التفاسير

< >
عرض

لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
١١١
-يوسف

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن حقيقة قصصهم فقالوا: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } [يوسف: 111]، وهم الذين استخرجوا لُباب الحقائق عن شهود الصور، فهم الفائزون بحقائق شاهدوها في مقامات السلوك فعلموا أنها { مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } من أسرار السير إلى الله والكتب المتقدمة { وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ } [يوسف: 111] يحتاج إليه السائرون إلى الله في معرفة المقامات، { وَهُدًى } [يوسف: 111] أي: هداية، { وَرَحْمَةً } [يوسف: 111] في بيان السلوك، { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [يوسف: 111] بالوصول والوصال من عباب الكرم والأفضال.
قال الشيخ المصنف رضي الله عنه:
ومن أخبار قصة يوسف عليه السلام ما أخبرنا الشيخ ابن أبي الفتوح أسعد بن أبي فضائل بن خلف العجلي في عموم إجازته، قال أبو الفتح إسماعيل بن أبي الفضل المقري إجازة، حدثنا أبو المظفر عبد الله بن شبيب بن عبد الله المقري إملاءً، ثنا القاضي أبو محمد بن يوسف بن يعقوب الطيبي به، ثنا أحمد بن إسحاق بن نيخاب، ثنا محمد ابن أبي العوام، ثنا أبي، ثنا داود بن سليمان عن محمد بن مسلم، قال: بلغني أنه لمَّا ألقى يوسف عليه السلام في الجب، قال: يا شاهد غير غائب، يا قريب غير بعيد، يا غالب غير مغلوب، اجعل لي من أمري هذا فرجاً ومخرجاً من حيث لا أحتسب، قال: بات فيه.
وأخبرنا أبو الفتح قال: أنا جعفر بن عبد الواحد بن محمد في كتابه، ثنا أبو بكر محمد بن الفضل، ثنا محمد بن إسحاق بن محمد، ثنا علي بن سليمان بن عبد السلام المقري، ثنا أبو الفضل العباس بن يوسف الشكلي، ينا أبو حفص - يعني: العلائي -، حدثني القاسم بن الحكم عن محمد بن الحسين، ثنا محمد بن صرف عن نافع بن عمرو ابن الجمحي، قال: قال رجل ليوسف عليه السلام: إني أحبك، قال: ما أريد أن يحنبي أحداً إلا الله عز وجل، وما لقي من الحب أحد ما لقيت، أحبني أبي فأخذوني إخوتي فألقوني في الجب، وأحبتني امرأة العزيز فأخذوني وألقوني في السجن، وقد قيل على لسان: لك المحبة ما عدى منافعها سوى محبة رب واحد صمد أحبه صادقاً في الحب، فاكتتمت منه المحبة بين الروح والجسد، مالي والحب، إن الحب أوردني حبساً طويلاً بلا جرم إلى أحد.
أخبرنا أبو الحسن المؤيد بن محمد الطوسي، أنا أخرنا أبو القاسم زاهد بن ظاهر أنا، إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني في كتابه، ثنا الحاكم أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو سعيد الرحبي، ثنا الحسن بن داود عن الحسن عن سمرة عن كعب قال: نعم ولد ليعقوب يوسف الصديق الذي اصطفاه الله واجتباه وأكرمه، وقسم له من الجمال الثلثين وباقي عباده الثلث، وكان يشبه آدم يوم خلقه الله وصوره ونفخ فيه من روحه قبل أن يصيب المعصية فلما عصى آدم نزع منه النور والبهاء والحسن.
وكان الله عز وجل أعطى آدم الحسن والجمال والنور والبهاء يوم خلقه، فلمَّا فعل ما فعل وأصاب الذنب نزع منه، ثم وهب الله لآدم عليه السلام الثلثين من الجمال مع التوبة التي تاب الله عليه، ثم إن الله تعالى أعطى يوسف الحس والجمال النور والبهاء الذي كان نزعه حين أصابه الذنب، وذلك أن الله تعالى أحب أن يرى العباد أنه قادر على ما يشاء، وأعطى يوسف الحسن والجمال ما لم يعط أحداً من الناس، ثم أعطاه الله العلم بتأويل الرؤيا وكان يخبر بالأمر الذي رآه في منامه أنه سيكون قبل أن يكون علمه الله،
{ عَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا } [البقرة: 31]، وكان إذ ابتسم رأيت النور في ضواحكه، وكان إذا تكلم رأيت شعاع النور في كلامه يلتهب التهاباً بين ثناياه عليه السلام.
وتذكير أهل الإشارة نكتاً في قصة يوسف عليه السلام فأردت أن أذكر بعضها تبركاً بكلامهم؛ إذ فيه أنواع المواعظ وقالوا: حكي أن الله تعالى أمر صخرة حتى ارتفعت من أسفل البئر فوقع يوسف عليها وهو عريان، وأتاه جبريل عليه السلام بقميص وألبسه إياه وبشره بالنبوة والمرتبة والعز والمملكة، واحتياج إخوته وقيامهم بين يدي سرير ملكه بالعجز، وضرب جناحه في البئر فصار البئر منوراً، وعلمه أن يقول: يا كاشف كل كربة، يا مؤمنس كل وحيد، يا صاحب كل غريب، يا من لا إله إلا أنت، سبحانك أسألك أن تجعل لي فرجاً ومخرجاً، وأن تجرَّد حبك في قلبي حتى لا يكون لي هم، وأن تحفظني برحمتك يا أرحم الراحمين، فاستطاب الموضع وفرج واستبشر، فكذلك المؤمن السعيد المقبول عمله إذا احتضر بكى عليه الأهلون، ورأى هو قداسة القبر واللحد ومفارقة الأولاد وغربة الوحدة، وكذلك يبكي فإذا وضع في القبر وجده روضة، وبشر بالكرامات اطمأن في لحده وتمنى لو كان قبل ذلك، قال الله تعالى أخباراً عمن هذه حالته قال:
{ يٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُكْرَمِينَ } [يس: 26-27].
والناس مسيء أو مصلح ولا يبتغي لواحد منها أن يعقل، فإن كان مصلحاً فقد دنا الفراغ، وإن كان مسيئاً فقد دنا طي صحيفته، وورود حضرته ومعانيه الأهوال، إن لم يغفر له عالم الخفيات فليبادر إلى تدارك أمره، وقيل أيضاً: الناس غني وفقير، فينبغي للفقير أن يرجا الأيام القلائل على طاعة الله كيلا يفتقر في الآخرة فما أسوأ الفقر بعد التيسير، وما أسوأ الحزن بعد الفرح، وما أشد البلاء بعد النعمة.
وقيل في قوله خبراً عنهم:
{ يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } [يوسف: 12] رضي يعقوب بلعبهم لا جرم ابتلي بما ابتلي، فاللعب خلقنا، وقيل: خدعوا أباهم بميعاد لذيذ، ثم فرقوا به بينه وبين والده، فينبغي للمؤمن أن يعتبر ولا ينخدع بما يخدع بالشيطان من المواعيد واللذائذ الباطلة، وقد قيل: أعدت شيء مشتغل بالدنيا، والموت يطلبه، وغافل ليس بمفعول عنه، وضاحك ملأ فيه ولا يدري إلى أي الدارين مصيره، وقيل أيضاً: أكرم الله أربعة من الصبيان في حال صباهم:
* الأول: عيسى عليه السلام كما قال في حقه:
{ وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ } [آل عمران: 48] ومما حكي من حكمته قوله: معاشر الحواريين لا تجعلوا اليوم همكم، عند كل يوم همه.
* والثاني: يحيى عليه السلام كما قال في حقه:
{ وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً } [مريم: 12]، ومما روي من حكمة أنه قال: من حي بالموافقة فإنه لا يموت بالمخالفة، فإنكنت اليوم حيّاً بالمخالفة تكن غداً ميتاً بالعقوبة، وإنما لقن الحكمة كما حكي؛ ولهذا ندب الآباء إلى تعليم الصبيان أمور دينهم في صباهم؛ ليعتادوها ويشبوا عليها.
* والثالث: سليمان عليه السلام أكرم في صباه بالفهم كما قال:
{ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } [الأنبياء: 79].
* والرابع: يوسف عليه السلام أوتي الحكمة في صباه فقوي سره لاحتمال البنيان، فأهل الولاء يحتملون أعباء البلاء، وقيل: البئر موضع الهلكة، ولمَّا وصلت إليها بركته صارت موضع السلامة والنار موضع الحرقة، فلمَّا وصلت إليها حشمة الخليل انقلبت بإذن الله نزهته وروضته، والغار كانت محل الوحشة، فلمَّا وصلت إليه حشمة المصطفى صلى الله عليه وسلم صارت مزار الأولياء، كذلك القبر محل الوحشة، فإذا وضع فيه من صحبته التوحيد والمعرفة والطاعة انقلبت روضة من رياض الجنة كما قال:
{ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ } [الواقعة: 89].
وروي أنه لمَّا جعل يوسف عليه السلام في الجب أضاء له الجب وعذب ماؤه حتى كان يغنيه من الطعام والشراب.
ومن العبر في قصة يوسف عليه السلام: أن من أراد الله إكرامه فلن يضره كيد كائد، وحكي أنه انتهى رجل إلى باب ملك، فقال له الملك: سل حاجتك فإني سخي بها؟ فقال: زوجني ابنتك، فاستنكف الملك من ذلك وصار رهين قوله فاحتال، فقال: ضاع مني خاتم صفته كذا وكذا، فإن طلبته ووجدته زوجتك ابنتي، فقال الرجل: لا أقعد إلا إن أجده، ثم ذهب فانتهى إلى شط دجلة وكان خائفاً فاتفق أنه رأى حوتاً وأخذ بيده وشق خوفه، فرأى خاتماً بتلك الصفة، فذهب به إلى الملك، فقال الملك: هذا أراد الله إعزازه فم أصنع فزوجه، فكذا حال يوسف لما أراد الله إعزازه ضاع سعيهم ومكرهم ولم يغنوا شيئاً قوله:
{ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُوۤاْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ } [يوسف: 15] ينبغي للعاقل أن ينظر إلى سرور يوسف وقت خروجه مع إخوته المسيرة والتماشي فما كان إلا ساعة، ثم دفع إلى غم طويل ومحنة عظيمة كذلك من سر بشيء سوى الله فإنه يكون سروره ساعة، ثم يدفع إلى غم وبلاء ومحنة لا ينقطع كما قيل السرور بغير الله محال والسكون إلى ما سوى الله محال.
وقوله تعالى:
{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ } [يوسف: 15] هذا لمَّا أوحي إليه ذلك طابت نفسه وطاب له محنة البئر، وكذا طاب القتل على الشهداء يوعد الله الصادق في مواعيده، وكذا طاب المرض على المريض لما في الصبر عليه من رجاء الثواب الجزيل، وكذلك سكرات الموت على المؤمن تطيب تنجيز الله وعده الصدق، فسبحانه من لطيف ما أراد به، واجتهد إخوة يوسف في مباعدة يوسف من قلب أبيه، وأوقعوه من مثل تلك المحنة فلم يزدد إلا حباً، فكذا ينبغي أن يكون أن أمر المحب لا يزداد بتوالي المحسن عليه إلا حبّاً.
