التفاسير

< >
عرض

فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ
٣٩
حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ
٤٠
وَقَالَ ٱرْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْريٰهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
٤١
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَٱلْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يٰبُنَيَّ ٱرْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ ٱلْكَافِرِينَ
٤٢
قَالَ سَآوِيۤ إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ ٱلْمَآءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ
٤٣
وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ ٱلْمَآءُ وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
٤٤
-هود

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

{ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } [هود: 39] أي: عذاب القطعية أن يبعده عن الحق، { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } [هود: 39] أي: عذاب الفرقة الأبدية.
{ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا } [هود: 40] وهو حد البلاغة التي يكون العبد مأموراً بالركوب على سفينة الشريعة، { وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ } [هود: 40] أ ي: يفور ماء الشهوة من تنور القالب { قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ } [هود: 40] في سفينة الشريعة، { مِن كُلٍّ } صفة من صفات النفس، { زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ } [هود: 40] أي: كل صفة وزوجها كالشهوة وزوجها العفة، والحرص وزوجه القناعة، والبخل وزوجه السخاوة، والغضب وزوجه الحلم، والحقد وزوجه السلامة، والعداوة وزوجها المحبة، والتكبر وزوجه التواضع، والتأني وزوجه العجلة.
{ وَأَهْلَكَ } [هود: 40] أي: واحمل معك أهلك صفات الروح { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ } [هود: 40] من النفس، { وَمَنْ آمَنَ } [هود: 40] أي: آمن معك من القلب والسر { وَمَآ آمَنَ مَعَهُ } [هود: 40] غالباً، { إِلاَّ قَلِيلٌ } [هود: 40] من صفات القلب فيه إشارة إلى أن كل ما كان من هذه الصفات وأزواجها في معزل عن سفينة الشريعة فهو غريق في طوفان الفتن، وهذا رد على الفلاسفة والإباحية فإنهم يعتقدون أن من أصلح أخلاقها الذميمة وعالجها بضدها من الأخلاق الحميدة فلا يحتاج إلى الركوب في سفينة الشرع ولا يعلمون أن الإصلاح والعلاج إذا صدرا من طبيعة لا يفيد أن النجاة؛ لأن الطبيعة لا تعلم كيفية الإصلاح والعلاج ولا مقدار تزكية النفس وتحليتها، وإن كانت الطبيعة واقفة على صلاح النفس وفسادها لعالجها في ابتداء أمرها وما كانت النفس محتاجة إلى طبيب عالم بالأمراض ومعالجتها وهم الأنبياء - عليهم السلام - حيث قال:
{ هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } [الجمعة: 2] ليعلموا المرض من الصحة والداء من الدواء.
{ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } [الجمعة: 2] فالتزكية عن الصفات الطبيعية يستحقون تحلية أخلاق الشريعة الربانية.
{ وَقَالَ ٱرْكَبُواْ فِيهَا } [هود: 41] وهذا الأمر بالركوب يشير إلى كتف سر من أسرار الشريعة وهو أن من ركب سفينة الشرع لا بالطبع وتقليد الآباء والمعلمين لم تنفعه النجاة بالحقيقة، كما ركب المنافقون بالطبع بالأمر فلم ينفعهم، وكما ركب إبليس بالطبع في سفينة نوح فلم ينفعه، وإنما النجاة لمن ركب فيها بالأمر وتحفظ أدب المقام بقوله: { بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْريٰهَا وَمُرْسَاهَا } [هود: 41] أي: يكون مجراها من الله ومرساها إلى الله، كقوله تعالى:
{ وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ } [النجم: 42]، { إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ } [هود: 41] بالنجاة لمن ركبها بالأمر لا بالطبع: { رَّحِيمٌ } [هود: 41].
{ وَهِيَ تَجْرِي } [هود: 42] يعني: سفينة الشريعة، { بِهِمْ } [هود: 42] بمن ركبها بالأمر، { فِي مَوْجٍ } [هود: 42] أي: موج الفتن، { كَٱلْجِبَالِ } [هود: 42] من عظمتها، { وَنَادَىٰ نُوحٌ } [هود: 42] الروح، { ٱبْنَهُ } [هود: 42] كنعان النفس المتولدة بينه وبين القلب، { وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ } [هود: 42] من معرفة الله وطلبه، { يٰبُنَيَّ ٱرْكَبَ مَّعَنَا } [هود: 42] سفينة الشريعة { وَلاَ تَكُن مَّعَ ٱلْكَافِرِينَ } [هود: 42] من الشياطين المتمردة والأبالسة الملعونة المطرودة، { قَالَ } [هود: 43] يعني: كنعان النفس، { سَآوِيۤ إِلَىٰ جَبَلٍ } [هود: 43] أي: جبل العقل، { يَعْصِمُنِي مِنَ ٱلْمَآءِ } [هود: 43] من ماء الفتن.
قوله: { قَالَ لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } [هود: 43] يعني: إذا نبع ماء الشهوات من أرض البشرية ونزول ماء ملاذ الدنيا وفتنها من سماء القضاء لا يتخلص منه بسفينة الشريعة فلا عاصم منه غيرها، وذلك قوله: { إِلاَّ مَن رَّحِمَ } [هود: 43] أي:رحمه الله بالتوفيق للاعتصام بسفينة الشريعة، { وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ } [هود: 43] أي: بين كنعان النفس المعتصم بجبل العقل وبين العقل موج الشهوات النفسانية الحيوانية وفتن زخارف الدنيا، { فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ } [هود: 43] يعني: كل نفس لا تعتصم بسفينة الشريعة وتريد أن تعتصم بجبل العقب لتتخلص به من طوفان الفتن المهلكة كما هو حال الفلاسفة لا يتهيأ له متمناه وهو من الهالكين.
ثم أخبر عن حالة من ركب سفينة الشريعة بقوله: { وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ } [هود: 44] ماء شهواتها، { وَيٰسَمَآءُ } [هود: 44] الفضاء، { أَقْلِعِي } [هود: 44] عن إنزال مطر الآفات، { وَغِيضَ ٱلْمَآءُ } [هود: 44] أي: ماء الفتن أي: نقض ظلمتها بنور الشرع وسكنت سورتها، { وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ } [هود: 44] أي: انقضى ما كان مقدار من طوفان الفتن للابتلاء والتربية، { وَٱسْتَوَتْ } [هود: 44] أي: سفينة الشريعة، { عَلَى ٱلْجُودِيِّ } [هود: 44] وهو مقام التمكين يعني: أيام الطوفان كانت مقام التكوين في معرض الآفات والهلاك، فلما مضت تلك الأيام إلى الأمر إلى مقام التمكن وفيه النجاة والثبات ونيل الدرجات، { وَقِيلَ بُعْداً } [هود: 44] أي: فرقة وهلاكاً، { لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } [هود: 44] الذين ظلموا أنفسهم بالتقاعد عن ركوب الشريعة.