التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي
{ وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } [يونس: 20] أي: هلا أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم معجزة ظاهرة نشاهدها، { فَقُلْ إِنَّمَا ٱلْغَيْبُ للَّهِ } [يونس: 20] يشير إلى معنيين:
أحدهما: إن الغيب هو عالم الملكوت الذي يتنزل منه الآيات، ويظهر منه للمعجزات بإنزال الله تعالى وإظهاره فهو لله وبحكمه ينزل الآيات منه متى شاء كما شاء، { فَٱنْتَظِرُوۤاْ } [يونس: 20] فإنه ينزلها، { إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُنتَظِرِينَ } [يونس: 20] أي: لينزلها.
والثاني: إن الغيب هو عالم الغيب فهو الله وهو الذي قدر الأشياء بحكمته ومشيئته، فإن اقتضت الحكمة والمشيئة الأزلية بإنزال آية من آياته وأوصاف ملتمسكم فإنه سينزل { فَٱنْتَظِرُوۤاْ إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُنتَظِرِينَ } لإنزالها.
{ وَإِذَآ أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةً } [يونس: 21] أي: أذقناهم دون توبة وإنابة، أو صدق طلب الوصول إلى بعض المقامات، أو ذوق كشف وشهود من بعد ضر، { مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ } [يونس: 21] وهو الفسق والفجور والأخلاق وحجب الأوصاف البشرية وصفات الروحانية، { إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِيۤ آيَاتِنَا } [يونس: 21] بإظهارها مع غير أهلها بشرف النفس وطلب الجاه والقبول عند الخلق واستتباعهم والرئاسة عليهم وجذب المنافع منهم، { قُلِ ٱللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً } [يونس: 21] في إيصال مجازاة مكرهم إليهم باستدراجهم عن تلك المقامات والكرامات إلى دركات البعد وتراكم الحجب من حيث لا يعلمون، { إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ } [يونس: 21] أي: غير خافٍ علينا قدر مراتب مكرهم فيجازيهم على حسب ما تمكرون.
ثم أخبر عن حال الخلق ومالهم بقوله تعالى: { هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } [يونس: 22] الآيتين: هو الذين يسيركم في بر البشرية وبحر الروحانية، وأيضاً في بر العبودية وبحر الربوبية، { حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ } [يونس: 22] جذبات العناية، { وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ } [يونس: 22] بهبوب نسيمات رياح شهود الجمال، { وَفَرِحُواْ بِهَا } [يونس: 22] فرح الوصول.
{ جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ } [يونس: 22] أي: ثم هبت نكباً تجلى صفات الجلال، { وَجَآءَهُمُ ٱلْمَوْجُ } [يونس: 22] البلايا والمحن عند التلاطم والتراكم، { مِن كُلِّ مَكَانٍ } [يونس: 22] من أماكن النعم ومكان النقم، { وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ } [يونس: 22] أي: تحقق لهم أنهم وقفوا في ورطة الهلاك بالنعم والنقم، { دَعَوُاْ ٱللَّهَ } أي: رجعوا إليه وما التفتوا إلى النعم استغراقاً بالنقم، وما وهنوا لما أصابهم من النقم في طلب المنتقم وكان دعاؤهم بالله لله.
{ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } [يونس: 22] بالتبرؤ عما سواه، والتولي إلى مولاهم فقالوا: مخلصين عن الوجود معتصمين بالجود، { لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـٰذِهِ } [يونس: 22] من هذه البلايا والمحن والركون إليها، { لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ } [يونس: 22] لنعمة وجدان وجود النعم بالنقم، { فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ } [يونس: 23] من البلايا والمحن بالمعبود عن نعمها والصبر على نقمها، { إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } [يونس: 23] لما وصلوا بجذبات الحق إلى شهود الجمال، واستغراق الحجج بحر الجلال تداركتهم عواطف العزة والكبرياء { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } [الأعراف: 182] ومن استدراجهم أنهم يبغون ويطلبون في الأرض ما سوى الحق غير الحق؛ يعني: أرأيت طالب الحق طالباً لغير الحق؟ فاعلم أنه من المستدرجين الممكورين.
ثم قال: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } [يونس: 23] أي: الناسي من تلك المقامات والكرامات، { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ } [يونس: 23] طلبكم غير الحق يضر بأنفسكم بحرمانكم عن الله باشتغالكم بغير الله، { مَّتَاعَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } أي: ما طلبتم بدلاً عن الله هو متاع الحياة الدنيا الفانية، { ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ } [يونس: 23] إن كنتم أهل العناية بالاختيار، وإن كنتم أهل الغواية بالاضطرار، { فَنُنَبِّئُكُمْ } [يونس: 23] بالمجازاة والمكافأة لطفاً أو عنفاً، { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [يونس: 23] أي: ينفع ما كنتم تعملون عند الرجوع بالصدق إلينا، أو بضر ما كنت تعملون بالركون والسلوك إلى غيرنا بأقوال أهل الإشارة في قوله: { مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } قال: المخلص في دعائه هو من لا يصحبه في نفسه سوى رؤية من يدعوه.
قال الجنيد: الإخلاص ما يؤيده الله بأي عمل كان.
قال رويم: الإخلاص ارتفاع رؤيتك من الفعل، قال ابن معاذ: الإخلاص ألاَّ تتلون النفس فيحفظ، قال الشيخ: هذه أموالهم رضي الله عنهم وهذا كله عندي إخلاص العوام والخواص، فأمَّا إخلاص أخص الخواص فمعاملات يجزيها الله بهوية الربوبية بعد فناء أنانيته العبودية، والخلاص بجوده غير جنس وجوده.