وقوله عالى:
{ وَجَآءُوۤا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ } [يوسف: 16] فليس كل بكاء يكون حقاً فقد يبكي الظالم كما في قصة يوسف وإخوته وجاءت امرأة إلى القاضي أبي هاشم وهي تبكي فقيل له: هذه ضعيفة تبكي، فقال: ليس كل من بكى صدق، قال الله تعالى: { وَجَآءُوۤا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ } [يوسف: 16] فالبكاء على وجوه:
* الأول: بكاء الحياء، وهو كان لآدم عليه السلام بكى مائتي سنة بعد الذلة حياءً من الله تعالى، وحكي أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه: "يا ابن آدم أين الشكر على العطاء؟ فإن لم يكن فإن الرضاء بالقضاء؟ فإن لم يكن فأين الصبر على البلاء؟ فإن لم يكن فأين النفي عن الهوى؟ فإن لم يكن فأين الوفاء لإله السماء؟ فإن لم يكن فأين البكاء على الجفاء؟".
* والثاني: بكاء الخجلة، وهو لداود عليه السلام بكى أربعين سنة، ثم ملأ كفه دمعاً ودفعها إلى السماء فقال: "يا رب أما ترحم دمعي؟ فأوحى الله تعالى إليه: تذكر دمعك وتنسى ذنبك، فغشي عليه خجلاً مما قاله" وفي حديث غريب: أنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبكي كلما ذكرتك [ففيض] بكائي خجلاً من الله تعالى، فهل ينفعني ذلك؟ فقال صلى الله عليه وسلم:
"كل قطرة منها تطفئ بحوراً من النار" .
* والثالث: البكاء خوفاً من النار، فقال تعالى: { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً } [التوبة: 82] وحكي أن يحيى بن زكريا - عليهم السلام - كان على المنبر يوماً فقال: أتاني جبريل آنفاً فقال: إن في النار دركة يقال لها: سكران فيها جبل يقال له: غضبان لا ينجوا منها إلا الباكون من خشية الله، ثم بكى حتى غشي عليه وسقط من الكرسي، فما أفاق إلا بعد ثلاثة أيام، وقيل لبعضهم: ما يغنيك لا تخف، وقال: ولو أن الله تعالى أوعدني بعصيانه الحبس في الحمام لكنت خائفاً به كيف، وقد قال: { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً } [النبأ: 21] وقال أبو العباس المغربي:

يا سائلَ القلبِ عمَّا كنت تأمن أما سمعتَ بذكرِ الموتِ والنَّارِ
ما لي أراكَ قد أذنبتَ مبتسماً واللهُ خوَّف من يعصيهِ بالنَّارِ
ما لنَا وأهل النارِ في تعبٍ كم من عذابٍ لأهل النَّارِ في النَّارِ

* والرابع: البكاء من هيبة الله وهو بكاء الأنبياء، وما قال: { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ } [مريم: 58].
* والخامس: بكاء الشوق وهو لشعيب عليه السلام، حكي أنه بكى حتى أظلمت عيناه ثلاث مرات، وحكي أنه كانت لامرأة بنت صغيرة تبكي أبداً، فجاءت والدتها إلى الحسن البصري - رحمة الله عليه - فعرضت بنتها والتمست أن يحضرها، فجاء الحسن فقال لها: يا جارية إن لعينك عليك حقاً، قالت: إن عيني إن كانت تصلح لرؤية الله فألف مثلها في سبيله، وإن لم تكن أهلاً لذلك فدعها تعمى، فقام الحسن وقال: جئت واعظاً فوقعت بما أوعظ.
* والسادس: بكاء فوت الطاعة، قال الله تعالى:
{ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ } [التوبة: 92] وحكي أنه دخل رجل على فتح الموصلي وقال: يا شيخ كنت على بساط الأنس وفتح إلى طريق البسط، فتدللت وإليه فوقعت عمَّا كنت عليه فكيف السبيل إليه؟ قال: فبكى، قال: كلنا في هذا ولكن أنشدك أبياتاً سمعتها فبكيت عليها:

قف بالديارِ فهذه آثارهمُ تبكي الأحبةَ حسرةً وتشوقا
كم قد وقفتُ بها أسائلُ محبراً عن أهلها أو ناطقاً أو مشفقا
فأجابني داعي الهوى في رسمهَا فارقت من تهوى فعزَّ الملتقى

* والسابع: بكاء الحيلة، قال الله تعالى: { وَجَآءُوۤا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ } [يوسف: 16] فالإخوة كانوا يبكون احتيالاً شوقاً إلى الله، فشتان ما بين البكائين قوله تعالى: { وَجَآءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } [يوسف: 18] فحكي أنه لمَّا رأى يعقوب القميص قال: فلئن كان كما قلتم كان الذئب مشفقاً على القميص فلبسته أشفق على يوسف كما أشفق على القميص، فلئن كنتم صادقين فاذهبوا فخذوا الذئب وأتوني به، وكان يهوذا رجلاً إذا صاح على أسد سقط من هيبته، فأخذوا ذئباً ولوثوا مخالبه بالدم وأتوا يعقوب به مشدود اليد والرجل، فقال: خلوه فخلوه، فقال يعقوب: يا روبيل سله لم أكل يوسف، فسأله فلم يجبه، فقال يعقوب: لم لا تجيبه؟ فقال: يا نبي الله إن بنيك عقوك وعصوك، ونحن نُهينا أن نكلم العصاة، فقال: لم لا ترحم يوسف وفجعتني به؟ فقال: بعزة الله ما أكلت يوسف وإني مظلوم مكذوب علي، وأني غريب من بلاد مصر جئت لأهل قرابة لي ها هنا أنا لا أحوم حوم غنمك فكيف آكل ابنك؟ فقال يعقوب: فمن فعل؟ فقال: الله لا يتهك سر خلقه، فإنا لا أهتك سرهم، ولمَّا رأى يعقوب القميص صحيحاً مؤخراً غير مخرق رجا أن يكون يوسف حياً، فكذا حال المؤمن وإن تلوث بخطاياه فما دام لباس الإيمان صحيحاً فالرجاء باق.
قوله تعالى:
{ وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ } [يوسف: 19] قيل: خرج ثلاثة في طلب ثلاثة، فوجدوا ما هو خير من مطلوبهم؛ خرج موسى للاصطلاء فوجد الاصطفاء، وخرج طالوت في طلب حماره فوجد الملك.
وخرج وارد السيارة فأدلى دلوه، فأخرج به فوجد يوسف، وقيل: وارد السيارة كان شخصاً من جملتهم، ووارد المؤمن في طلبه الدعاء، ووارد السيارة لم يخب سعيه، فكذا سعي المؤمن في طلبه لا يخيب.
وقيل: لمَّا دخل يوسف في الجب لم يكن له بد من حبل يعتصم به الخروج، فأرسل إليه حبل السيارة فأخرج به، كذلك المذنب في جب العصيان محتاج إلى حبل يعتصم به؛ ليخرج منه وهو الالتجاء إلى الله تعالى بالعمل بكلامه واتباع أوامره كما قال:
{ وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً } [آل عمران: 103]، وكذا الالتجاء إلى بابه والفرار إليه من الذنوب كما قال: { وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ } [الحج: 78].
قيل: لمَّا مر سيارة بجب يوسف نجا بسببهم، فكذا المارون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا مروا بجهنم نجا المحبوسون من هذه الأمة ببركة شفاعتهم.
وقيل: طلب السيارة الماء فوجدوا يوسف، وطلب موسى النار فوجد النبوة، وطلب سليمان الحوت فوجد خاتم الملك، وطلبت امرأة العزيز يوسف فوجدت الإيمان، وطلب طالوت الحمار فوجد الملك، وطلب بنيامين الطعام فوجد أخاه، فمن لم يطلب يوسف وجده، وعمر رضي الله عنه لم يكن في طلب الإيمان حين قصد الرسول صلى الله عليه وسلم فوجد الإيمان، والسحرة لم يطلبوا الإيمان فوجدوا الإيمان، فإذا كان كذلك فالمؤمن يطلب رضا الله مدة عمره بأعماله أولى وأحق بأن يجد مراده.
قوله:
{ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } [يوسف: 20] لو خرجوا بما سواه لما اشترى؛ لأن قيمة يوسف كانت أكثر من أن يصل إليها الطالبون، فكذلك الجنة لو طلبت بما هو قيمتها بحقيقة لم ينلها أحد، وقال: القيمة لها.
وقيل: اطلبوها ولو بلقمة، ولو بحرفة، ولو تحية، ولو بكلمة طيبة حتى ينالها الطالبون أنه رأى واجدان المشابه في المنام بعد وفاته، وقيل له: كيف حالك؟ فقال: أحسن حالي، قيل: وبما نلت؟ وقال: كنت أمر يوماً ببعض الطرق فرأيت فقيراً حزيناً وكان معي تفاحة فأعطيتها إياه، فلمَّا مت وحدت تلك التفاحة قد سدت باب النار.
{ وَقَالَ ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ } [يوسف: 21] قيل الإحسان حسن إلى كل واحد وإلى المملوك أحسن؛ لأنه لا يجد ملجأ إليه ويعتصم به، وقال عزيز مصر: { عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَآ } [يوسف: 21] وكان كما توقع، وكذا قالت آسية بن مزاحم في حق موسى عليه السلام: { عَسَىٰ أَن يَنْفَعَنَا } [القصص: 9] فصدق ظنها ونالت المعرفة بسببه، وقال يعقوب: { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً } [يوسف: 83] فصدق بصدق ظنه، فكذا قول الله عز وجل: { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } [التوبة: 102] أولى وأحق أن يتحقق قوله تعالى: { وَغَلَّقَتِ ٱلأَبْوَابَ } [يوسف: 23] ليكون نظر يوسف إليها، وكذا إذا أكرم عبداً أغلق عليه أبواب الشهوات واللذات، ونفره عن الخلق حتى يكون جملة نظره مقصورة على أموره.
وقيل: غلبت هي الأبواب؛ ليكون يوسف معها ويخلو للشهوة، واللهُ تعالى فتح له باب العصمة؛ ليخرج طاهراً نقياً من بين ذلك ليعلم أن الباب الذي يغلقه المخلوق يسهل، والباب الذي يغلقه الله لا يفتحه أبداً أحداً، قال الله تعالى:
{ مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } [فاطر: 2] ولمَّا رد يوسف بتهمة وهمية أيد من الله تعالى بالعصمة؛ ليعلم أن من جاهد في الله أيد بتوفيقه كما قال: { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت: 69].
