلى الله تعالى، وإذا وصلوا إلى الله تعالى منعوا من جلاله وهو الرحمن وتمتعوا من جماله وهو الرحيم في تقدم الأسماء، وأما تقدم الاسم في "بسم" فلوجوه:
منها ما قيل: للتبرك والتيمن.
ومنها ما قيل: للفرق بين التيمن واليمين.
ومنها ما قلت: أن له الأسماء الحسنى، وبحسب كل اسم له صفة فإطلاق اسم المطلق شامل لكل اسم من الأسماء وأصلها من الصفات، وليس لله صفة إلا يدل عليها اسم، فعلى هذا وقع الابتداء بما يدل على كل اسم وصفة والباقية للتضمين أي: ابتدائي بأسمائي وصفاتي كلها وأنا الرحمن الرحيم الذي لي تكونت الكائنات وظهر الموجودات إذ بي أسباب معايش أنواع المخلوقات عامة بالرحمانية وأرتب درجات معاد أهل الكرامات والقربات خاصاً بالرحمة.
ومنها: أن تقدم الاسم لتزكية النفوس وتصفية القلوب عن كل اسم ورسم، ولتحلية الأسرار بأنوار الله تعالى لأن التحلية لا تكون إلا بعد التزكية؛ لقوله تعالى:
{ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ * وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ } [الأعلى: 14-15] أي: يزكي نفسه بذكر اسم ربه ويجلي روحه بتحلية الصلاة والمناجاة مع ربه عز وجل.
ومنها: أن المحب لما تعلم اسم المحبوب نسي نفسه، كما كان حال مجنون قيل: ما اسمك؟ قال: ليلى، وكذلك كان عصيان آدم نسيانه لما علمه الرب الأسماء كلها لقوله تالى:
{ وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا } [البقرة: 31]، نسي اسم نفسه بأنه خليفة الله تعالى، واسم إبليس بأنه عدو له، واسم الشجرة وأنه منهي عنها فاعتذر الله تعالى، فقال: { فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [طه: 115]، وكذلك حال ابن منصور لتحقق في نظره أن كل شيء ما خلا الله باطل، فعلم أن الله هو الحق فنسي عند سطوة تحقق اسم الحق نسي نفسه، فلما جاء الحق زهق الباطل، قيل له: من أنت؟ قال: أنا الحق! فقدم الاسم هاهنا ينسي العبد عند تحقق اسمه اسم ما سواه، فيتجلى له الله تعالى حقيقة لا اسماً ولا اسماً، كما قال تعالى: { وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } [الكهف: 24] أي: إذا نسيت غير الرب.
وأما الإشارة إلى تحقيق تفسير كلمة { ٱلله } قلنا كلمة الله مبنية على أربعة أحرف: الألف ولامين وهاء، وحرفان منها متفقان في الجنسية متصلان، وحرفان مختلفان مفترقان، والمتفقان أحدهما متحرك والثاني ساكن لمجموعها في الصورة والمعنى دال على الإشارة إلى صفتيه ونعمتيه، أما صفتاه فهما الظاهر والباطن، وأما نعمتاه فنعمة ظاهرة ونعمة باطنة، وأما صفتاه الظاهر والباطن وهما مختلفان فيدل عليهما حرفان مختلفان الألف والهاء؛ لأن الألف للإظهار والهاء للإضمار، كقولك: لست، تدل على النفي، فإذا دخلت الألف فيه وتقول: ألست، تدل على الإظهار والإثبات وإذا أدخلت الهاء في آخر الكلمة يكون للإظمار، كقولك: داره، لصاحب الدار مضمر ليس بظاهر، فالألف إشارة إلى صفة الظاهر، والهاء إ شارة إلى صفة الباطن، والحرفان المتفقان وهما اللامان يدلان على نعمتيه فإنهما متفقان في الجنسية، كما قال تعالى:
{ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } [لقمان: 20]، هذا في الصورة.
وأما في المعنى إلى نعمه واحدة الآن؛ أي: نعمتان آلائه نعمتاه فالتشديد فيه للتفخيم، فالإشارة في هذه اللفظة إلى أن الله تعالى مع عباده نعمتين: نعمة الظاهر ونعمة الباطن، فاللنعمة الظاهرة معنيان، أحدهما: نعمة إظهارك بالإيجاد بعدما كنت مخفياً في العدم، والثاني: نعمة إلباس صورتك في الظاهر بعدما كنت مخفياً في عالم الأرواح كما قال
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } [الأعراف: 111] أي: خلقناكم في عالم الأرواح ثم صروناكم في عالم الأجسام.
وكذلك للنعمة الباطنة معنيان.
أحدهما: نعمة إبقائك في الوجود.
والثاني: نعمة إعطائك الروح الشريف، فإن عظمة الألوهية وعزة الوحدانية كانت مقتضية للتفرد بالوجود ونفي الشركة مطلقاً إلا أن الرحمة الواسعة كانت مقتضية الإيجاد، فسبقت رحمته غضبه بإيجاد الخلق بالصفة الرحمانية التي هي عامة في حق جميع الموجودات بالإيجاد وبإبقائها بالصفة الرحيمية، فالإشارة في تحقيق حق كلمة الله أنه أربعة أحرف وبحسب كل حرف له نعمة، فلو لم تكن نعمة الأربعة المناسبة للحروف لما كان للموجودات وجود أصلاً، أمَّا مناسبة النعم الأربعة مع الحروف الأربعة فهي ما بينا أن النعمة نعمتان: نعمة ظاهرة ونعمة باطنة، وللنعمة الظاهرة معنيان، وللنعمة الباطنة معنيان كما مرَّ ذكرها، وبينا أن الحروف على نوعين متفقان ومختلفان، واحد منهما متحرك والثاني ساكن، فالمتحرك من أحد حرفيها مناسب لنعمه الظاهرة من المعنيين المذكورين، والساكن مناسب لنعمة الباطنة، ولم لم يكن بين ذاته وبين ذوات المكاشفين بصفات جماله وجلاله حجب الأثواب الرحمانية والرحيمية واسطة لاحترقت ذواتهم وتلاشت أجسادهم كما قال صلى الله عليه وسلم:
"حجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهَا لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ كُلُّ شَىْءٍ أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ" .
وهذا كما أن الله تعالى لما أراد بالحكمة البالغة أن ينتفع أهل الأرض بنور الشمس وحرارتها وخواصها جعل بين الشمس وبين الأرض فلك الزمهرير وهو الهواء البارد، ثم البحر المحيط من الماء البارد واسطة حتى يندفع قوة الحرارة ببرودتها، ولو لم يكن ذلك لاحترقت الأرض ومن عليها فلإفشاء هذا السر وكشفه هذه الحقيقة على أسرار شاكري نعمائه، جعل توقيع بسم الله الرحمن الرحيم في صدر كتابه الكريم ليتحقق لهم أن الخلق حجاب الاسم محجوبون عن الله تعالى، فلما عبروا بجذبات ألطافه عن حجاب الاسم وصلوا إلى المسمى وهو الله فيتجلى لهم بالألوهية، فإذا أرادت سطوة التجلي أن تمحقهم بالكلية فأدركتهم الصفة الرحمانية والرحيمية فتبقيهم بلادهم.
والمختار عندنا: أن كلمة الله أعظم الأسماء من وجوه:
الأول: أن الأخبار تدل على هذا وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل المسجد فإذا رجل يصلي يقول:
"اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الواحد الصمد الذي لم تلد ولم تولد ولم يكن كفواً أحد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب... الحديث" .
وأما ما روى أبي ابن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هو في قوله: { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ } [البقرة: 255] أو في قوله: { الۤمۤ * ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ } [آل عمران: 2] فالأخبار دالة على أن الاسم الأعظم مودع في الدعاء والآيتين ولا بد أن يكون مكرراً في كل آية منهما وفي الدعاء هو الحي القيوم، فلما حضر النبي صلى الله عليه وسلم الاسم الأعظم في هاتين الآيتين علمنا أن ذلك هو الحي القيوم قلنا فلما نظرنا ما وجدنا الاسم المكرر في الآيتين والدعاء إلا اسم الله، فتحقق بناء أن الاسم الأعظم هو الله.
وأما الجواب عن قول من احتج بالآيتين على أن الاسم الأعظم في إحدى الآيتين ووجد فيهما: فلو كان للحصر لكان "أو" للشك هاهنا، ولو كانت للشك لما وجد إلا في آية منهما دون الأخرى، كقولنا: زيد في هذا الدار أو في هذه، فلا بد وأن يكون في دار واحدة فلما وجد في الآيتين، وما نفي عما سواها علمنا أنه يحتمل أن يوجد في موضع آخر كما وجدنا في الدعاء في الحديث.
والثاني: أن الاسم على نوعين: اسم الذات واسم الصفة، كما أن الذات أشرف من الصفة، فكذلك اسم الذات أشرف وأعظم من اسم الصفة، وقد بينا أن هذا الاسم - أعني الله - اسم الذات وغيره من الأسماء الصفات فتعين أن يكون هو الاسم الأعظم.
والثالث: أن الصفات داخلة في الذات، والذات ليس بداخل في الصفات، فأسماء الصفات تكون داخلة في اسم الذات، ولا يكون اسم الذات داخلاً في أسماء الصفات، فعلمنا أن الاسم الأعظم هو اسم الذات لا أسماء الصفات، وهذا الاسم متعين للذات.
والرابع: أن من عزة هذا الاسم وعظمته لا يجمع ولا يثنى ولا يسقط منه الألف واللام عند النداء حتى لا يتغير حروف لفظه بخلاف جميع الأسماء، وهذا دليل واضح على أنه الاسم الأعظم.
والخامس: أنه لو سقط منه حرف كان الباقي أسماء الله تعالى، فإنك إن أسقطت الهمزة بقي "لله" وهو من صفات الله، قال الله تعالى:
{ للَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [النور: 42]، وإن أسقطت اللام الأولى بقي "له" وهو أيضاً من صفات الله تعالى، قال الله تعالى: { لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [الفرقان: 2]، وإن أسقطت الثانية بقي "هو" وهو أيضاً من صفات الله تعالى، قال الله تعالى: { هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَالِقُ } [الحشر: 24]، فلما لم توجد هذه الخاصية في الأسماء غيره علمنا أنه الاسم الأعظم.
والسادس: أن الله تعالى لما علم حبيبه صلى الله عليه وسلم عند إثبات وحدانيته ونفي الألهية من غير ذاته، قال:
{ فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ } [محمد: 19] فلو كان اسم أعظم غير من هذا لعلمه حبيبه مكان هذا خصوصاً عند نفي الشركة عن ذاته جل جلاله.
والسابع: أن لهذا اسم خصوصية في الإيمان؛ لأن الإيمان بدونه لا يصح كقولك: "لا إله إلا الله" ولو قلت بدل الله أسماء من أسماء الصفات لا يصح إسلامه فظهر أنه أعظم الأسماء.
والثامن: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالقتال على قبول هذا الاسم كما قال:
"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا أن لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" فكانت النجاة عن الدركات موقوفة على هذا الاسم، والفوز بالدرجات موقوفاً على هذا الاسم، وصون النفس عن القتل والمال عن النهب والولد عن الأسر موقوفاً على هذا الاسم، فوجب أن يكون هذا الاسم أعظم الأسماء.
والتاسع: أمر حبيبه صلى الله عليه وسلم عند الإعراض عن كل ما سوى الله، والإقبال بالكلية إليه بذكر هذا الاسم، وقال:
{ قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } [الأنعام: 91]، فدل على أن هذا الاسم أعظم الأسماء.
والعاشر: أن الله تعالى لتعظيمه لهذا الاسم صانه عن تسمية غيره بهذا الاسم، ومن عظمة هذ1الاسم لم يتجاسر أحد من المنكرين ومن أعداء الدين أن يتعلقوا بهذا الاسم ويسموا آلهتهم به أو غيرها، كما قال تعالى:
{ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [مريم: 65]؛ أي هل تعلم شيئاً له اسم الله سوى الله، فلعزة هذا الاسم عند الله تعالى وكرامته عليه وما أنعم على أحد تسيمته، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لعزة كنيته عنده نهى عن التكني بكنيته قال صلى الله عليه وسلم: "تسموا باسمي ولا تسموا بكنيتي" فبهذا علمنا أنه أعظم الأسماء.
والحادي عشر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن" ، فاختصاص بهذين الاسمين بالمحبة لا شرك أنه لاختصاص اسميه الله والرحمن، كما خص هذين الاسمين بالذكر في الدعاء عن الأسماء كلها بقوله تعالى: { قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ } [الإسراء: 110]، وذلك يدل على أنهما أشرف وأعظم من غيرهما، ثم إن اسم الله أشرف من اسم الرحمن؛ لأنه قدمه في الذكر أولاً وثانيا، ولأن اسم الرحمن يدل على كمال الرحمة واسم الله يدل على الألوهية والقهر والعظمة والعزة وغيرها من الصفات، فثبت بهذا أن اسم الله أعظم الأسماء وأحبها إلى الله تعالى، والله أعلم.
والثاني عشر: أن الله تعالى أمر عباده بملازمة ذكر هذا الاسم وجعله سبب الفلاح، كقوله تعالى:
{ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [الجمعة: 10] ومدح العباد على مداومته، وقال تعالى: { ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ } [آل عمران: 191]، وجعل مفاتح الجنة ثمنها كما قال النبي: صلى الله عليه وسلم "مفتاح الجنة لا إله إلا الله" ، وقال: "ثم الجنة لا إله إلا الله" ؛ بل جعل حقيقة مفتاح قلوب عباده المخلصين وبه فتح روزنة قلوب الطالبين إلى عالم الأرواح، وبه نوَّر أنوار المحبين بأنواع الجمال، وبه أزاح عن أسرار المحققين أستار صفات الوجود بتدلي صفات الجلال؛ ليهتدوا إلى شاطئ وادي أيمن الوصال، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا" ، وقد تحقق للمتمسكين بعروته الوثقى أنهم به نالوا ما أرادوا، ووجدوا ما طلبوا، وأعطلوا ما سئلوا، وأجيبوا إذا دعوا فعرفوه أنه الاسم الأعظم.
والثالث عشر: أنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صرح بفضل ذكر هذا الاسم على ذكر الأسماء كلها بقوله:
"أَفْضَلُ الذِّكْرِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ للهِ" ، فلو كان اسم أعظم من الله لكان هو الأفضل.
والرابع عشر: ما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"قال موسى عليه السلام: يا رب علمني شيئاً أذكرك فأدعوك به، قال: يا موسى قل: لا إله إلا الله، قال يا رب كل عبادك يقول لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا أنت إنما أريد شيئاً تخصني به، قال: يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع وضعن في كفة ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله" ، حديث صحيح، فهذا صريح بأنه ليس شيء أعز وأعظم من كلمة الله.
والخامس عشر: أن هذا الاسم عند أكثر العلماء وكبار القراء لا سبيل للعقل إلى كيفية اشتقاقه، وثبت أيضاً أن كنه الحق لا سبيل للعقول إلى معرفته، فكان لهذا الاسم زيادة مناسبة مع أن هذا المسمى من هذا الوجود وسائر الأسماء ليس كذلك، فوجب أن يكون هذا الاسم أعظم الأسماء، ولهذا افتتح كتابه الكريم والقرآن العظيم بهذا الاسم وجعله مبدأ خطابه وأثبته في صدر كتابه؛ ليعلم أن ما أنزل في هذا الكتاب من أسماء الصفات والحمد والثناء وإظهار الآيات وإثبات الحجج وذكر الآلاء والنعماء والأوامر والنواهي والوعد والوعيد والإخبارات والآثار والقصص والمواعظ والعلوم والإشارات والرموز والألفظ والمعاني والنكت واللطائف والأسرار والدقائق والقراءات والمحكمات والمتشابهات والآيات الناسخات والمنسوخات وغير ذلك من موجبات الرحمة والعقوبة والهداية والضلالة كله صادرة عنه، كما أن سلطاناً يبعث منشوراً إلى ممالكه ومماليكه يكتب بأحب أسمائه إليه وأعظم ألقابه لديه في طغر منشوره؛ ليعلم أن جميع الأحكام الواردة في المنشور صادرة عنه، فلما كان توقيع المنشور الإلهي موشحاً باسم الله علمنا أنه أحب أسمائه وأعظمها قدراً، واكتفينا بهذا المقدار من شرح فضائل هذا الاسم وإقامة البينات على شرفه وعظمته؛ إذ هو بحر زاخر ولا آخر له يستغرق فيه العقول والأوهام ولا تضبطه العلوم والأفهام، كما قال تعالى:
{ وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [الأنعام: 91]، أي لم يعرفوا كنه ذات الله حق معرفته وكذلك لم يعرفوا كنه اسم الله حق معرفته.
فأما لو سأل سائل فيما اخترنا بأن الاسم الأعظم هو قولنا "الله": أن من شأن الاسم الأعظم أنه من دعا الله به أجاب، وإذا سئل به أعطي، فنحن ندعو به ونسأل فلم نر أثر الإجابة في أكثر الأوقات قلنا الجواب عنه وجهين:
أحدهما: أن للدعاء أدباً وشرطاً لا يستجاب الدعاء إلا بها كما أن للصلوات آداباً وشرائط لا تصح إلا بها، فأول شرائطه أن يصلح باطنه باللقمة الحلال فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر
"الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ومطعمه حرام ومشربه حرام ثم يمد يده إلى الله يا رب يارب فأنى يستجاب له" حديث صحيح، وقد قيل: الدعاء مفتاح السماء وأسنانه لقمة الحلال، وآخر شرطه أن يدعو الإخلاص وحضور القلب، قال الله تعالى: { دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } [يونس: 22]، فإن حركة الإنسان باللسان وصياحه من غير حضور القلب ولو أنه على الباب وصوت الحارس على السطح،أما إذا كان حاضراً في الحضرة كان له في الشفيع، ولا نطول الكلام في هذا فإنه ليس مكانه.
والوجه الثاني: أن الاسم وإن كان في نفسه معظماً؛ ولكن يؤول فائدة عظيمة إليك إذا قلت بالتعظيم وتعظيمه يكون بقدر صفاء نيتك وعلو همتك في الذكر عن تطهير قلبك من الحظوظ الدنيوية والأخروية، فإنك لو ذكرته بحظ من الحظوظ النفسانية بالروحانية يقع الذكر تبعاً لحظك فالعظمة تكون للحظ لا للاسم، فمهما تخلصت سريرتك عن لوث الحظوظ يبقي الذكر طبياً معظماً لا يتعلق بحظ من الحظوظ يصعد إلى المذكور، كقوله تعالى:
{ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [فاطر: 10].