وقيل: كانت الحكمة في ذلك أن الملائكة قالوا:
{ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } [البقرة: 30] فابتلوا بهاروت وماروت، وموافقته المرأة من غير مراودة منها، وعصم يوسف مع حسنه وجمال المرأة ومراودتها ليكرمه بالعرض على الملائكة، ويعلمهم أنه يعلم ما لا تعلمون، كما قال الله تعالى: { إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 30] والنكتة فيه أنه لمَّا التجأ في ابتداء الأمر إلى الله واستعاذ به أعاذه وعصمه، فينبغي للمؤمن أن يفزع في ابتداء هوله إليه ليعيذه، وكذا ينبغي أن يكون أمر المؤمن في إشارة رضاء الله أغلب من إشارة هوى نفسه، فقد قيل خمسة أشياء من أعجب العجائب:
* أحدها: أن الله تعالى [مهد ويسر] للخلق ما في الأرض، ثم إنهم يبخلون برغيف.
* والثاني: أنه أمدهم بنعمه، قال:
{ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ } [النحل: 53]، ثم إنهم استعملوها في خدمة عدوه.
* والثالث: أنه يغيث لمن استغاث، وهم يفزعون إلى مخلوق ضعيف لا ينفع ولا يضر في إلا بإغاثة الله تعالى إياه كذلك.
* الرابع: أنهم يرجون ثوابه، ثم يعملون للخلق.
* والخامس: أنه خالقهم ورازقهم وملكهم، وتمر إليه كل أمورهم وهو مطلع عليهم، ثم أنهم يستحيون عنه في ضعيف مثلهم ولا يستحيون منه.
وقيل لمَّا اجتمع يوسف والمرأة في موضع واحد صاح الشيطان فرحاً، قال: ظفرت به، فرد فرحه بعصمة الله، ولمَّا وصل موسى إلى البحر وكان وراءه فرعون وجنوده فرح الشيطان وقال: البحر أمامهم والسيوف وراءهم ولم يدر أن النجاة كانت حظهم من الله تعالى، فكذلك أمر المؤمن وقت النزع إن أيد بعناية لن يضره من شيطان ونجا من المخاوف على مراغمة الشياطين عصمنا الله في شرهم.
وروي أن كافراً قتل مسلماً في غزاة، ثم إن القفل انفتح في قلب القاتل وأقبل إلى صف المؤمنين، وآمن وأقبل على الكفار وقاتلهم حتى قتل فدفنا في موضع واحد، وروي أنهما معاً في الجنة، فإذا كان الله معك فمن يضرك، وإذا كان الله عليك فمن ينقذك، وإذا نصرك فمن يهينك، وإذا خذلك فمن ينصرك، جعلنا الله من المحظوظين بعنايته ورعايته.
وقوله:
{ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي } [يوسف: 26] لمَّا بهتت عليه أخذ يقضي عن حقيقة الحال، ولو لم يبهت لما فضحا قوله: { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ } [يوسف: 26] قيل كان صبياً في المهد شهد بذلك كرامة ليوسف، ولم يكن ضمير في يوسف أن ينطق الله ذلك النبي، فلمَّا حفظ يوسف أمر الله حفظ أمره وأنطق ببراءة يوسف.
وقوله:
{ وَٱسْتَبَقَا ٱلْبَابَ } [يوسف: 25] لمَّا دفع يوسف قدماً لله تعالى لا آثما به، أيده الله بعصمة، ولمَّا تحير التجأ إلى الله تعالى فأعانه وحكي أن واحداً من المشايخ جاور مكة عشرين سنة، فاشتهى اللبن فخرج بطلبه فوقع بصره على جارية عسقلانية وشغف قلبه بها فقال: يا جارية أين تذهبين؟ فقالت: يا شيخ لو كنت عارفاً لما تبعت شهوتك، ولو كنت صادقاً في دعوى المحبة لما تعلق قلبك بي، ولمَّا تجاسرت على النظر إلي، فلمَّا سمع الشيخ كلامها ندم وقلع عينيه بإصبعه ورمى بها، فمضت أيام وأزالت الألم عنه القرار، فرأى ليلة يوسف في منامه وقال له: أقر الله عينك بسلامتك عن الجارية العسقلانية، ومسح بيده عينه، فاستيقظ وله عينان مضيئتان أشد ضوءاً مما كانت قبله.
وقوله: جزاء عنها
{ قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوۤءًا } [يوسف: 25] إلا كانت تكرمه وتعظمه وتدار به، فلمَّا وصلت إلى حضرة سيدها، وخافت سطوته قلبت الأمر وسعت به وخاصمته { قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوۤءًا } [يوسف: 25] فكذا العبد ينفق عمره على مراعاة الأهل والولد ويسعى بأمورهم، فإذا رأى أهوال القيامة، وخاف من سطوة الملك الجبار أعرض عن الكل كما قال: { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ } [عبس: 34-35].
فمحبة العادات تدوم إلى مخالفة الحبيب فحينئذ تنقطع، ومحبة الشهوات تدوم إلى زوال الشهوة، ومحبة الولادة تدوم إلى الموت، ومحبة الواصلة تدوم إلى الفراق، ومحبة العشق إلى أن تتباعد، ومحبة الطمع في الأغنياء تدوم إلى المنع والرد، ومحبة التعاون على أمر الحق والتوافق على الاعتقاد والحق تدوم إلى الجنة كما قال:
{ ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } [الزخرف: 67] ومحبة الحق تعالى مؤبدة كما قال الله تعالى: { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة: 54].
ولمَّا شهد اليهود على مريم بالفساد، وشهد عيسى ببراءتها كما قال:
{ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ } [مريم: 30] إلى قوله: { وَبَرّاً بِوَٰلِدَتِي } [مريم: 32] ولمَّا رمي يوسف بالتهمة شهد الصبي ببراءته، ولمَّا شهد الكفار بأن الله اتخذ ولداً شهد المؤمنون ببراءته وتقديسه غير ذلك، ولمَّا شهد المنافقون على عائشة - رضي الله عنها - مما لم تفعل برأها الله مما قالوا، ويحكى أنه لمَّا نال يوسف الملك أمره الله على لسان جبريل بأن يجعل ذلك الشخص الذي شهد ببراءته وهو في المهد وزيراً له قضاء لحق شهادته له، فنرجو أن الله لا يضيع شهادتنا بتوحيده وتقديسه مدة عمرنا.
وقيل: إن المرأة لم تدر ان الشاهد في البيت ولو علمت ما فعلت فالعبد المذنب لو استيقظ من نوم الغفلة وعقل وعلم أن الشهود منه مستبقياً كأنه يراهم، لما أقدم على المعصية، قال الله تعالى:
{ وَٱللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [البروج: 9] وقال: { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق: 18].
وقوله:
{ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [يوسف: 28] قيل: سمي عظيماً؛ لأنه بهتان وذنب البهتان أثقل من السماوات، وإنما قال: { وَخُلِقَ ٱلإِنسَانُ ضَعِيفاً } [النساء: 28] لأن الآدمي يسعى مدة عمره في نيل مراده، ثم يموت قبل أن يناله.
وقوله:
{ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا } [يوسف: 29] قيل: فعل عزيز مصر فعل الكرام؛ لأنه قال في الابتداء: { أَكْرِمِي مَثْوَاهُ } [يوسف: 21] ولمَّا رأى تلك الحالة لم يتعجل بعقوبته، ثم تثبت وتعرف الحال حتى شهد شاهد بذلك، ولمَّا بيَّن الأمر عفا عن المجرم ويشفع إلى المظلوم بقوله: { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا } [يوسف: 29] أو قيل: لمَّا قصد يوسف الخروج من دارها وجد العصمة، فكذلك المؤمن إذا قطع طريقه عن الشيطان وهي الدنيا وجد العصمة أيضاً.
ويحكى أنه كان لشقيق البلخي صاحب، فخرج يوماً بيت نار المجوس لينظر فاعتبر به، فرأى شيخاً يوقد النيران فرأى جارية بين يديه لم ير أحسن منها فعلق قلبه بها، وقال: ليتني أرزق هذه، فخرج من بيت النار وفرش السجادة وجعل يبكي ويتضرع، فلمَّا كانت وقت الصبح سمع صياحاً داخل البيت وقيل: ماتت الجارية، فسمعوا صوتاً أخرجوها إلى الرجل حتى يقرأ عليها فتصح، فأخرجوها فرآها مغشياً عليها لعله عرفها، فقال: أن برأت هل تسلم وتزوجنيها؟ قال: نعم، فقرأ عليها القرآن فأفاقت وبرأت وأسلم الرجل وأسلمت الجارية وزوجها إياه وأسلم جماعة بيت النار.
وعن علي بن معاذ أنه خرج إلى مقبرة بالبصرة فرأى شاباً في زاوية عرياناً يقول: يا سيد ما أعظم ما ورايتني، وما أجمل ما ألبستني، فقال له: تقول هذا وأنت عريان؟ قال: عراني مما يورث الندامة وألبسني ما يورث الكرامة، وعراني مما يوجب الملامة وألبسني مما يوجب السلامة، وإن يوسف خاف عن معصية الله حتى هرب، وإن الإيمان أصل الخوف، فمن لا خوف له لا إيمان، فلما كادت تلك المرأة رجع وبال كيدها إلى نفسها حتى أقرت بذنبها، وقال:
{ ٱلآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ } [يوسف: 51] أنا راودته ليعلم أن المكر لشيء حاق بأهله، كاد نمرود إبراهيم فأهلكه الله ونجا إبراهيم، وكاد فرعون موسى فدمر عليه ونجا موسى من كيده، وكاد تسعة رهط صالحاً فنجا وأهلكوا، وكادت قريش الرسول صلى الله عليه وسلم فأهلكوا وأظفر عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
قوله:
{ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ } [يوسف: 30]، قيل: أحببن ثلاث نسوة ثلاثة من المؤمنين فنلن أكبر مما طلبن:
* الأولى: أحبت امرأة العزيز يوسف عليه السلام فنالت من بركته المعرفة، فيحكى أن هؤلاء النسوة اللاتي قطعن أيديهن قلن ليوسف وهو في السجن: أحب سيدتك التي اشترتك وإن أردتنا فنحن لك، فيقول يوسف: معاذ الله لا أعصي الله وإن بقيت في السجن، ولمَّا علم عزيز مصر أن امرأته عشقت يوسف حلف أنه لا يخرج من السجن ما دام حيّاً، فتفكرت المرأة وقالت: شاب حديث السن ويخاف عقوبة الله فأنا أولى أن أخاف، فآمنت واشتغلت بعبادة الله تعالى.
* الثانية: آسية امرأة فرعون أحبت موسى فنالت ببركة موسى الجنة
{ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ٱبْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي ٱلْجَنَّةِ } [التحريم: 11].
* الثالثة: خديجة - رضي الله عنها - أحبت محمداً صلى الله عليه وسلم قبل النبوة نالت بركة الهداية بالإسلام، فمحبة أولياء الله سبب لنيل الرحمة فما ظنك بمحبة الله تعالى.