والعمل الصالح أن تطهر ذكرك عن الحظوظ، وتراقبه بالحقوق ليكون حظك من الذكر المذكور ومن الاسم المسمى وهو أعظم الحظوظ، فيكون ذكرك أعظم الأذكار والاسم المذكور أعظم الأسماء، ففي هذه الحالة بكل اسم دعوت الله يكون الاسم الأعظم والدعاء مستجاباً؛ لأن دعوته له وما طلبت منه إلا هو فوجدته؛ لأنه قال:
{ ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر: 60]، أي اطلبوني تجدوني كما قال تعالى: "ألا من طلبني وجدني" فافهم جدّاً.
قوله: { الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } قال أبو عبيدة: هما صفتان لله تعالى معناهما ذو الرحمة، ورحمة الله إرادته الخير والنعمة والأحسان. قلت: اختلف العلماء في معنى الرحمة فقال بعض المحققين: الرحمة من صفات الذات وهي إرادته إيصال الخير ودفع الشر، والإرادة صفة الذات، وهو المختار عندي؛ لأنه تعالى لو لم يكن موصوفاً بهذه الصفة لما خلق الموجودات، فلما خلق الخلق علمنا أن رحمته صفة ذاتية؛ لأن الخلق إيصال خير الوجود إلى المخلوق ودفع شر العدم عنه، فإن الوجود خير كله والعدم شر كله، وقال الآخرون: الرحمة من صفات الفعل وهو نفس إيصال الخير ودفع الشر بدون إيصال الخير محال، قلت: وأيضاً الخير بدون الإرادة المتقدمة في حق الباري سبحانه وتعالى محال؛ لأن إيصال الخير فعل والفعل مسبوق بالإرادة من الفاعل المختار فثبت بهذا أن الله تعالى كان في الأزل هو الرحمن الرحيم.
وذكر أبو حامد الغزالي -رحمه الله - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"تخلقوا بأخلاق الله" ، وهذا يقتضي أن يكون للعبد من كل اسم من أسماء الله حظ يليق بها.
فأقول: حظ العبد من اسم الرحمن الرحيم أن يكون العبد كثير الرحمة.
واعلم: أن كل من كان إلى العبد أقرب كان إيصال الخير والرحمة إليه وأوجب، وإن أقرب الناس إليه نفسه، فوجب أن يرحم نفسه ثم يرحم غيره: "أبدأ بنفسك ثم بمن تعول"، فأما رحمته مع نفسه فإما أن يكون في الأمور الروحانية أو في الأمور الجسمانية.
أما في الأمور الروحانية: فاعلم أن للنفس قوتين نظرية وعملية، فأما القوة النظرية فإيصال الرحمة إليها يتزكيتها عن الجهل وتحليتها بالعلم الحقيقي وهو معرفة الله كشفاً وشهوداً معرفة عيانية لا بيانية، بل عينية لا عيانية، فافهم جدّاً. وأما القوة العملية فصونها في الإخلاء عن طرفي الإفراط والتفريط، وإلزامها المواظبة على التوسط بين الطرفين بأوامر الشريعة ونواهيها على قانون الطريقة.
وأما في الأمور الجسمانية فقسمان: الأمور المطلوبة بالذات والمطلوبة بالعرض، أما المطلوبة بالذات: فهي اللذات الجسمانية وهي محصورة في المطعوم والمنكوح، وقد قال تعالى:
{ كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ } [الأعراف: 31]، فالرحمة على البدن هو الامتناع من الإسراف. وأما المطلوبة بالعرض: فهو المال، والرحمة فيه قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [الفرقان: 67]، فهذه مقاصد كل أحد من الرحمة على نفسه: وأما رحمته على غيره فاعلم أن كما الإنسان في كمال العبودية، وكمال العبودية في رعاية حقوق الربوبية وإيصال الحظوظ إلى البرية ورفع الأذية كما قال صلى الله عليه وسلم: "التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله" وكان آخر وصيته صلى الله عليه وسلم في آخر حياته: "الصلاة وما ملكت أيمانكم" .
وقال بعض المشايخ: مجامع الخيرات محصورة في أمرين: الصدق مع الحق والخُلُق مع الخلق. ومما يدل أن هذه المرتبة أعظم المراتب وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحمة، فقال تعالى: { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 17]، وقال: { بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة: 128]، وقال: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ } [آل عمران: 159]، ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه فبدأ في الذكر بوصف أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالرحمة، فقال: "أرحم أمتي أبو بكر" والقول في خصوصية الرحمن دون سائر الصفات من وجوه:
أولها: أنه أخص أسماء الصفات إلى الذات؛ لأن الأسماء على نوعين أسماء صفات اللطف وأسماء صفات القهر، وللرحمن خصوصيته بالصفتين بأن يوجد منه اللطف والقهر كما يوجد من الذات المقدسة، ويوجد منه الإيجاد والإفناء كما يجيء، وهذا من خصائص الذات الإلهي دون سائر الصفات، فثبت أنه أخص الأسماء.
وثانيها: أن له مناسبة مع الذات دون سائر الصفات، وهي أن اسم الذات وهو الله كما لا يجوز على غيره، فكذلك اسم الرحمن لا يجوز على غير الله، ولهذا المناسبة صار مخصوصاً بالذكر في الدعاء مع ذكر الله تعالى بقوله:
{ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ } [الإسراء: 110].
وثالثها: أن الرحمن أقرب إلى اسم الله من سائر الأسماء، يدل على هذا القرآن والحديث أما القرآن فقوله تعالى: { بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } [الفاتحة: 1] ذكر بعد اسم الله الرحمن لقربته إلى الله، وأما الحديث ما روي أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن لله تسع وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم... الحديث" .
ذكر بعد اسم الله الرحمن وقدمه على سائر أسماء الصفات فعلمنا أنه أقرب الأسماء إلى الله، وأما الفرق بين الرحمن والرحيم وإن كانا اسمين مشتقين من الرحمة أن الرحمن من صفة جلاله، والرحيم من صفة جماله، والفرق بينهما أن الجلال متوسط بين الذات الإلهي والذي من شأنه القهر والعزة التي اقتضت ونفي شركة الوجود بين صفة الجمال التي من شأنها اللطف والرحمة التي اقتضت الإيجاد والإبقاء، فنسبة أحد طرفي الجلال إلى قهَّارية الذات فيه طرف من القهر، وبنسبة أحد طرفيه إلى رحيميَّة الجمال فيه رحمة، فالرحمة فيه تغوث بقوة القهارية، فصارت أقوى من رحيميَّة الجمال، فأعطيت المبالغة في الرحمة والقهر فيه صار مسبوقاً ومغلوباً بلطف الرحمة بقوله تعالى: "سبقت رحمتي غضبي" ، وفي رواية: "غلبت رحمتي غضبي" ، فالقهر المسبوق بالرحمة والرحمة المقوية بالقهر هو الرحمن الرحيم المبالغ في الرحمة، فثبت أن الرحمن من صفة الجلال، والرحيم من صفة الجمال، ولهذا جاء الرحمن واسطة بين الله والرحيم في { بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }، وإذا كان الرحمن متوسط بين القهر الصرف وبين اللطف المحض فتارة بالقهر يقتضي الإفناء وتارة باللطف يقتضي الإثبات، كما أخبر الله تعالى عن صفة إفنائه بقوله: { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ بِٱلْغَمَامِ وَنُزِّلَ ٱلْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً * ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ } [الفرقان: 25-26].
وأخبر عن صفة إيجاده وإثباته بقوله:
{ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱلرَّحْمَـٰنُ } [الفرقان: 59] أي: الذي ظن هو الرحمن فظهر أن الرحمن أكثر مبالغة في الرحمة من الرحيم، وفيه طرف من هيبة الألوهية وهو مخصوص دون الرحيم، فالحمد لله شامل الثناء والشكر والمدح، أما الثناء فيكون بذكر الصفات الحميدة إذا قلت: هذا رجل كريم، فقد أثبت عليه والشكر يكون على النعمة من المنعم بأي معروف أولاك به.
وقال تعالى:
{ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [إبراهيم: 7] أي: في النعمة والمدح أن تذكر الرجل بجميع ما فيه من الخصال الحميدة وتنفي عنه جميع الصفات النقيصة التي لم تكن فيه، وليس من شأن المخلوقين أن يحمدوا الله بهذه المعاني الثلاثة الحقيقية إلا تقليداً ومجازاً، أما الثناء فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لما خوطب ليلة المعراج: يا نبي إني على علم أن هذا ليس من شأن المخلوقين، فقال: "لا أحصي ثناء عليك" وعلم أنه لا بدَّ له من امتثال الأمر وإظهار العبودية، فقال: "أنت كما أثنيت على نفسك" فهذا ثناء بالتقليد لأنه أثنى عليه بثنائه الذي أثنى الله به على نفسه في الأزل ثناء يليق بذاته وصفاته الأزلية على التحقيق، ولم يبلغ علم مخلوق حادث كنه صفة من صفات الله تعالى الأزلية، كما قال تعالى: { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ } [البقرة: 255]، حتى يثني عليه بمعرفة كنه صفة من صفاته؛ لأن الثناء فرع المعرفة فما أثنى أحد على الله تحقيقاً إلا تقليداً، فافهم جدّاً.
وأما الشكر أيضاً فلا يتحقق الإنسان بشكر أنعم الله إلا برؤية العجز عن القيام بأدائه كما حكي عن داود عليه السلام أنه قال:
"إلهي كيف أشكرك وأنا لا أصل شكرك إلا بنعمتك؟ فأوحى الله إليه: الآن شكرتني" وذلك لأن توفيق الشكر نعمة موجبة للشكر فلا نهاية لنعمه، فكيف يدرك الشكر المحادث النعمة التي هي غير متناهية؛ لقوله تعالى: { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [إبراهيم: 34]؟
وأما المدح فلا يمكن الإنسان أن يمدح الحق حقيقة أيضاً؛ لأن المدح يدل على كمال معرفة الذات والصفات حتى لا يذكره على ما هو به، وذلك محال؛ لقوله تعالى:
{ وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [الزمر: 67]، فلهذا حمد نفسه بالثناء والشكر والمدح، وقال { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الفاتحة: 2] أي: له أن يحمد ذاته الأزلي الأبدي بالحمد الأزلي الأبدي بالحمد الأزلي الأبدي، والحمد لا يصلح إلا له فهو محمود بحمده أزلاً وأبداً، والحمد له أما الحمد لله إشارة إلى ثناء ذاته بالإلهية، { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الفاتحة: 2]، إشارة إلى شكر أنعام الربوبية على ربوبيته.
{ ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ * مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [الفاتحة: 3-4]، إشارة إلى مدح ذاته لجميع صفات لطفه وقهره وجماله وجلاله في كماله وملكه بمالكيته وملكيته في الدنيا والآخرة قبل خلقها، وفيه دلالة على أنه ما أثنى وما شكر وما مدح الله أحداً إلا الله تعالى، كما قال تعالى، كما قال بعض المشايخ: ما قال أحداً إلله إلا الله، فلما عجز الخلق عن الثناء والشكر والمدح، فالثناء للسان والشكر للأركان؛ لقوله تعالى:
{ ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً } [سبأ: 13]. والمدح للجنان. شكر اللسان يعصمك من سيف السلطان ويسلمك من آفة الكفران، وشكر الأركان ينجيك من دركات النيران ويبلغك إلى درجات الجنان، ومدح الجنان يقربك إلى الرحمن ويشرفك بخلع الغفران، فالحمد بمعنى الثناء على نوعين: ثناء الذات بالوحدانية والفردانية الأزلية الأبدية في الألوهية، وثناء الصفات بأنهما موصوفة بصفات الكمال منزهة عن النقصان والزوال. والحمد بمعنى الشكر على نوعيه: شكر الذات وشكر الصفات؛ فشكر الذات على نعمة الوجود، وشكر الصفات على بذل الوجود. والحمد بمعنى المدح على نوعين: مدح الذات بنفي الذات في الوجود إلا ذاته، ومدح الصفات ببذل الأوصاف وإنفائها في صافته لتكون باقياً بهويته لا بأنانتيك. { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الفاتحة: 2]، فربوبيته بمعنى الخالقية والمالكية والسيدية عامة، وبمعنى التربية خاصة بحسب أنواع الموجودات متفاوتة؛ فهو مربي الأشباح بأنواع نعمه، ومربي الأرواح بأصناف كرمه، ومربي نفوس العابدين بأحكام الشريعة، ومربى قلوب المشتاقين بآداب الطريقة، ومربي أسرار المحبين بأنواع الحقيقة، وهو مدبر كل أمر حكيم من الأزل إلى الأبد، وهو متم نعمته الظاهرة والباطنة في الدنيا والعقبى على عباده والمؤمنين، كما قال تعالى: { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [المائدة: 3].
ومتم أنوار الأسرار الطالبين كما قال تعالى:
{ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ } [الصف: 8]، وهو المنعم على الموجودات بأنعام الإيجاد عامة، ونعمة الهداية خاصة؛ لقرب اختصاصه بإجابة الدعاء؛ لأن الله تعالى أمر عباده بالدعاء ووعدهم عليه الاستجابة بقوله تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُـمُ ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر: 60]، ثم علمهم كيف يدعونه وبأي اسم يدعونه بقوله تعالى: { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } [الأعراف: 55].
وذكر في مواضع كثيرة من القرآن بصيغة الدعاء كقوله تعالى:
{ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } [البقرة: 201]، وأمثاله كثيرة وألهم الله أنبياءه ورسله - عليه السلام - عند طلب الحاجة وإجابة الدعاء أن يدعوا بهذا الاسم؛ أولهم آدم عليه السلام كما قال تعالى: { فَتَلَقَّىٰ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَٰتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ } [البقرة: 37]، قيل كانت قوله: { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا } [الأعراف: 23]، فأجابه وتاب عليه وهدى، ثم دعا نوع عليه السلام قال: { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً } [نوح: 26]، ثم دعا إبراهيم عليه السلام وقال: { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ } [البقرة: 260]، ثم دعى موسى عليه السلام وقال: { رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ } [يونس: 88]، ثم دعا يوسف عليه السلام وقال: { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ ٱلْمُلْكِ } [يوسف: 101]، ثم دعا سليمان عليه السلام وقال: { رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ } [ص: 35]، ثم دعا زكريا عليه السلام وقال: { رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي } [مريم: 4]، ودعا يحيى عليه السلام وقال: { وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً } [مريم: 6]، ثم دعا عيسى عليه السلام وقال: { ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [المائدة: 114]، ثم أمر حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم أن يدعوه وقال: { رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } [طه: 114]، ثم ندب المؤمنين في مواضع القرآن أي قوله: ربنا، وغير هذا من الأنبياء والأولياء دعوه بهذا الاسم فأجابهم بفضله وكرمه؛ لعزة هذا الاسم وعظمته، فالله تعالى لما أكرم هذه الأمة وأقامهم مقام المناجاة معه، وأمرهم بالدعاء ووعدهم عليه بالإجابة، منَّ على حبيبه صلى الله عليه وسلم وأمته بالسبع المثاني بقوله تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي وَٱلْقُرْآنَ ٱلْعَظِيمَ } [الحجر: 87] وفيه إشارة شريفة ودقيقة لطيفة وهي أن الله تعالى منَّ عليه بفاتحة الكتاب كما منَّ عليه بجميع القرآن، والسر فيه بأن جميع حقائق وأصول معانيه مندرجة في الفاتحة، كما ذكرناه فجعل فاتحة الكتاب ديباجة مناجاة العبد من الرب في الصلاة.
وبدأ افتتاحها بأسمائه الحسنى وصفاته العلى قال: { بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } [الفاتحة: 1]، ثم ثنى بحمد ذات الألوهية، وثلَّث بنعت صفة ربوبية التي هي من خصوصية الإجابة حيث قدمت على الدعاء كما مرَّ ذكره، وقال: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الفاتحة: 2].
ثم أكد التحميد لله بالثناء والتحميد وقال: { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ * مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 3-5]، ثم أعقبها سؤال حاجة فقال: ولعبدي ما سأل. ومن غاية اختصاص الرب بإجابة الدعاء، حتى أن إبليس بعد ما لعن وطرد دعا الله تعالى بهذا الاسم، وقال:
{ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [الحجر: 36]، فأجابه ربه لعظمه هذا الاسم وقال: { فَإِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ } [الحجر: 37]، ولكنه ما وفق تصرفه في تحصيل نعمة ولا يته بل كان حقه استدراجاً وكيداً، كما قال تعالى: { وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } [القلم: 45].
فالمسكين إبليس لو كان من أهل الكرامة وفق لقوله:
{ رَبِّ فَأَنظِرْنِي } [الحجر: 36]، بلد انظرني ولإجابة الله تعالى: { فَإِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ } [الحجر: 37]، بدل قوله: إنك من المنظرين، من خصوصية هذا الاسم شموله صفات لا يشملها غيره من الأسماء بمقتضى اللغة منها ما يدل على المدح لذاته وهو السيد لقوله تعالى: { ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } [يوسف: 42] أي: عند سيدك وكذلك المالك قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل: "أرب إبل أم رب غنم؟ فقال: من كل ما أتاني الله فأكثر وأطيب" .
ومنها: ما يدل على أنه خالق؛ لقوله إخباراً عن موسى عليه السلام في جواب فرعون حين قال: { وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ } [الشعراء: 23-24].
ومنها: ما يدل على كمال رحمته ولطفه في حق العالمين جميعاً عاماً وفي حق الإنسان خاصاً وفي حق الخواص خصوصاً، أما في حق العالمين فتربيتهم بأغذيتهم وأسباب بقاء وجودهم، وفي حق الإنسان خاصاً وهو أنه يربى ذرات وجودهم بألبان ألطاف ربوبيته عند الميثاق، وقال:
{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ } [الأعراف: 172]، وبرحمة ربوبيته خلقهم وبلطف ربوبيته خاطبهم، وبكرم ربوبيته أسمعهم وأبصرهم، وبسر ربوبيته أنطقهم وبفضل ربوبيته أعملهم، وبعناية ربوبيته أشهدهم، حتى قالوا: { بَلَىٰ } وجعل بحكمة تدبير ربوبيته إقرارهم بذر التوحيد، وفي خواص الخواص من الأنبياء والأولياء فبأن يربي بذر توحيدهم في أرض قلوبهم بماء الشريعة والأديان ورياح الإيمان والإيقان وأنواع شموس الإحسان والعرفان وبقيمة الربوبية يتم عليهم مشاهدة جماله وكاشفة جلاله.