وقيل أيضاً: هؤلاء النسوة أصابتهن الغمة والمحنة، فالغمة نعمة الضيافة، والمحنة قطع الأيدي، ثم كن تنسين الكل عند رؤية يوسف، فكذا المؤمن تصيبه النعمة والمحنة في الدنيا، وفي القبر يرى الوحشة، وفي القيامة يرى الأهوال، وعلى الصراط يرى أنواع عذاب جهنم، وفي الجنة يرى ألوان نعمها، فإذا أكرم برؤية الله تعالى نسي الكل وشغله عن كل نعيم، قال الحسن: لو يبقى أهل الجنة في الرؤية على حالتهم لا يخطر ببالهم شيء.
وقيل: هؤلاء النسوة يحملن ما أصابهن في مشاهدة يوسف، وكذا المرء يتحمل مؤنة الزوجية بمشاهدة الأهل والولد فكيف لا يتحمل مدعي المحبة الله تعالى مشقة بلائه طمعاً في مشاهدته؟
وقيل: هؤلاء النسوة لمَّا شغلن بجمال يوسف قطعن أيديهن ولم يحسسن بذلك، فلمَّا أفقن وجدن ألم القطع والتلوث بالدماء وبقيت الحسرة عليهن، فكذا طالب الدنيا يتعب نفسه بطلبها ويتحمل المشاق في جمعها ويبتلى بذلك ولا يحس بآلامها، ثم عند انقطاع الأنفاس يفيق من سكرته ويرى ديوانه مسوداً بالسيئات وعمره ضائعاً في الزلات ويبقى في غصص الحسرات نعوذ بالله منها.
وقيل: أكمل الله تعالى ليوسف ثلاث أشياء الحسن كما روي أنه أعطي ثلثي الحسن، وحكي أنه في سنة الجدب كانوا ينظرون إليه فيشبعون، وكانت رؤية عذابهم وكانوا لا يحسون بألم الجوع في مشاهدته، وأكمل له المحبة أيضاً فجمع له بين فراق الوالد وغصة الغربة ومشقة الجب والحبس والابتلاء بالنسوة، وأكمل له العصمة حتى عصم مع شدة السيئات، وشره الشهوة، وجمال النسوة، وإمكان انتهاز الفرصة، والتمكن من قضاء الشهوة في الخلق.
وقوله:
{ قَالَ رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ } [يوسف: 33] أي: الدعاء باسم الرب آداب الملائكة والأنبياء المرسلين، قال الله تعالى خبراً عن حملة العرش: إنهم يقولون:
{ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ } [غافر: 7].
وقال إبراهيم:
{ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } [الصافات: 100] { رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي } [إبراهيم: 37] { قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي } [نوح: 21]، قال موسى { رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلأَخِي } [الأعراف: 151] وقال شعيب: { رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ } [الأعراف: 89] وعلَّم نبينا - صلوات الله وسلامه عليه - يدعوه باسم الرب قال: { ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً } [آل عمران: 191].
وقيل: قال يوسف:
{ رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ } [يوسف: 33] وقال الغافل: الدنيا أحب إليَّ ورضي بالحياة الدنيا، وقال الكافر: عبادة الصنم أحب إليّ ورضي بالحياة الدنيا { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ ٱللَّهِ } [البقرة: 165]، وقال المؤمن: الرب أحب إليّ من نفسي وروحي { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ } [البقرة: 165] وكلٌّ موكلٌ بمحبوبه، فللكافر صنمه ولصاحب الدنيا دنياه، وللمؤمن مولاه كما قال: { أَنَّ ٱللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ } [الأنفال: 40].
وقيل: السجون ثلاثة: سجن يوسف، وسجن يونس، وسجن المؤمن.
* قال يوسف:
{ قَالَ رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ } [يوسف: 33] أي: من فراق الخليل، وعصيان الجليل، ومن مقاساة النيران، ومن سرابيل القطران.
* وأمَّا يونس: فلمَّا حبس أقر بالظلم على نفسه فقال:
{ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } [الأنبياء: 87] ولما ذم نفسه فهو ممدوح، ولمَّا مدحه الله بقوله: { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ } [الصافات: 143] ليعلم أن من مدح نفسه فهو مذموم، ومن ذم نفسه فهو ممدوح، ولمَّا مدح إبليس نفسه فقال: { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ } [الأعراف: 12] ذمه الله تعالى بقوله: { أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ } [البقرة: 34] فلمَّا ذم آدم نفسه بقوله: { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } [الأعراف: 23] مدحه الله تعالى { ثُمَّ ٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ } [طه: 122] وكذا الكفار مدحوا أنفسهم فقالوا: { أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ } [الأنعام: 53] فذمهم الله بقوله: { أَوْلَـٰئِكَ هُمْ شَرُّ ٱلْبَرِيَّةِ } [البينة: 6] ولمَّا ذم المؤمنون أنفسهم بقولهم: { ربَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } [الأعراف: 147] مدحهم الله تعالى بقوله: { ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ } [التوبة: 112].
*وأما الدنيا فإنها سجن المؤمن وإن كان غنياً متنعماً فيها، فذلك بالإضافة إلى نعيم الجنة سجن وأن الكافر وإن كان فقيراً فذلك بالإضافة إلى عذاب الآخرة جنة.
وقيل: سميت الدنيا سجن المؤمن؛ لأن من سجن فإنه يقدم ما معه إلى بيته، والمؤمن ينبغي أن يقدم ما معه إلى داره وهي الآخرة.
* ولأن المسجون أبداً يلزم نفسه ويقول: مالي ولهذا العصيان، والمؤمن يقول: مالي وزخارف الدنيا وغرورها ومكرها.
* ولأن المسجون ممنوع من مراده ومقصوده كما شاء، فكذا المؤمن ممنوع عما يشاء ويهواه من أمانيه البطالة.
* ولأن المسجون يخاف كل ساعة أنه يخرج ويقام عليه الساسة، والمؤمن ممنوع عما يشاء ويهواه من أمانيه إلى القيامة ويقام عليه ما يستحقه.
* ولأن المسجون يجتهد أن يرضي خصومه لئلا يتظلموا عليه عند الملك فيقسم عليه الساسة، فكذا المؤمن يجتهد في دنياه أن يرضي خصومه لئلا يخاصموه بحضرة مولاه غداً.
* ولأن المسجون يتضرع إلى الثواب والحجاب وكل نفس لها تعلق بالملك ويتشفع به وإليه في أمره، فكذا المؤمن يتوسل بكل أحد إلى الله تعالى ويسأل الله بكل لسان بأن ينقذه عن مهاوي الهلكة.
* ولأن المسجون يدعي رفع الصفة كل يوم بل كل وقت فلعل الملك يرحمه في وقت من الأوقات، فكذا المؤمن ينبغي ألاَّ يفتر عن رفع قضيته كل ساعة فعسى الله أن يرحمه.
* ولأن المسجون إذا جوزي في السجن ولم يفضح بين أيدي الناس فذلك أهون عليه، فكذا المؤمن إذا ابتلي في دار الدنيا فإنه يحمد الله على أن جوزي بذنوبه في هذه الدنيا الفانية ولم تؤخر عقوبته إلى دار البقاء.
* ولأن المسجون يرجو الفرح وإن كان على خطر ولا يأمن وإن كان يرجو الخروج، فكذا المؤمن يرجو عمره بين خوفه ورجائه إلى أن ينتهي عمره.
وقوله:
{ يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً } [يوسف: 41] قام الطباخ والساقي فرأيا رؤياهما فوصل أحدها إلى نعيم الدنيا، والآخر إلى العقوبة، { فَرِيقٌ فِي ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ } [الشورى: 7]، ولو كان يعلم الطباخ ما يرى في منامه لما نام، فكذا الغافل لو أن يدري ما يصيبه من الغفلة ما غفل ساعة، والساقي ترك الخيانة وأشفق على سيده ولم يداهن فنجا وفاز، والطباخ خان وداهن وأعرض عن مراعاة حق سيده فهلك، فكذا أمر الخائن العاصي المداهن المعرض عن طاعة الله المتبع أوامر أعدائه قال الله تعالى: { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ } [الكهف: 50].
ويحكى أنه لمَّا دخل يوسف السجن بكى وقال: هذا غضب مخلوق فكيف سخط الخالق؟ فقيل له: أطلب منه ألاَّ يحبسك، فقال: هو ربي يفعل ما يشاء، وإنما قال هذا يعني الله تعالى، فظنوه يعني مشتريه، فقالوا: نعم العبد هو لمولاه.
وقوله:
{ يُوسُفُ أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُ } [يوسف: 46] اعمل أنه سمى الله تعالى إبراهيم صديقاً، قال: { وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً } [مريم: 41] وسمى إدريس صديقاً: { وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيَّاً } [مريم: 65] وأخبر عن تسمية يوسف صديقاً: { يُوسُفُ أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُ } [يوسف: 46].
وسمى مريم صديقة:
{ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } [المائدة: 75]، وسمى أبا بكر: صديقاً، { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ } [الزمر: 33] وسمى المؤمنين صديقين: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَ } [الحديد: 19].
وأعطى إبراهيم الخُلة،
{ وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } [النساء: 125]، وأعطى إدريس الرفعة { وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } [مريم: 75] ويوسف التمكين { وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ } [يوسف: 56]، ومريم الاصطفاء والطهارة كما قال: { إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَـٰكِ وَطَهَّرَكِ } [آل عمران: 42] والصديق الخلافة كما قال: { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ } [النور: 55] والمؤمنين ملازمة الإيمان كما قال: { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ } [الفتح: 26].
قوله:
{ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً } [يوسف: 47] قال يوسف لهم: ما بين أيديكم أيام السعة ومن بعدها أيام المحنة، فادخروا في السعة للضيق، ومن أيام النعمة لأيام المحنة، ومن أيام الزائلة لأيام الباقيات، فيا مؤمن أنت في دار الدنيا في نعمة ومكنة وفسحة، فخذ من نفسك لنفسك، ومن حياتك لموتك، ومن فراغك لشغلك، ومن غنائك لفقرك.
وقوله:
{ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ } [يوسف: 47] أي: إن إظهرتموه فأصابه الغبار والآفات وأكله الديدان والأكلة، فييأسون من جعل طاعتك تخفياً كيلا يصيبها آفات الرياء والعجب فتحبط وتصير هباءً منثوراً، وكان أمر براءة يوسف خافياً، فلمَّا باحت وأظهرت الستر { حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ } [يوسف: 51] وأقرت هي بجرمها وببراءة يوسف، فكذا في القيامة بتبين أمر المطيع من أمر العاصي، ويتيمز المجرم من الصالح كما قال: { وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ أَيُّهَا ٱلْمُجْرِمُونَ } [يوسف: 59]، وقال: { يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ } [الطارق: 9].