ما قال تعالى في حق نبينا صلى الله عليه وسلم: { وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } [الفتح: 2]، ثم شرَّف أمته ببركة متابعته بهذه التشريفات وأنعم عليهم بهذه الكرامات والدرجات عند طلب الهداية إلى الصراط المستقيم في تقديم ذكره ومقامه { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ * مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [الفاتحة: 3-4]، الرحمن الرحيم فائدة التكرار فيهما من وجهين، أحدهما: أن ذكرهما في بسم الله الرحمن الرحيم هو مبدأ الكتاب ومفتتح الخطاب بأنه هو الرحمن الرحيم بأن دعاكم بالإلهية إلى الطاعة والعبادة، وإنما دعاكم ليغفر لكم بالرحمانية والرحيمية؛ لقوله تعالى:
{ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } [إبراهيم: 10].
وأما ذكرهما في الفاتحة عقيب الحمد لله رب العالمين الذي هو المدح
"يقول العبد: الحمد لله رب العالمين، يقول الله: حمدني عبدي، ويقول العبد: الرحمن الرحيم، يقول الله: أثنى عليَّ عبدي... الحديث" فثبت أنهما في الفاتحة للثناء فذكرهما في البسملة من الله تعالى، لاستمالة قلوب العباد على العبودية بالرحمة والغفران، وفي الفاتحة من العباد للثناء على الله تعالى وبالجمال والجلال للقربة والرضوان، والثاني: ذكرهما في البسملة لتسكين الهيبة ورفع الدهشة من عظمة اسم الله تعالى عن عباده كما كان حال موسى عليه السلام حين خاطبة: بـ { إِنِّيۤ أَنَا ٱللَّهُ } [القصص: 30] كادت تزهق نفس موسى من هيبة استماع اسم الله، فانبسط معه على بساط العزة لإزاحة الدهشة والإراحة من الوحشة بقوله تعالى: { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ } [طه: 17]، ولأن يستأنس برحمانية ورحيمية نفوس العباد إلى عبادة الله تعالى، وتطمئن قلوبهم بذكر الله كما قال تعالى: { أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } [الرعد: 28]، ليستعدوا بذلك لمناجاته و ليستحقوا المدح والثناء على ذاته وصفاته، فيناجونه في الصلاة ويذكرونه بالدعاء ويعرفون إليه الحاجة؛ ليديهم إلى نيل الدرجات ورتب القربات.
{ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [الفاتحة: 4]، الإشارة فيه إلى أن الدين في الحقيقة الإسلام، يدل عليه قوله تعالى:
{ إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ } [آل عمران: 19]، والإسلام على نوعين: الإسلام بالظاهر وإسلام بالباطل، فإسلام الظاهر بإقرار اللسان وعمل الأركان لقوله تعالى: { وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [الحجرات: 14]، وقال صلى الله عليه وسلم: في جواب جبريل عليه السلام: ما الإسلام؟ قال: "الإسلام أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتجج البيت إن استطعت إليه سبيلاً" فهذا الإسلام جسداني والجسداني ظلماني، ويعبر عن الليل باللظلمة، وأما الإسلام الباطن فانشراح القلب والصدر بنور الله بقوله تعالى: { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } [الزمر: 22]، فهذا الإسلام الروحاني نوراني ويعبر عن اليوم بالنور، فالإسلام الجسداني يقتضي إسلام الجسد لأوامر الله تعالى، ونواهيه، والإسلام الروحاني يقتضي استسلام القلوب والروح لإحكامه الأزلية وقضائه وقدره، فمن كان موقوفاً عند الإسلام الجسداني، ولم يبلغ مرتبة الإسلام الروحاني فهو بعد في سير نعمة الدين مترف ومتحير، فيرى ملوكاً وملاكاً كثيرة كما كان حال الخليل عليه السلام فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال: { هَـٰذَا رَبِّي } [الأنعام: 76] وتنفس سعادته وطلعت شمس الإسلام الروحاني من وراء جبل نفسه عن شوق القلب صبح فهو على { نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } [الزمر: 22] واضح في كشف يوم الدين، فيكون ورد وقته: "أصبحنا وأصبح الملك لله"، فيشاهد بعين اليقين بل يكاشف حق اليقين أن الملك لله ولا مالك إلا مالك يوم الدين، فإذا تجلى له النهار وكشف بالمالك جهاراً يخاطبه وجاهاً ويناجيه شفاهاً { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5].
الكلام فيه على ثلاثة أوجه:
أولها: على الخطاب لأنه رجع من الغيبة إلى الخطاب، وإنما رجع إلى الخطاب من الغيبة؛ لأنه ليس بين المملوك ومالكه إلا حجاب ملك نفس المملوك، فإذا عبر عن حجاب ملك النفس وصل إلى مشاهدة مالك النفس، كما قيل عن أبي يزيد أنه في بعض مكاشفاته قال: إلهي كيف أجد السبيل إليك؟ قال له ربه: دع نفس وتعال. فللنفس أربع صفات لها من كل صنف حجاب آخر، وهي: الأمارية واللوامية والملهمية والمطمئنة، فأمر العبد المملوك بأن يذكر مالكه بأربع صفات الإلهية والربوبية والرحمانية والرحيمية، فيعبر بعد مدح الإلهية وشكر الربوبية وثناء الرحمانية وتمجيد الرحيمية وقوة جذبات هذه الصفات الأربع عن حجب ممالك الصفات الأربع للنفس، فيخلص عن ظلمات ليلة دين نفسه لطلوع صبح صادق يوم الدين { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [الفاتحة: 4]
{ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً } [الانفطار: 19] فيبقي العبد عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء، وهو كلٌّ على مولاه فيرحمه مالكه ويذكره بسنة عادة كرمه على قضية وعده { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ } [البقرة: 152]، ويناديه ويخاطب نفسه: { يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ } [الفجر: 27]، ثم يجذبه من غيبة نفسه إلى شهود مالكية ربه بجذبة: { ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ } [الفجر: 28] فيشاهد جمال مالكه ويناديه نداء عبد خاضع خاشع ذليل عاجز، كما قرأ بعضهم: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } نصباً على نداء { إِيَّاكَ نَعْبُدُ }.
وثانيها: في معنى: { نَعْبُدُ } وتحقيقه أن نوحد ونخلص ونطيع ونخضع، وقيل العبادة سياسة النفس على حمل المشاق في الطاعة وأصلها الخضوع والانقياد والطاعة والذالة، يقال: طريق معبد إذا كان مذللاً، موطوءة بالأقدام وبعير إذا كان مطلياً بالقطران، ويسمى العبد عبداً لذلِّه وانقياده لمولاه.
قلت: حد العبادة على ما قال ليس بحد تام؛ لأن للملائكة عبادة وليست عبادتهم سياسة النفس على حمل المشاق في الطاعة والعبادة الحقيقية خلوص النفس عن كل حظ من الحظوظ الدنيوية والأخروية ليعبد الله بالحق لا للحظ لقوله تعالى:
{ وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } [البينة: 5].
وثالثها: في خصوصية قوله تعالى: { نَعْبُدُ } أن النفس دنياوية تعبد هواها لقوله تعالى:
{ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ * فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } [النازعات: 40-41]، والروح قربي تعبد القرية والعندية لقوله تعالى: { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } [القمر: 55]، والسر حضرتي تعبد الحق تبارك وتعالى لقوله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: "الإخلاص سر بيني وبين عبدي لا يسعه في ملك مقرب ولا نبي مرسل" ، فلما أنعم الله تعالى على عبده بنعمة الصلاة قسمها بينه وبين عبده، كما قال تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها إليَّ ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل" ، فيقرب العبد بنصفه إلى حضرة كماله بالحمد والثناء والشكر على الصفات جماله وجلاله، ويقرب الرب على مقتضى كرمه وإنعامه كما قال: "من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً" ، بنصفه إلى خلاص عبده من عبودية الأغيار بإخراجه عن ظلمات بعضها فوق بعض من هوى النفس ومراد القلب وتعلق الروح بغير الحق إلى نور وحدانيته وشهود فردانيته. فأشرقت أرض النفس وسماوات القلب وعرش الروح وكرسي السر بنور ربها فآمنوا كلهم أجمعون بالله الذي خلقهم وهو مالكهم وملكهم، وكفروا بطواغيتهم التي يعبدونها واستمسكوا بالعروة الوثقى، وجعلوا كلهم واحداً وقالوا: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5] نستوفقك ونطلب المعونة منك على عبادتك على أمورنا كلها.
قال أبو بكر الوراق: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } لأنك خلقتنا { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } لأنك هديتنا، قلت: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } لأنك المعبود { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } لأنك المقصود، وأيضاً: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } لأنك المطلوب { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } لأنك المحبوب، { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } لأنك مالك { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }؛ لأن ما سواك هالك { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } على نعمتك { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } على معرفتك، { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } لأنك قلت: لنا عبادي، { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }؛ لأنك لنا إليك هادي { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة: 6]، الهداية على ثلاثة أوجه: هداية العام، وهداية الخاص، وهداية الأخص أما هداية العام فإنه هدى جميع الحيوانات إلى جلب منافعها ودفع مضارها بقوله:
{ رَبُّنَا ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } [طه: 50].
وقال تعالى:
{ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ } [البلد: 8-10]، وأما هداية الخاص فهو هداية المؤمنين إلى الجنة لقوله تعالى: { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } [يونس: 9]، وأما هداية الأخص فهي هداية الحقيقة التي من الله وقوله تعالى: { وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الصافات: 99].