وقيل: من له ذخيرة في أيام القحط فإنه يكون مسرور الحالة، ومن يكون فقيراً معدماً فإنه يكون حزيناً متحيراً، فكذا أمر المطيع والعاصي في القيامة؛ فالمطيع:
{ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } [الحاقة: 21-22] والعاصي في حسرة يا لها من حسرة { يَقُولُ يٰلَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } [الفجر: 24] وفي القحط يتضرع الفقير إلى الغني ولا يغنيه ذلك، وكذلك في الآخرة يتضرع العاصي إلى المطيع؛ لينجو عليه بحسنة ولا تسمح نفسه بذلك لا يتحمل عنه خطيئة واحدة كما قال: { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ } [فاطر: 18].
ويحكى أنه لمَّا اشترى يوسف أهل مصر ولم يبق لهم شيء وبقي من سنين القحط بقية قالوا ليوسف: نحن الآن عبيدك ونفقتنا عليك وقد جعنا، فتحير يوسف فأتاه جبريل وقال: اخرج إليهم فإن الله تعالى جعل مشاهدتك غذائهم، فأمر يوسف أن يخرج أهل مصر بنسائهم ورجالهم وصبيانهم ويقفوا بالطرقات ففعلوا وخرج يوسف ومر بهم، فلمَّا رأوه شبعوا ولم يحتاجوا إلى الطعام والشراب وإلى أسبوع آخر، فجعل الله لقاء يوسف غذاء لهم سنة كاملة إلى أن حصل الخصب والنعمة، وإنما لم يلم يوسف في تزكية نفسه
{ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [يوسف: 55] لأنه راد حفظ أمور الرعية، وبث العدل بينهم، والإنفاق عليهم بقدر ما يكفيهم لئلا يهلكوا بسنين الجدب، وأراد بتولي ذلك إبقاءً عليهم، ومراعاة لحياتهم، وأراد تحقيق رؤياه؛ ليصل إليه إخوته منقادين خاشعين لحاله، ويصل هو إلى لقاء الشيخ الجزين عليه السلام.
قوله:
{ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } [يوسف: 58] قيل: إنما أنكروا؛ لأنهم كانوا قد جفوه، والجفاء يورث الوحشة ويذهب الألفة، ويورث المخالفة ويذهب الموافقة، ويورث المحاربة ويذهب المسالمة، ويبعد ولا يقرب، وينكر المعروف، ولمَّا صفوا تحت سريره فكان بلسان الحال ناداه انظروا ماذا فعلتم بيوسف؟ وماذا صنع الله به؟ أنتم أهنتموه واللهُ أعزه، وأنتم جعلتموه في الجب واللهُ جعله على سرير الملك؛ ليعلم العالمون أن العزيز من أعزه الله، والذليل من أذله الله، { تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ } [آل عمران: 26].
وقيل: إن يوسف جعل في الجب ثم في السجن، فلم يعرضه الله تعالى في تلك الحالة على إخوته، ولمَّا توجه بتاج الملك عرضه عليهم، وكذا أمر المؤمن يكون نطفة ثم علقة ولا يعرض في هذه الأحوال، فإذا تمت خلقته وكملت صورته أظهر وعرض، ثم إذا توفاه يعرض للإتيان أماته وأقبره، فإذا أعاد خلقه عرضه مكرماً بلباس التوحيد متوجاً بتاج الملك كما قال:
{ يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً } [مريم: 85].
ويحكى أنه لمَّا دخل إخوته مصر نادى منادٍ: لا ينبغي أن يبايع ويشاري الكنعانيين أحد؛ لأن الملك يريد مبايعتهم وكأنهم قالوا في أنفسهم: ولم لم يعد لهم بمنادٍ ينادي: لا ينبغي أن يبايع ويشاري الكنعانيين، فأجابهم بلسان الحال؛ لأن معظم مقصود يوسف بتمكينه كان أولئك فحسب، كما قال اليهود والنصارى:
"ما لنا أكثر عملاً وأقل أجراً، وأمة محمد أقل عملاً وأكثر أجراً، فقيل لهم: أظلمتكم شيئاً؟ وهل أنقصتكم شيئاً من أجوركم؟ فقالوا: لا، فقيل: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" ، فالمقصود هو محمد وأتباعه، وقيل: "لولا محمد صلى الله عليه وسلم لما خلق آدم" .
وحكي أنه كان يؤخر قضاء حاجات إخوته كيلا يتنحوا عن بابه ويكونوا بحضرته، وكان يسارع في قضاء حاجات الأغيار؛ ليصرفهم عن بابه، فالله يقضي حاجات المطرودين عن قريب لئلا يكونوا على بابه، ويؤخر قضاء حاجات المؤمن؛ ليبقى على بابه.
قوله تعالى:
{ فَٱللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً } [يوسف: 64] لما استحفظ الله ابنه حفظه ورده إليه، فإنه لا يضيع، قوله: { يٰبُنَيَّ } أضافهم لنفسه وإن جفوه ولم يقطع نسبهم بسبب جفائهم كما قال تعالى: { يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } [الزمر: 53].
وقوله:
{ وَٱدْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ } [يوسف: 67] قال: هذا الافتراق بقي في بني إسرائيل، انفلق البحر لهم اثنتي عشرة فلقة كما قال: { فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ } [الشعراء: 63].
وقال:
{ وَقَطَّعْنَاهُمُ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً } [الأعراف: 160] وقال: { فَٱنفَجَرَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً } [البقرة: 60] وقال: { وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً } [المائدة: 12] وقال في حق المؤمنين: { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } [الأنفال: 63] وقال: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } [الأنفال: 45] وقال: { إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَاتِ وَٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } [الأحراب: 35] وقال: { وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [التوبة: 71] فلا ينبغي للمؤمنين أن يتفرقوا؛ بل ينبغي أن يكونوا كنفس واحدة يشد بعضهم بعضاً.
وقيل أربعة نفر أمروا بدخول أربعة أبواب كما قال:
{ وَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } [البقرة: 189] وذلك لموافقة الشرع ومخالفة الهوى، وأمروا إخوة يوسف بدخول أبواب مصر؛ لكمال النفقة وحسن المقال: { لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ } [يوسف: 67] وأمروا الكفرة بدخول أبواب النار لإظهار العقوبة والنكال كما قال: { ٱدْخُلُوۤاْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا } [الزمر: 72] وأمر المؤمنين بدخول الجنان بكمال الكرامة وإظهار النوال كما قال: { ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } [الأعراف: 49].
وقيل: أربعة أبواب فتحت لأربعة نفر لأربعة أشياء فتحت أبواب النعمة للغافلين؛ للاستدراج والإمهال كما قال:
{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } [الأنعام: 44]، وفتحت أبواب السماء على قوم نوح للخزي والنكال كما قال: { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ } [القمر: 11]، وفتحت أبواب النار على الكفار للعقوبة والسلاسل والأغلال كما قال: { حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [الزمر: 73]، وفتحت أبواب الجنان على المؤمنين للفضل والأفضال كما قال: { وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلّجَنَّةِ زُمَراً } [الزمر: 73].
وقوله:
{ وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ } [يوسف: 65] كان ظاهر الدنيا الإهانة، وباطنها الإكرام كما كل ممنوع ومردود مهان، وليس كل من لا يستطيع الحج مطروداً، ولا كل من لا يجد مالاً يتصدق به مهجوراً، وقوله لموسى عليه السلام: { لَن تَرَانِي } [الأعراف: 143] لم يرد بذلك إهانته؛ بل إكرامه إذا لم يكن يطيق ذلك، أو لو تجلى له لما بقي كما يدك الجبل، فالدنيا دار البلاء لا دار الفناء مع هذه الدنيا الخسيسة كيف ينال العبد شرف رؤية الله تعالى وهو أشرف كل شرف وأكرمه، وروي عن عبد الله بن المبارك أراد يغزو سنة فلم يوفق لذلك تلك السنة، فحزن لذلك فرأى في المنام: لا تحزن، فإنك لو غزوت لأسرب، ولو أسرت لكفرت.
وورد في حكاية أنه خرج واحد للحج فلمَّا جاء فاته وقت الحج فقال: آه، فأعجب بتأوهه إنسان فقال له: كذا حجة أبيعك بهذه التأوه، فقال: اشتريتها، فرأى في المنام أنك ما تعرف قدر ذلك التأوه وبعته رخيصاً، ورأى المشتري في منامه أنه قيل له: اشتريت التأوه رخيصاً، فذلك الأنين خير لك من كذا وكذا حجة.
{ وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ } [يوسف: 65] فاستبشروا، كذا المؤمن عند الموت إذا كان معه بضاعته فرح فرحة لا يوازيها فرحة، ومن خسر الأصل والربح بقي في حسرة لا يوازيها أعاذنا الله منها.
وقوله:
{ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا ٱلْعِيرُ } [يوسف: 70] ذكر في القرآن أذان الظالمين { فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ } [الأعراف: 44] وأذان الحاج، { وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ } [الحج: 27]، وأذن البراءة في المشركين { وَأَذَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلنَّاسِ } [التوبة: 3]، وأذان إخوة يوسف { ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا ٱلْعِيرُ } [يوسف: 70] فأذان الظالمين لتعسرهم وطردهم، وأذن المشركين للبراءة منهم، وأذان الحاج للدعوى والكرامة، وأذان إخوة يوسف للعتاب والملامة، ونسبة بنيامين إلى الشرف لم يكن إهانة له؛ بل كان تدرجاً في إكرامه؛ لينتزعه من أيديهم ويمسكه عنده على أكرم وجه، وهذا كما خرق الخضر عليه السلام السفينة لا ليغرقها؛ بل لينقذها من أيدي الظالم الغاصب، ثم لمَّا نجا أهلها أصلح بلوح أعاده فيها، فكذا بنيامين استنقذه من أيديهم ثم لمَّا وصل يعقوب إلى يوسف أظهر الحال وبان أن ذلك كان تدرجاً إلى إعزازه وإكرامه.
قال المؤذن:
{ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ } [يوسف: 72] لأنه كان سقاية الملك وكان مخصوصاً، فمن كان يأتي به فله النوال، ومن كان يكيد له فعليه النكال، وكذا قلب المؤمن خزانة أمر الحق فمن أتاه به فله النوال، ومن أخان له عن حقوقه خيف عليه النكال، والصدوق إذا لم يكن فيه جوهر فأي قدر له، فالقلب إذا لم يكن فيه اهتمام بأمور الآخرة فأي قدر وقيمة له قلب ملة أمور الحق فأكرم به من خزانة، وفي محالات الدنيا فحظر الحسرات قال الله تعالى: { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكْرَىٰ } [الفجر: 23].
وقيل: استدرجهم يوسف على أحسن وجه ففرحوا وقالوا: رعانا الملك برعايته، وعاملنا باللطف ولم يشعروا بالأمور المعقب عنهم حتى ساروا قليلاً، فأذن مؤذن خلفهم:
{ أَيَّتُهَا ٱلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } [يوسف: 70] فانصرفوا عن وجهتكم، فكذا العبد يقر بنعمته، وحصول مآربه، وتيسير مقاصده، ولا يعلم الشر المعقب إلى أن يحضره الموت، فإذ ذاك تبين حقيقة حاله من المقربين أم من المستدرجين.
وقيل: الحكمة في ذلك مكافأتهم بأن لم يرحموا يوسف حتى كان يتضرع إليهم في أن لا يجعلوه في الجب فلم يجيبوه إلى ذلك فكان فكافأهم بأن ألجأهم إلى أن يتضرعوا ويقولوا:
{ قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً } [يوسف: 78] فتضرعوا إليه ولم يسعفهم بمرادهم، ثم مع ظهور أمر السرقة وخوف الساسة والنكال فادوا أخاهم بأنفسهم وقالوا: { فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ } [يوسف: 78].
وقيل: فعل إخوة يوسف ما لم يكن لهم أن يفعلوه فبقوا مدة أربعين سنة وأكثر في غم جفاء الأخ وعقوق الوالد ومعصية الرب، فكذلك العبد العاصي يغر بالدنيا ويعصي الله غافلاً، ثم يفاجئه الأجل فيفارق الدنيا ويتوجه إلى الآخرة ويدخل القبر إلى يوم النشور ومعه عمله وحكم الحاكم العدل الذي لا يميل ولا يخال قدامه، وفقنا الله لما فيه نجاتنا، ولا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
ويحكى أن يوسف عليه السلام كان إذا اجتمع إخوته على بابه أمره بنيامين ليقف بالعرش، وإذا خلا به أحله على سرير الملك، وكان إخوته إذا رأوه حزنوا فيما أصابه، فكذا المؤمن المقبول يأتيه الموت ويجعل في حصار لحده ويبكي أقاربه عليه ويقولون: المسكين بقي في وحشة القبر وظلمته، ولا يدرون أنه في لذة ما توازيها لذة، وفي راحة لا تساويها راحة كما قال:
{ يٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي } [يس: 26-27] ولمَّا أرادوا أن يذهبوا بنيامين معهم قالوا: { فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا } [يوسف: 63] فنسبوه إلى أنفسهم ولمَّا رأوه بالسرقة لم ينسبوه.
وقيل: إن ينتهي بلاء بقرب سبب رد السائل وذبحه العجل بحضرة أمه، ثم ينفرج وينكشف، فما أمر البلاء إلى الفرج بعد اشتداده وقوله تعالى:
{ وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَٰأَسَفَىٰ عَلَى يُوسُفَ } [يوسف: 84] كأن خلا عنهم بنفسه، واشتغل بما ابتلي به، وتأسف على يوسف، فلهذا كان خوفه على يوسف أشد، وأتاه كيدهم فإنه مقيم باختياره.
وقوله:
{ وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ } [يوسف: 84] إشارة إلى أنه ينبغي أن يذكر الأنبياء بالحرمة، فلم يقل عمي عند بلائه بعبادة حسنة، فقال: { وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ } [يوسف: 84].
وقوله:
{ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [يوسف: 86] إنما قال ذلك لأنه روي أنه أتاه ملك الموت وهو في صومعته فسلم عليه، فقال له يعقوب، من أنت؟ فقد اقشعرت أعضائي واضطربت بسلامك، فقال: أنا ملك الموت الذي لا يمنعني حصن حصين، فقال يعقوب: كنت أرجو أن أرى يوسف قبل أن أموت، فالآن جئتني لقبض روحي، فقال: ما جئت روحك ولو جئت كذلك ما أمهلت ساعة، فقال له يعقوب: بحق الله هل قبضت روحي يوسف؟ قال: لا هو حي وستلقاه عن قريب.
فلذلك قوله:
{ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [يوسف: 86] قال بعض أهل الإشارة: لمَّا كان خوف يعقوب من قبض ملك الموت روح يوسف أتاه الأمن جهة خوفه فبشره ملك الموت، فكذا المؤمن خوفه من الموت ولا خوف على المؤمن إن مات على الإيمان كما قال: { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ } [فصلت: 30].
وروي أيضاً: أن يوسف كان يوماً في الصحراء فرأى أعرابياً ركاب نجيبة فقال له: أين تقصد؟ قال: كنعان، فقال يوسف: لي معك سفر فمن حقك أن تحقني ما أعهد إليك، فعاهده الأعرابي أن يأتي بما تعهد إليه، فقال له: إذا دخلت أرض كنعان فاذهب إلى يعقوب فقل له: إن ابنك يوسف بأرض مصر، وإن طلب منك علامة فالعلامة هذه السقطة على سرتي، فلمَّا وصل الأعرابي إلى أرض كنعان أتى إلى يعقوب وقال: يا نبي الله أبشر فيوسفك المفقود بأرض مصر ويقرأ عليك السلام، فقال: بأي علامة؟ فذكر العلامة، فقال: ما حاجتك؟ فقال الأعرابي: لي مال كثير وليس لي ولد، ادعو الله لي بالولد فدعا له فرزقه بنين له، فلهذا قال:
{ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [يوسف: 86].
فألمى يعقوب كتاباً فكتبوه:
من يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم خليل الله إلى والي مصر:
اعلم أني قد كبرت وضعفت، وذهب عني النوم [والراحة]، ونحن أهل بيت هم أهل البلاء، وهدف المحنة، وامتحنت بفارق قرة عيني يوسف منذ أربعين سنة أنا مبتلي بفراقه، وهذا الابن الآخر اتهمته بالسرقة وهو ابن نبي الله وليس بسارق، فالله الله أرسله إلي فهو مؤنسي، وإن لم ترسله إلي ضرك دعائي عليك، فإن الله لا يرد دعاء المظلومين، ودفعه إلى روبيل ابنه حتى يوصله إلى يوسف.
فقال يوسف: بلغه سلامي وقل له: إن إبراهيم صبر وظفر، وكذا إسحاق فاصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا، فلمَّا سمع جواب الكتاب قال: هذا كلام الأنبياء! يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه.
قوله:
{ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا ٱلضُّرُّ } [يوسف: 88] أظهروا عجزهم وأعرضوا ما كان لهم وعدوه يسيراً، ثم أظهروا ضرهم بقولهم: فأوف لنا الكيل ثم أظهروا ضرورتهم، فقالوا: أو تصدق علينا، ثم نكروا كرم الحق بقولهم: { إِنَّ ٱللَّهَ يَجْزِي ٱلْمُتَصَدِّقِينَ } [يوسف: 88] ففعل يوسف أيضاً خمسة أشياء عاتب بقوله: { هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ } [يوسف: 89] لقنهم حجتهم بقوله: { إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ } [يوسف: 89] حتى يقولوا: فعلنا بجهالة، ثم عفا بقوله: { قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ } [يوسف: 92] وثم صار شفيعاً في حقهم بقوله: { يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ } [يوسف: 92] ثم قوى رجاهم في قلوبهم بقوله: { وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ } [يوسف: 92].
فكذلك أيها العبد المؤمن تب إلى الله كما قال:
{ وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ } [العنكبوت: 69] وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون وأنب إليه كما قال: { وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ } [الزمر: 54] { فَفِرُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ } [الذاريات: 50] ثم تستمر لعبادته كما قال: { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت: 69] احترز من كيد الشيطان كما قال: { إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً } [فاطر: 6] ثم خالف هواك كما قال: وأمَّا من خالف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإذا فعلت ذلك أكرمت بالقبول كما قال: { وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ } [غافر: 3] بالمغفرة كما قال: { إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً } [الزمر: 53] وتبديل السيئات الحسنات كما قال: { فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [الفرقان: 70] وبالنجاة من العذاب كما قال: { ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } [مريم: 72] وبدخول الجنة كما قال: { يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } [غافر: 40].
وقوله:
{ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } [يوسف: 94] يحكى أن ريح الثوب لم يجدها الإخوة ووجدها يعقوب؛ لأن الإخوة كانوا عاقين لوالديهم، وكان الثوب من الجنة فلم يجدوا ريحه، ثم بعد ذلك رحموا وغفروا وقيل لم يجدوا ريح الثوب؛ لأنهم ما احترموا يوسف، بل هتكوا حرمته فلا جرم لم يجدوا ريحه كما لا يجد غير التائب ريح التوبة في الآخرة.
وقيل: كان ليوسف قميص المحبة
{ وَجَآءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } [يوسف: 18]، وقميصه الفتنة { وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ } [يوسف: 25] وقميصه البشارة، { ٱذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـٰذَا } [يوسف: 93] ولمَّا كان يوم البلاء تباغضوا، ولمَّا كان يوم الفرح توادوا واستبشروا وتنافسوا أنهم يذهب بالقميص ويبشر يعقوب به، هكذا قال الله تعالى: { وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ } [آل عمران: 140] فسبحانه من عزيز حميد فقال: لما يريد بقلب الدهور ويحدث الأمور بعد الأمور.
وقوله:
{ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيۤ } [يوسف: 98] قيل: إنما أخر؛ لأن ما ينال بالهوينا لا يعرف قدره فأراد أن يكونوا بين الخوف والرجاء، ثم إذا نالوه فإن أهل الجنة لو طلقوا فيها لما عرفوا قدرها، وقيل: إنما أخر الاستغفار؛ لأن يعقوب عليه السلام كان شفيعاً، والشفيع لا يشفع إلا برضاء الخصم، فأخر حتى يسترضى يوسف قوله: { وَقَدْ أَحْسَنَ بَيۤ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجْنِ } [يوسف: 100] ولم يقل: إذ أخرجني في الجب بحضرة إخوته إنه كان في الجب أياماً قليلاً وهي ثلاثة أيام.
وروي أنه ما بات في الجب وبقي في السجن سنين كان مع غير أبناء الجنس، وكان في الجب الملك يؤنسه؛ ولأنه لم يرد أن يذكر أمر الجب بحضرة إخوته إذ هم جعلوه فيه تكرماً وتلطفاً، فلقد عفا عنهم
{ قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ } [يوسف: 92] وطلب المغفرة لهم كما قال: { يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ } [يوسف: 92] وقوى رجائهم بقوله: { وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ } [يوسف: 92] ولم يذكر لهم ما فعلوه معه وأحال ذنبهم على الشيطان فقال: { مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ ٱلشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِيۤ } [يوسف: 100]، وبدأ ينزغ الشيطان بنفسه فقال: { بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِيۤ } [يوسف: 100] وصلوات الله عليه وعلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين الذين كانوا معادن الكرم واللطف ومحاسن الشيم عامة.
وقوله:
{ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ ٱلْمُلْكِ } [يوسف: 101] أخاف إعطاء الملك من الله تعالى؛ لأنه هو { مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ } [آل عمران: 26]، وقال: { مِنَ ٱلْمُلْكِ } [يوسف: 101] ولم يقل: من الملك؛ لأنه كان ملك مصر فحسب، وكذا ملك المخلوقين في الدنيا لا يكون كاملاً بل يكون معيباً بالنقائص وآمناً ملكهم التام في الدار السلام؛ إذ يلقون ما يشتهون ولا يمتنع عليه مراد كما قال: { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً } [الإنسان: 20] أهلنا الله لذلك بلطفه وكرمه، وإنما بدأ بذكر الله ثم يعلم التأويل؛ لإن مقصوده من الملك كان بث المعدلة وإمساك الطعام على الدعية، والسبب إلى إبقاء أرواحهم فكان هذا النفع أعم من نفع علم التأويل، فلهذا قدم ذكره وقيل: أعطي ثلاثة من الأنبياء النبوة والعلم والملك، وأود كما قال: { وَآتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ } [البقرة: 251] وسليمان ويوسف، وأعطي محمد صلى الله عليه وسلم النبوة والعلم وملك القناعة، وأعطي عيسى النبوة والعلم وملك الزهد في الدنيا.