فقال الله تعالى:
{ يَجْتَبِيۤ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ } [الشورى: 13]، بهذه الهداية إلى الله تعالى، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عرفت ربي بربي ولولا ربي ما عرفت ربي" ، وفي قوله تعالى: { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ } [الضحى: 7]، إشارة إلى هذا المعنى أي كنت ضالاً عني في تيه وجودك فطلبتك بجودي، وجذبتك بفضلي، وهديتك بجذبات عنايتي ونور هدايتي إلي، وجعلتك نوراً وأنزلت إليك نوراً فأهدي بك إلي من أشاء من عبادي، فمن اتبعك وطلب رضاك فنخرجهم من ظلمات وجود السوى إلى نور الروحاني، ونهديهم إلى صراط مستقيم، كما قال تعالى: { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ } [المائدة: 15-16].
واعلم: أن الصراط المستقيم هو الدين القويم، وما يدل عليه القرآن العظيم وهو خلق سيد المرسلين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين كما قال تعالى:
{ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم: 4]، ثم قال تعالى: { وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ } [الأنعام: 153]، وهو على نوعين:
[الأول]: صراط مستقيم إلى الجنة؛ لقوله تعالى:
{ وَٱللَّهُ يَدْعُوۤاْ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [يونس: 25]، أي: إلى الجنة، فهذا لأصحاب اليمين؛ لقوله تعالى: { وَأَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ } [الواقعة: 27-28].
والثاني: صراط مستقيم إلى الله؛ لقوله تعالى:
{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الشورى: 52]، { صِرَاطِ ٱللَّهِ } [الشورى: 53] وهذا للسابقين؛ لقوله تعالى: { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُونَ * أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ } [الواقعة: 10-11]، وفي الآيتين إشارة إلى من هدي إلى صراط مستقيم فهو من السابقين المقربين، وإن كل ما يكون لأصحاب اليمين يكون له وهو سابق على أصحاب اليمين فيما يكون للمقربين من شهود الجمال وكشف الجلال وهذه المرتبة خاصة لسيد المرسلين وخاتم النبيين ومتابعة لقوله: { قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي } [يوسف: 108].
{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } [الفاتحة: 7]، الإشارة فيه إلى طريق من أنعمت عليهم بكشف الحقيقة، وتكرار الصراط إشارة إلى أن الصراط الحقيقي صراطان: صراط من العبد إلى الرب، وصراط من الرب إلى العبد؛ فالذي من العبد إلى الرب طريق مخوف كم قطع فيه القوافل وانقطعت به الرواحل، ونادى [رب] العزة لأهل العزة لطلب رد السبيل لقوله تعالى حكاية عن قاطع هذا الطريق وتقطع هذا الفريق:
{ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الأعراف: 16].
والذي من الرب إلى العبد فطريق آمن، وبالأمان كائن قد سلمت قوافله وبالنعم محفوفة منازلة ويسيرون فيه سيارته ويقادون بالسلاسل قادته
{ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ... } الآية [النساء: 69].
أنعم الله على أسرارهم بأنوار العناية وعلى أرواحهم بأسرار الهداية وعلى قلوبهم بآثار الولاية وعلى نفوسهم في قمع الهوى وقهر الطبع، وحفظ الشرع بالتوفيق والرعاية وفي مكايد الشيطان بالمراقبة والكلاءة.
{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } [الفاتحة: 7]، بالنعمة الظاهرة والباطنة كما قال تعالى:
{ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } [لقمان: 20]، وأما النعمة الظاهرة فبعثه الأنبياء وإنزال الكتب، وأحكام الشرائع وتوفيق قبول دعوة الرسل، وإجابة الحق واتباع السنة واجتناب البدعة وانقياد النفس لأوامر الشرع ونواهيه والثبات على قدم الصدق ولزوم العبودية، والنعمة الباطنة فإن الله تعالى أنعم على أواحهم في بداية الفطرة بإضافة رشاش نوره لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق الخلق في ظلمة، ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور فقد اهتدى ومن أخطاه فقد ظل" فكان فتح باب صراط الله إلى العبد رشاش ذلك النور وأول الغيث رش ثم ينسكب، فالمؤمنون ينظرون بذلك النور المرشوش إلى مشاهدة الغيب وينظرون الغيث ويستغيثون: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة: 6]، وهو{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } [الفاتحة: 7]، بجذبات ألطافك وفتحت عليهم أبواب فضلك ليهتدوا بك إليك فأصابوا بما أصابهم منك بك { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } [الفاتحة: 7]، قال الواحدي: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } [الفاتحة: 7]، بالمخالفة والعصيان { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } [الفاتحة: 7]، عن السنة.
قلت: هم الذين أخطأهم ذلك النور حين رشَّ عليهم من نوره فضلوا في تيه هوى النفس، وتاهوا في ظلمات الطبع والتقليد فغضب عليهم من اليهود ولعنهم بالطرد حتى لم يهتدوا إلى الشرع والتحقيق، ودفعوا عن الصراط المستقيم عن المرتبة الإنسانية التي خلق فيها الإنسان في أحسن تقويم ومسخوا قردة وخنازير صورة ومعنى أيضاً، { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } [الفاتحة: 7]، بالخذلان { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } بالنسيان لما وقعوا عن الصراط في سير البشرية مشوا بشرك الشرك كالنصارى فاتخذوا الهوى إلهاً
{ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } [المائدة: 73]، { نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة: 67]، وأيضاً { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } بالغيبة بعد الحضور والمحنة بعد السرور، والظلمة بعد النور نعوذ بالله من الحور بعد الكور { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } في الفسق والفجور.
{ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } [الفاتحة: 7]، بالرجوع عن الصراط المستقيم فنودوا: (وأهدوهم إلى سواء الجحيم)، { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } [الفاتحة: 7]، عن كرم الكريم ورحمة الرحيم بالإعراض عن الدين القويم، المحرومين عن القلب السليم وجنات النعيم باستحقاق العذاب الأليم، غير المغضوب عليهم بالاحتباس في المنازل والانقطاع عن القوافل، ولا الضالين بالصدور عن المقصود. وفصل في { آمِّينَ } والتائبين سنة بعد ولا الضالين كان في الصلاة وخارج الصلاة، روى وائل بن حجر رضي الله عنه قال:
"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }، آمينَ، خفض بها صورته" حديث حسن.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"(آمين) ختم رب العالمين على عباده المؤمنين" ، قلت فيه إشارات:
منها: أن العبد يكتب كتابه بقلم فعله وكل حركة تصدر منه فهي حرف وكل عمل كلمة تكتب في كتاب طاعته ومعصية فكم من كتاب قد كتب طاعة ومعصية وسعد به ملك اليمين أو الشمال، فلما بلغ الحضرة لم يجد فيها حرفاً، أما السيئات فقد محتها الحسنات، كما قال تعالى:
{ إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ } [هود: 114]، وأما الطاعات فقد أحبطها الرياء والشرك لقوله تعالى: { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر: 65]، فإن الله تعالى من غاية كرمه مع عباده جعل آمين خاتمة كتاب صلاة العبادة حتى لا يمحوها شيء من الأشياء فيبقي بها مختوماً ثابتاً إلى يوم الجزاء فإنه يمحو الله ما يشاء ويثبت، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "كل الختم على الكتاب" ، ومنها أن تعالى قال: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل" .
فالإشارة فيه أن للعبد نصفه من الحمد والثناء والدعاء؛ فيبقي نصف من الإجابة والهداية والرحمة والعفو والمغفرة والرضوان والنجاة من النيران ورفعه الدرجات من الجنان وكرامة بقاء الرحمن فختمت على ما سأل بخاتم: { آمِّينَ } ليوم يقوم الناس لرب العالمين يقال في قبول القوم ختم به عليه.
ومنها: أن العبد محجوب عن الله تعالى بحجاب أنانيته ووجدان وجوده، ووجوده مركب عن الروحاني العلوي والجسماني السفلي، فالشرع إنما جاء ليخرجه من ظلمات حجاية الجسماني السفلي إلى نور الروحاني العلوي؛ لأن من بقي فيها فهو في سفلي من النار لقوله:
{ وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } [آل عمران: 103]، فمن نجا من ظلمات نار سفلي وجوده ووصل إلى نور جنة علو وجوده فهو بعد محجوب بحجاب النور العلوي لقوله: صلى الله عليه وسلم: "إن لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة" فالروحاني بالنسبة إلى الجسماني نوارني؛ ولكن بالنسبة إلى نور القديم ظلماني كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق الخلق في ظلمة" .
فالنور الحقيقي هو الله تعالى وما سواه مخلوق ظلماني، وكما العبد في العبودية بالخروج عن ظلمات أنانيته إلى نور هويته وفقدان وجوده في وجدان وجود الحق، والحكمة في بعث الأنبياء وإنزال الكتب بالوعد والوعيد، والترغيب والترهيب في الأمور والنواهي وجميع أحكام الشرع وآدابه مقصورة على هذا المعنى، ولهذا ذكر الله تعالى في مواضع من القرآن { لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [الحديد: 9]، وإن أخرج قومك من الظلمات إلى النور فالله تعالى بجوده وكرمه جمع أصول ما في الكتب المنزلة في سور القرآن، وأودع حقائق ما في سور القرآن في سورة فاتحة الكتاب؛ بل في المراتب العشر للربوبية كما ذكرنا محصورة في المراتب الأربعة إلى قولنا: الهداية من الأزل إلى الأبد؛ لأن العبد كان محتاجاً إلى هدايته في الأزل بأن يهديه إلى الوجود وهي لو لم تكن هدايته لكان ضالاً في تيه العدم وهذا أحد معاني قوله تعالى: { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ } [الضحى: 7].
فلما هدى العبد بهداية: "كن" فخرج عن ضلالة العدم إلى هدى الوجود الروحاني فكان ضالاً في عالم الأرواح، كما قيل: ضل الماء في اللبن، فاحتاج إلى هدايته ليخرجه بهداية
{ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [الحجر: 29] من ضلالة الروحاني إلى هدى عالم الجسماني إلى أن بلغ كمال مرتبة الإنسانية بالبلوغ والعقل، فيضل في تيه أنانية الوجود فيحتاج إلى هدايته بالرجوع إلى الصراط المستقيم الذي جاء عليه من العدم إلى الوجود حتى يرجع عليه من الوجود إلى العدم فقوله: { ٱهْدِنَا } طلب أسباب الرجوع وهي في صورة النبي والشرع، وفي الحقيقة جذبة الحق ليهديه بهذه إلى العدم وفناء الوجود، كما هداه إلى الوجود بالنفخة ليهتدي إلى واجب الوجود وهذا معنى آخر من معاني: { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ } [الضحى: 7].
فكما أنه لا نهاية لواجب الوجود فكذلك لا نهاية لهدايته إلى معرفته إلى الأبد؛ فالله تعالى جعل العروج إلى العدم من شأن الإنسان بنفسه إلا بالذي أوجده وإنزاله إلى أسفل سافلين ليعرج بها إلى أعلى عليين العدم، فعلى الله التعريج وعلى العبد التسليم، وتسليم العبد بالإيمان والعمل الصالح لقوله:
{ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ } [التين: 6]، وجزاء الأعمال الصلاة فلهذا قال تعالى: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي... الحديث" .
فالعبد يقرب إلى الله بصدق النية وبحمده وشكره على ما أولاه من نعمه ويستهديه به إليه والحق تعالى يأخذه منه إليه ويفنيه عنه، ويبقيه بالأمر، ويرفع رسوم أنانيته بسطوة تجلي هويته فيفقد الوجود فقداناً لا يجده أبداً ويجد المفقود وبعد أن لا يفقده أبداً؛ لأنه صار ملكه لقوله تعالى: "ولعبدي ما سأل"، ذكره بلام التمليك فيختم الله تعالى بعد بخاتم آمين فهذا هو الإشارة إلى قمام عباده المخلصين بأنه ختم ليس لأحد من العالمين أن يتصرف فيه أو يفك ختم برب العالمين، ولهذا يئس إبليس عن التصرف فيهم، وقال: { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ص: 83] والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
تفسير عين الحياة
يا طالب تفسير بطن سورة فاتحة الكتاب، اعلم أولاً أسماءهم الأربعة وهي: سورة الحمد، والسبع المثاني، وأم القرآن، وفاتحة الكتاب؛ وتيقن أن الحمد ناسوتي، والسبع المثاني اسم ملكوتي، وأم القرآن جبروتي، وفاتحة الكتاب لاهوتي، فإذا أُطلعت على أساميه، بعد إطلاعك على مطلع النقطة الواقعة تحت باء البسملة في الأصل الأول، وعلى حد البسملة في الأصل الثاني؛ فافهم تفسير بطن البسملة مختصراً موجزاً مجزءاً عن تفاصيلها، بأن الكتاب الحقيقي يقول ابتداءً بالاسم الناسوتي الأثري، الدال على ذات المسمى اللاهوتي، ألوف بالصفة الجبروتية والفعل الملكوتي في تحرير كتاب جامع الحساب، وتقرير الرطب واليابس المتفرق في مفردات محاسبات ممالك الغيب والشهادة؛ لإظهار الكنز المخفي في الألف المخفي في { بِسمِ } [الفاتحة: 1]، الذي هو مظهر للألف المخفي في { الرَّحْمٰنِ } [الفاتحة: 1]، الذي هو من لام { ٱلله } [الفاتحة: 1] وهائه، وأتبين بالابتداء بالاسم الأثري أن دار الكسب عالم الناسوت، وبالختم على { الرَّحِيـمِ } [الفاتحة: 1] العقلي أن دار الإقامة والجزاء عالم الملكوتي؛ ليمكن الشقيقة الناسوتية قبول الفيض من الدقائق الجبروتية بواسطة الملكوتي، وللدقيقة الملكوتية قبول الفيض من الحقائق اللاهوتية بواسطة الجبروت، وتشتغل الشقيقة الناسوتية، بحمده المسطور في سورة الحمد الناسوتي الموصل لها، لا الحمد المخصوص بالسبع المثاني، الشامل فيضه لبياضه دقائق اللطائف السبعة وسواديتها، المنوطة بها الشقيقة الناسوتية المرباة في البدن المجعول.
وفي هذا السر يعرف سبب إطلاق السبع المثاني عليها، ويطلع على معنى السبع ومعنى المثاني، فإذا أحمدته اللطائف السبع في المرتبة البياضية والسوادية مثنى بلسان الإنسان الغيبي، والأنس الشهادي تلهم دقائقها الحمد الجبروتي المخزون في أم القرآن، ثم تلهم حقائقها الحمد اللاهوتي المستحق للذات المكنون في فاتحة الكتاب، مما أشار إليه صاحب المقام المحمود في حديث الشفاعة بقوله:
"ألهمت بمحامد لا تحضره إلا أن تلحقا بحقائق القرآن المكنونة في هذه السورة" سميت فاتحة الكتاب؛ لأنها تفتتح كل شيء عالم اللاهوت، ولدقائقه المخزونة فيها سميت أم الكتاب؛ لأن أم الكتاب جبروتي وهو أصل الكتب، ولدقائقه المستورة فيها سميت سبع المثاني؛ لأن اللطائف السبعة غيبية ملكوتية تحدث بلسان البياض والسواد، ولشقائقه المسطورة فيها سميت سورة الحمد الواجب الناسوتي قراءتها في الصلاة، التي هي معراج المؤمن فيها يناجي رب العالمين سميت سورة الحمد؛ فينبغي حينئذٍ أن يعرف معنى بطن هذه السورة يتضح منك القرآن في المعراج وقت المناجاة، وتصلح بأن تكون صلاة مقسومة بينك وبين ربك، كما جاء في الحديث: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، وإذا قال: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }، أقول: حمدني عبدي إلى أن قال: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } أقول: سألنَي عبدي، ولعبدي ما سأل" ، وجعل الصلاة قراءة سورة الحمد، وحسبك هذا الحديث في وجود قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة بطنه.
على سبيل الإجمال هو أن يعلم بأن الله الحميد المحمود أراد أن يعلم الخلق بحميده؛ ليحمدوه في عالم الشهادة والغيب، ويجعلوا أنفسهم مستحقين لسلام الحق ورحمته وبركاته، { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الفاتحة: 2]، ووصف الله الذي هو المتجلي في العقد الأول الآحادي اللاهوتي للحقائق بصفة الدال عليها اسم الرب، الذي هو المتجلي في العقد الرابع إلا في الناسوتي؛ ليمكن للشقائق الآلافية التمتع بحقائق الحمد والانتفاع بها، وسره قريب من سر الابتداء في البسملة، بالاسم الناستوي، وإفشاء من حد القرآن مما لست مأذوناً في بيانه.
ثم وصف بـ{ ٱلرَّحْمـٰنِ } [الفاتحة: 3]، المتجلي بالعقد الثاني المعشراتي الجبروتي للدقائق القائمة بالحقائق؛ ليحمدوه على رحمته العامة الشاملة لجميع الموجودات بعد حمدهم على ربوبيته في الأطوار المختلفة.
ثم وصف بـ{ ٱلرَّحِيمِ } [الفاتحة: 3]، المتجلي بالعقد الثالث، المائي الملكوتي للدقائق المنوطة بالدقائق القائمة بالحقائق؛ ليحمدوه رحمته الخاصة المحيطة بالمؤمنين في الدار الآخرة، قوله:
{ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } [الأحزاب: 43]، يدل على صدق هذا البيان، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهذا التقرير شاهد عدل، وهو قوله: "يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة" .
ثم وصف بـ{ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [الفاتحة: 4]؛ ليتيقنوا بأن أسماءه أزلية قبل خلق الخلق وظهور العالم، وكان مبدعاً خالقاً قبل الإبداع والخلق، كما أن مالك يوم الدين قبل إظهاره، ويبالغوا في تحميده بعد تيقنهم بيوم الدين والجزاء، وأنه يدينهم في ذلك اليوم.
ثم أخبرهم بأن الحمد الحقيقي لا يصدر إلا من العبد الحقيقي بقوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } [الفاتحة: 5]؛ ليعبدوه مخلصين ويحمدوه موقنين بألاَّ معبود سواه، وتقديم المفعول على الفعل يفيد الاختصاص؛ ولأجل هذا السر قدم المفعول في العبادة والاستعانة، وكرر بقوله: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5]؛ لئلا يستعينوا إلا بمعبودهم ويتيقنوا بألاَّ مستعان إلا هو؛ ليمكن لهم الحمد على مبعوديته ومستعانيته، ومن يستعين بغير معبوده يشرك في الحمد غيره، وهذا شرك حقيقي غفل عنه الخواص فضلاً عن العوام، ويقول من يستعين به المستعين بلسان الحال، فاطلب الاستعانة ممن تعبده وتحمده، وما أحسن ما قال صاحب قدم صدق.