وأخبر عن يوسف أنه قال:
{ أَنتَ وَلِيِّي فِي ٱلدُّنُيَا وَٱلآخِرَةِ } [يوسف: 101]، وقال لحبيبه صلى الله عليه وسلم: { ٱدْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ } [القصص: 64] ثم كيدون فلا تنظرون { إِنَّ وَلِيِّـيَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْكِتَابَ } [الأعراف: 196] وقال في حق المؤمنين: { ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [البقرة: 257] فانظر هل توازي هذه الكرامة كرامة؟ ثبتنا الله على الإيمان.
قوله:
{ تَوَفَّنِى مُسْلِماً } [يوسف: 101] يدل على: إن من حق العبد أن يتضرع دائماً إلى الله في تثنيته على الإيمان، وكذا قوله تعالى خبراً عن إبراهيم { وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ } [إبراهيم: 35]، وروي أن جبريل عليه السلام قال: "متى لُعن إبليس لم يبق ملك مقرب إلا وهو يخاف زوال الإيمان"، ويقول: ربنا لا تغير اسمنا ولا تبدل جسمنا ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، فكأن يوسف قال: رب احفظني في ميزان التأديب حتى لم أرض أضرع، واحفظني في ملك حتى لم أظلم بل عدلت، وقد بقي الفزع الأكبر فلا تمتني إلا مسلماً، وألحقني في الآخرة بالصالحين.
قال يحيى بن معاذ: من تمام نعمة الله على يوسف بأن يجعله [منبأ] على أخوته، واضطرهم إلى الخضوع له والتذلل بين يديه بقولهم:
{ وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ } [يوسف: 91] وقال سهل: نعمته عليك تصديق الرؤيا الذي رأيته لك.
وقال بعضهم: ويتم نعمته عليك بأن عصمك عن أفعال ما تليق بك ولآبائك، قال الحكماء في قوله:
{ وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ } [يوسف: 21] أي: حيث أمر يعقوب يوسف - عليهم السلام - بألاَّ يقص رؤياه على إخوته فغلبه الله تعالى حتى قص، ثم أراد يعقوب ألاَّ يكيدوا فغلب أمره حتى كادوا، ثم أراد إخوة يوسف قتله فغلب أمره حتى لم يقتلوه، ثم أرادوا أن يلقوه في الجب ليلتقطه بعض السيارة فيندرس اسمه فغلب أمره حتى لم يندرس اسمه وصار مذكوراً مشهوراً، ثم باعوه ليكون مملوكاً فغلب أمره حتى صار ملكاً وسجدوا بين يديه، ثم أرادوا أن يخلو لهم وجه أبيهم فغلب أمره حتى ضاق عليهم قلب أبيهم، ثم دبروا أن يكونوا من بعده قوماً صالحين تائبين فغلب أمره حتى نسوا الدين، وأضروا حتى أقروا بين يدي يوسف في آخرة الأمر بعد أربعين سنة فقالوا: { وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ } [يوسف: 91].
وقالوا لأبيهم:
{ وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ } [يوسف: 91] ثم أرادوا أن يخدعوا أباهم بالقميص والدم والبكاء فغلب أمره حتى لم يخدع، وقال: { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ } [يوسف: 18] ثم احتالوا أن تذهب محبته عن قلب أبيه فقلب أمره حتى زادت المحبة والشوق في قلبه، ثم دبر يوسف أن يتخلص من السجن بذكر الساقي فغلب أمره حتى نسي الساقي ذكر يوسف { فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } [يوسف: 42]، ثم احتالت امرأة العزيز أن تزيل المراودة عن نفسها حين قالت: { مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوۤءًا } [يوسف: 25] فغلب أمره حتى شاهد الشاهد من أهلها.
وقال ابن عباس رضي الله عنه:
{ وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ } [يوسف: 21] على ما أراد من قضائه لا يغلب على أمره غالب، ولا يبطل إرادته منازع فهو قادر على أمره من غير منازع، قال جعفر بن محمد الصادق سلام الله عليهما: البرهان النبوة التي أودع الله تعالى في العلم في صدره فهي التي حالت بينه وبين ما يسخط الله، وقيل: هو ما أتاه الله تعالى في العلم والحكمة.
وقال أهل الإشارة: إن المؤمن له برهان من ربه في صدره من معرفته فرأى ذلك البرهان وزواجره، وقال سهل: عصمه الله من الفعل ولم يعصمه من الهم، وقال المزني: غلب عليها الطبع فهمت بالمعصية وغلب على يوسف التوفيق.
ومن العبر والمواعظ والفوائد في هذه القصة.
* أنه قال: لقد كان في يوسف وإخوته فلم ينقطع الوصلة بينهم بالجفاء الذي وقع منهم؛ لبقاء أصل الدين في مؤاخاته بخلاف ابن نوح، فإنه قال في حقه:
{ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } [هود: 46] ولا في إخوة يوسف عزموا على أن يتضرعوا إلى الله إلى التوبة والإنابة.
كما أخبر عنهم بقوله تعالى:
{ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ } [يوسف: 9] قال بعض المفسرين: وأمَّا كنعان فلم يعزم على الالتجاء إلى الله تعالى، بل { قَالَ سَآوِيۤ إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ ٱلْمَآءِ } [هود: 43].
* ومنها: روي أنه ابتلي بذلك الفراق؛ لأن امرأته حين وجدت ريح قدرهم فسألت عن يعقوب من ذلك الطعام فقال: اذهبي إلى بيتك مشاهدي إليك، ثم نسي وعدهم فابتلي بذلك الفراق، وقيل: ببيدائه ذبح عجلاً بحضرة أمه فينبغي أن يعتبر ويحترز من أمثال ذلك.
* ومنها: أنه أظهر لبنيه زيادة محبة ليوسف فحملهم ذلك على أن فعلوا ما فعلوا، فينبغي أن يعتبر المؤمن ويسوي بين أولاده جهده في المحبة وأن لم يمكنه فليكتم ذلك عنهم، ولذلك يستحب في شرعنا التسوية بين الأولاد في العطاء.
* ومنها: ألاَّ يأمن من نزغات الشيطان في حال من الأحوال، فإنهم كانوا من أبناء النبي عليه السلام ومع ذلك نزغ الشيطان بينهم.
* ومنها: اجتناب الجسد إذا حملهم الحسد على فعلهم ذلك.
* ومنها: أن المحبة سبب البلاء، فمن ادَّعى المحبة فليستعد للبلاء.
* ومنها: ألاَّ يوثق بكل أحد، ولا يؤتمن على أحد، ائتمن يعقوب بينه على ابنه فأصابه منهم ما أصاب.
* ومنها: أن الأولاد فتنة، ولقد روي في القصة أنه التمس من الله أن يرسله، فيعمد إلى الصحراء فلم يرد أن يمسكه.
* ومنها: فضيلتي الصبر، فلقد صبر يعقوب فنال الفرج، وصبر يوسف فنال الملك والمراد، وصبرت زليخاء فبلغت المقصود.
* ومنها: فضيلة الحلم، فلقد حلم عنهم حين قدر عليهم وقال:
{ قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ } [يوسف: 92].
* ومنها: أن الإقرار بالذنب سبب العفو، فإنهم قالوا:
{ وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ } [يوسف: 91] قابلهم بأنه قال: { قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ } [يوسف: 92].
* ومنها: من يريد الله رفعه فلن يضره كيد كائد، فلقد كادوا ليوسف فلم يمكنهم دفع رفعته
{ وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ } [يوسف: 21] ولقد كاد الكفار رسولنا صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [الأنفال: 30] فلم يدفعوا مراد الله فيه، فكذلك المؤمن إذا كانت معه عناية الله لم يضره كيد جني ولا كيد أنسي به، ونسأل الله تعالى ألاَّ يخلبنا عن عنايته ورعايته بفضله وكرمه فهم بموعظتها، وقال رويم: همت زليخاء بالمعصية، وهم يوسف بالرجوع إليها في الفرار منها، وذلك قوله عز وجل: { وَٱسْتَبَقَا ٱلْبَابَ } [يوسف: 25] قال ابن عطاء: لولا أن رأى برهان ربه أي: واعظاً من قلبه، وهو قوله عليه السلام: "واعظ الله في قلب كل مؤمن" .
وقال الجنيد: تحرك طبع البشرية في يوسف ولم يعدوه طبع العادة والعبد في تحريك الخلقة غير مذموم، وفي مقالة المعصية ملوم، وذكر الله على يوسف همه على طريق المحمدة لاعلى طريق الذمة.
وقال أبو عثمان: ما كان هم به إلا هم شفقة عليها، ودعا إلى الله في قطع تلك الهمة الدنية عنه كيف يكون هم يوسف غير ذلك أو هم أنها بدا واللهُ تعالى يقول:
{ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلْفَحْشَآءَ } [يوسف: 24]، فكانت الفحشاء مصروفة عنه كيف يبقى عليه موضع هم دوني.
قال الشيخ المصنف رضي الله عنه: همت به زليخاء هم النفسانية الهوائية، لكن بمناسبة وقضاء الربانية، وهم بها يوسف هم ائتلاف الروحانية لمناسبة أحكام الأزلية بينهما بالزوجية، فإن كان هم زليخاء هم العاشقين بالمعشوق وكان هم يوسف هم الزوج بزوجته لولا أن رأى برهان ربه وهو وارد رباني يرد على قلب نوراني مؤيد بروح من عالم الأنبياء الذي يحكم على الغيب بعلم تأويل الأحاديث فأنبأه أنه زوجته، ولكن ما قال بعد وقت الأزدواج فهم بسائق والزجر لعدم انقضاء مدة كما قال:
{ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلْفَحْشَآءَ } [يوسف: 24] والسوء شغل البضع بنكاح الغير، والفحشاء المباشرة قبل النكاح.
قال الجنيد: سئل السَّري ما علامة المحبة قال: ما ذكره الله في كتابه (قد شغفها حبّاً)، قال: ألاَّ يرى جفاء الحبيب جفاء، بل يرى جفاؤه وفاء.
وقال الشلبي: علامة الصدق في المحبة استواء المحبة في الشدة والرخاء، وقال سمنون: الشغاف في المحبة امتلاء القلب منها حتى لا يكون لشيء عندها فيه مكان، قوال الشبلي: الشغاف نهاية العشق.
وقال جعفر: الشغاف مثل القيم أظلم قلبها عن النظر في غيره والاشتغال بسواه.