استعانة المخلوق بالمخلوق كاستعانة المسجون بالمسجون، اللهم إلا أن المتبعين في المحققين الذين نظروا بعين الوحدة في الكثرة، وعلموا أن الآثار الكثيرة ظاهرة عن الأفعال الصادرة عن الصفات القائمة بالذات، وجعلوا الناس كالبنيان يشد بعضهم بعضاً، ويستعين بأثر الحق الظاهر من فعل الحق الصادر من صفة الحق القائمة بذات الحق بالحق في الحق، ولا يمكن الوصول إلى هذا المقام إلا على سبيل التدريج، وهو بأن يترك الاستعانة من غير الحق مدة مديدة في الوسط، حتى تصح منهم الاستعانة بأثر الحق في الانتهاء، ولا يضرها في مقام الوحدة، فإذا استعنت في حمد الله بالمستعان المعبود المالك الرحيم الرحمن الرب الله المحمود، وحمدته على تعليمه إياك؛ فيزداد في التعليم على قضية { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [إبراهيم: 7]، ويعلمكم بعد أداء حق الحمد المقدور للبشر سؤال ما كان الناس أحوج إليه في دينهم ودنياهم، وهو: الهداية إلى الصراط المستقيم، والثبات عليه بقوله: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة: 6]، وهو أدق من الخط الموهوم بين الظل والضياء والهداية إليه، والثبات عليه لا يمكن إلا بتوفيق الحق.
ثم ينبهكم بأن الصراط المستقيم الذي هدى إليه خواص عباده، وأنعم عليهم بالاستقامة عليه هو الذي ما كان شرقياً صاحب تفريط وما كان غريباً، صاحب إفراط بقوله: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } [الفاتحة: 7] بالاستقامة بعد الهداية، { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } [الفاتحة: 7] من أهل الإفراط، { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } [الفاتحة: 7] من أهل التفريط، ليكونوا خائفين من مكره، راجين من كرمه؛ حتى يجوزوا على الجسر ويدخلوا دار السلام ويشرفوا بالسلام، كما أخبرنا الله الملك السلام في الكلام القديم:
{ سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [الزمر: 73].
والخوف والرجاء جناحان للطائر فوق الجسر، إن لم يكن له جناح الخوف لهوى في زمهرير الأمن، فإن لم يكن له جناح الرجاء لهوى في نار اليأس، وهذان الجناحان أثران ظاهران من فعل القهر وفعل اللطف الصادرين من صفة لطيفية وقهارية، وقلب المؤمن بين إصبعي لطفه وقهره يقلبه كيف يشاء، وإلى هذا السر أشار خاتم الأنبياء وسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم في مناجاته حيث قال:
"يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك وطاعتك" ، وهاتان الصفتان ثابتتان لذت الله ذي الجلال والإكرام، فمن يأمن مكر الله وقهره فهو من الخاسرين المفرطين، ومن ييأس من روح الله ولطفه فهو من الكافرين المفرطين، ومن يفرح من لطفه ويخف من قهره من الفائزين الثابتين على الصراط المستقيم في دار التلوين، التي الاستقامة فيها أشد وأشق على النفس من الدخول في النار؛ ولأجل هذا أعدل الخلق مزاجاً "شيبتني سورة هود" ، ومراده أمر الله إياه بالاستقامة بقوله: { فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ } [هود: 112]، فحق له التشيب؛ رأفةً على من معه، وخوفاً على تقصيرهم في الاستقامة، فإذا علمت هذه الفوائد فخذ نصيباً من فوائد أسمائه الحسنى المبسوطة في بساط هذه السورة، وهي المنعم الهادي المستعان المعبود المالك الرحيم الرحمن الرب الله المحمود.
وتيقن أنه تعالى ينتبه باسم المحمود لطيفة بغيبة القارئ، وباسم الله لطيفة طفلية، وباسم الرب لطيفة جنينية، وباسم الرحمن لطيفة خلقية، وباسم الرحيم لطيفة لحمية، وباسم المالك لطيفة عظمية، وباسم المعبود لطيفة حط مضغية، وباسم المستعان لطيفة علقية، وباسم الهادي لطيفة نطفية، وباسم المنعم لطيفة سلالية عن سر النقطية الأحدية، التي هي مظهر للنقطة الذاتية، وعن سر الحياتية والسمعية والبصرية والمتكلمية والعلمية المريدية والقديرية والحكيمية والواحدية، والأسماء المطهرة في هذه السورة دالة على حضرة النقطة الأحدية وحضرات صفاتها الأربع، فمن يطلع على أسرار هذه الأسامي العشرة المظهرة والمضمرة، المدرجة في درج فاتحة الكتاب، المخصوص بالنبي الأمي صاحب لواء الحمد في المقام المحمود، ويعبده حق عبادته في الشهادة والغيب بحمده، حق حمده باللطائف السبع على وفق الشرع، مخالفاً للطبع بقدر الوسع يؤذن بالدخول في الحضرة العظمى، التي هي منتهى مأرب الحجاج في المعراج، والداخل فيها أن شرف بالطهارة الكبرى يكون آمناً من المكر والاستدراج.
وحمد اللطيفة القالبية: اشتغال جوارحها وأعضائها في عبودية الحق.
وحمد اللطيفة النفسية، ترك هواها بالإعراض عن الدنيا، والإقبال على المولى في النعماء والبلوى؛ بحيث لا يمكن للشيطان إلقاء خاطر في ردعها من الخواطر، التي كانت فيها مخالفة الله تعالى.
وحمد اللطيفة القلبية: حفظ المرآة عن إفشاء سر ما يشاء، في هذه المرآة.
وحمد اللطيفة الروحية: ترك غيرتها على اللطيفة القلبية؛ لقلة التفاتها إليها لكثرة اشتغالها بمراقبة المرآة، وإقامتها محاذاة الوجه.
وحمد اللطيفة الخفية: حيرتها في مشاهدة ما في المرآة من الآيات البينات.
وحمد اللطيفة الحقيقة طالعة سوى الحق في الكتاب المسطور بقاف قلم؛ فإنه صاحب المقام المحمود، الآخذ من دال ذوات روحانية أحمدية ميم مداد نورانية محمدية؛ ليظهر على لام لوح قدمه صور ما في كنز القدم وصورها، يأخذ الفيض من الاسم المحمود الشامل للمعارف محمداً مفصلاً، الحاوي وولايته بدال الدوائر الأربع في الموقف الأعظم، ومن اسم الله بألوهيته في عالم اللاهوت، ومن اسم الرب بربوبيته في عالم الناسوت، ومن اسم الرحمن برحمته في عالم الجبروت، ومن اسم الرحيم برحمته الخاصة في عالم الملكوت، ومن اسم المالك بعزته في المواقف الآثارية، ومن المعبودية بلسطنته في المواقف الأفعالية، ومن اسم المستعان بقيوميته في المواقف الصفاتية، ومن اسم الهادي برأفته في المواقف الذاتية، ومن اسم المنعم بمنعميته في المواقف النقطية وسرها، بقبول المعبود المحمود هدية الحمد منها في الخواص والمحاضر والحضرات يتبين في سيماء حاله، وعلامة قبول الإذن بالدخول في الحضرة العظمة: حصول الطهارة الكبرى.
ولولا ملالة طبعي من الكتابة؛ لبينت بطون القرآن من أوله إلى آخره في هذه السورة الواحدة، الجامعة لمفرقات الأحكام السياسية والطهارية والعبادية الشاملة للمواعظ، والأمثال والحكم المخصوصة باللطائف السبع، وتربيتها في أطوارها المختلفة، وسبب ظهور الملالة مطايا الهمم عن السير في طلب معاني الأمور، وأخذ فيض ضياء العالم من منبع النور، وعدم من يفهم ما كتبته منذ عشرين سنة، وقلة التفات الناس الناسي مبدأه ومعاده إلى المعارف الرحمانية، وكثرة اشتغال الخلق بمزخرفات المتفلسفين وطامات المتصوفين وترهات الحسوميين مما يستنكف منه، مقتفوا آثار [الفلاسفة] عن متابعي سنن السنن الإسلامية من علماء الربانية، وقصور همة الفقهاء والحكماء والمشايخ، هداهم إلى الصراط المستقيم على الذات العاجلة والطلاب والسُّلاك، أعلى الله همتهم على المكاشفات السرية والمشاهدات الروحية والتجليات الروحية والتجليات الصورية والنورية.
اللهم { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } [الفاتحة: 6-7]، نعمة الإيمان الغيبي، { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } [الفاتحة: 7]، ممن حرم نعمة الإيمان الشهودي، آمين يا رب العالمين؛ أي: استجب دعائي ولا تخيب رجائي، وصلى الله على خير خلقه سيدنا وقرة أعيننا: محمد وآله وصحبه أجمعين.
هذا أول المجلد الرابع والعشرين من كتاب "مطلع النقط ومجمع اللفظ"، ومن الطور المجلد العشرون منه، وعدد مجلدات "مطلع النقط" من غير تفسير موافقة ثمانٍ وعشرون، و"تفسير المواقف" وهي مائة وإحدى وثلاثون ألفاً ومائة وإحدى وثلاثون، وقد كتبت بإلهام شرح موقفين منها إن ورد علي قياساً عليهما يكون ثلاثة آلاف وأربعمائة وخمسة وستين مجلداً كل مجلد أربعون كراساً عشرة أوراق كل ورقة أربعون سطراً.