وقال بعضهم رضي الله عنهم: الشغاف جلد رقيق على وجه حبة القلب وهو مبلغ غاية عشق المخلوق، فلا يتجاوز عشق المخلوق الشغاف وجه القلب هي مبلغ عشق الخالق، فيجاوز الشغاف ويبلغ حبة القلب.
قال بعضهم في قوله:
{ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } [يوسف: 31] يشاهدن حسناً غير موضع الشهوة مؤيداً بعصم النبوة فأكبرنه.
وقال أبو سعيد الخراز: المحب من يكون في حال المشاهدة غائباً عن حسه فانيا عن نفسه لا يحسن بما يجري عليه.
قال مخلوف: في رؤية مخلوقٍ لم يتألم بقطع اليد ولم يحس به وأنتم تتألمون مما يصيبكم من أثقال المحبة بالحقيقة.
قال سهل:
{ مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } [المؤمنون: 24] ما هذا إلا ملك في أخلاقه بشر في صورته.
قال محمد بن علي بن زين العبادين - سلام الله عليهم -: ما هذا بأهل أن يدعي إلى المفاسد مثله يكرم، وينزه عن مواضع الاعتراضات لكرم أخلاقه ولطف شمائله.
وقال ابن عطاء في قوله:
{ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ } [يوسف: 53] بالنفس مجبولة على سوء الأدب، والعبد مأمور بملازمة الأدب، فالنفس تجري على طبعها في ميدان المخالفة، والعبد يردها بحمد عن سوء المطالبة، فمن أعرض عن الجهد فقد أطلق عناده النفس وغفل عن الرعاية الأدب، فمهما أماتها فهو شريك في مرادها.
وقال الجنيد: من أعان نفسه على هواها فقد أشرك في قتل نفسه والعبودية ملازمة الأدب والطغيان سوء الأدب.
وقال سهل: خلق الله النفس، وجعل طبعها بالجهل، وجعل الهوى أقرب الأشياء إليها، وجعل الهوى الباب الذي منه الهلاك.
وقال الواسطي: النفس ظلمة وسراجها سرها، فمن لم يكن له سر فهو ظلمه أبداً.
وقال سهل:
{ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ } [يوسف: 53] ليس لها في الأخلاق نصيب.
وقال الشيخ رضي الله عنه: إن النفس خلقت أمارة بالسوء، فإذا رحمها ربها جعلها مأمورة، وبنور الرحمة مستورة، وبالواردات الربانية مقهورة، وبنظر العناية منظورة، وذنوبها مغفورة، وأخلاقها المذمومة محمودة، وعلى العبودية مطمئنة، ولجذبات الإلهية قابلة، وإلى ربها راجعة راضية مرضية في زمرة خواص العباد داخلة، ولجنة جوار الحق مستلهمة، وبسطوات تجلي صفات الجمال والجلال فانية، وبصفة بقاء الله باقية.
وعن محمد بن كعب القرطبي عن الإمام علي بن أبي طالب - عليه السلام - قضي القضية فقال رجل من ناحية المسجد: يا أمير المؤمنين ليل القضاء كما قضيت، قال: كيف هو؟ قال: هو كذا أو كذا، قال: صدقت وأخطأت
{ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [يوسف: 76].
قال بعضهم في قوله:
{ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ } [يوسف: 76] بالعلم، وقيل: بالتقوى، وقيل: بنزع الشهوات والأهواء عنه، وقيل: بالاستقامة، وقيل: بالمكاشفة والمشاهدة، وقيل: بالفراسة الصادقة، وقيل: بالمعرفة والتوفيق، وقيل: بإجابة الدعاء، وقيل: بالإقبال على الآخرة والإعراض عن الدنيا، وقيل: بمعرفة مكائد النفس.
وقال الجنيد: رفع درجات في يشاء بإسقاط الكونين عنه ورفعه عن الالتفات إلى الأحوال والمقامات؛ ليكون خالصاً لنا بلا علة.
وقال بعضهم رضي الله عنهم: نرفع درجات من نشاء بالبقاء بعد الفناء؛ ليكون فانياً عن وجوده المجازي باقياً بوجوده الحقيقي.
وقال بعضهم في قوله:
{ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [يوسف: 76] فوق كل ذي معرفة عارف إلى أن تنتهي المعرفة إلى المعروف، فتسقط الأوصاف ويبقى حقاً محضاً.
وقال بعضهم: العلوم تتفاوت على مقدار الصنائع والتعليم إلى أن ترى من يتلقف العلم من الحق ورزق العلم اللدني، فذلك العالم بالعلم اللدني الذي لا عالم فوقه في الخلق.
وقال الشيخ رضي الله عنه:
{ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [يوسف: 76] في المنقول والمعقول { عَلِيمٌ } هو عالم بالله.
وقال بعضهم: الصبر الجميل الذي ليس فيه إظهار الشكور والإحساس بالبلوى.
وقال الشيخ رضي الله عنه: الصبر جميل إن ترى البلاء جميلاً من الجليل، والصبر يدفع البلاء إلى الخليل.
وقال الجنيد في قوله:
{ وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ } [يوسف: 84] وقال: يا أسفاً على يوسف أعرض عنهم لما لم يجد من عندهم الفرج، ولم ير فيهم [مسكا لب كوباه]، { وَقَالَ يَٰأَسَفَىٰ عَلَى يُوسُفَ } [يوسف: 84] لم يترك في هذا النفس الواحد بقيا حتى أوحى الله تعالى إليه أن يا موسى على غيري ذلك الصبر الجميل الذي وعدتنا في نفسك أبنائي، وقد أخذنا منك واحداً، وأبقيناك عشراً وأنت مع هذا تظهر الشكوى وتقول: صبر جميل.
قال ابن عطاء: بكاء يعقوب وتأسفه لفقد الألفة، وذلك أنه لما لقي يوسف عليه السلام زاد في البكاء، فقال: با أبت أتبكي عند الفراق وعند التلاقي، قال: ذلك بكاء حرقة القلوب وهذا بكاء الدهش.
وقال أبو سعيد القرشي: أوحى الله تعالى إلى يعقوب تتأسف على غيري وعزتي لأخذن عينك ولا أردهما إليك حتى تنساه.
وسئل أبو سعيد القرشي لِم لم يذهب عين آدم وداود من هول بكائهما وذهبت عين يعقوب؟ قال: لأن بكاءهما كان من خوف الله، وبكاء يعقوب كان على فقد ولده فحفظا وعوتب.
وقيل:
{ وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } [يوسف: 84]، وقال: بكاء الأحزان؛ يعمي العيون، وبكاء الشوق يجلي العيون، وقال أيضاً: الطبيب الحاذق من يأخذ الدواء من الداء الذي يعقوب عمى بفقد يوسف فلم يبصر الآباء بإلقاء الثوب على وجهه، وأنشد المجنون في معناه:

تَداوَيتُ مِن لَيلى بِلَيلى عَنِ الهَوى كَما يَتَداوى شارِبُ الخَمرِ بِالخَمرِ

قال الشيخ رضي الله عنه: ما كان بكاء يعقوب وتأسفه على فقد صورة يوسف، وإنما كان على خوف فقد قلب يوسف في يوسف، وابيضت عيناه من الحزن على هذا المعنى ألا ترى أنه لما ألقى على وجهه بقميص يوسف كيف ارتد بصيراً؛ لأنه شم في قميصه رائحة سلامة قلبه، فكما أنه كان عماء من حزن فقد قلب يوسف كان بصره من سرور وسلامة قلب يوسف.
قال ابن عطاء في قوله:
{ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [يوسف: 86] كان علمه الله كان حقيقة وعلمكم به علم استدلال.
وقال الجنيد في قوله:
{ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ } [يوسف: 87]، تحقق رجاء الراجين عند تواتر النعم وترادف المصائب؛ لأن الله تعالى يقول: { وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ } [يوسف: 87] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أفضل العبادة انتظار الفرج" .
قال أبو عثمان في قوله: { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ ٱلْمُلْكِ } [يوسف: 101]، قال بما كان يجري عليه في حالتي السراء والضراء وهذا هو الملك.
قال ابن عطاء: الملك هو احتياج حساده إليه وقال بعضهم: هو القناعة فيه.
قال الشيخ رضي الله عنه: هو أراه البرهان أخبرهم بها ليملك نفسه وينهاها به عن الهوى.
وقال الصادق في قوله:
{ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ } [يوسف: 100] أوقف حكم عباده تحت مشيئته إن شاء عذبهم، وإن شاء عفا عنهم، وإن شاء قربهم، وإن شاء بعدهم؛ لتكون المشيئة والقدرة له لا لغيره.
وعن سهل في قوله:
{ تَوَفَّنِى مُسْلِماً } [يوسف: 101] قال: أمتني وأنا مسلم إليك أمري معرض إليك شافي لا يكون لي إلى نفس مجال ولا تدبير في سبب من الأسباب.
وقال: الدينوري:
{ وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ } [يوسف: 101] في إصلاحهم لمجالستك وحضرتك، وأسقطت عنهم الخلق، وأزلت عنهم رعونات الطبع.
قال أبو صالح: من العبَّاد من زين الله تعالى ظاهرة بآداب الخدمة، ونور باطنه بنور المعرفة.
وجعله راحة للخلق سعد ببركته من قصده، وما يؤمن من أكثرهم بالله إلا وهم مشركون.
قال الواسطي: وهم مشتركون في ملاحظة الخواطر والكرامات، وقال بعضهم: وما يؤمن أكثرهم باللسان إلا وهم مشركون عند نزول النوائب في الرجوع إلى سواه، والاعتماد فيه على ضعيف مثلهم وفي قوله:
{ قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ } [يوسف: 108].
قال ابن عطاء: أدعوكم إلى من تعودتم من النعم والأفضال والبر والتوال على الأفعال، وهو الله الذي لم يزل ولا يزال تبارك العزيز المتعال.
وقال بعضهم: فرّق بين من دعا إلى الله وبين من دعا إلى سبيل الله؛ فمن دعا إلى الله يدعو الخلق إليه به لا يكون فيه حظ لنفسه، ومن دعى إلى سبيل الله يدعوهم بنفسه إليه لذلك كثرت الإجابة لمن يدعوا إلى سبيله لمشاكلة الطبع، وقل من يجيب لمن يدعو إلى الله؛ لأن فيه مفارقة الطبع والنفس، وقال بعضهم: البصيرة من لباس الأرواح، وليس لها من الأجسام حظ.
وقال الواسطي: على بصيرة أيقن بالله أنه ليس إليه من الهداية شيء.
وقال ابن عطاء: منهم: من اتبع على الظاهر، ومنهم: من اتبعه على الحقيقة، والتحقيق فذلك الذي قال الله تعالى:
{ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي } [يوسف: 108]، لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب.
قال الصادق: لأولي الأمر أو مع الله، وقال ابن عطاء: عبرة لمن اعتبر وعظة لمن اتعظ في آن، أن النفس ليست بمحل الأمن والاعتقاد عليها، وصلى الله تعالى على محمد وآله أجمعين.