التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ
٣٨
يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَابِ
٣٩
وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا ٱلْحِسَابُ
٤٠
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَٱللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
٤١
وَقَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ ٱلْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ ٱلْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى ٱلدَّارِ
٤٢
وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ
٤٣
-الرعد

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً } [الرعد: 38] يشير إلى أن الرسل لما جذبتهم العناية البداية رقتهم من دركات البشرية الحيوانية إلى درجات الولاية الروحانية ثم رقتهم منها إلى معارج النبوة والرسالة الربانية في النهاية فلم يبق فيهم من دواعي البشرية وأحكام النفسانية ما يزعجهم إلى طلب الأزواج بالطبيعة والركون إلى الأولاد بخصائص الحيوانية؛ بل جعل لهم رغبة في الأزواج والأولاد على وفق الشريعة بخصوصية إطلاقه في إظهار الخالقية.
كما قال تعالى:
{ ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ ٱلْخَالِقُونَ } [الواقعة: 59] وفي قوله تعالى: { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } [الرعد: 38] إشارة إلى أن حركات عامة الخلق وسكناتهم بمشيئة الله وإرادته وإن حركات الرسل وسكناتهم بإذن الله ورضاه.
ثم قال: { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } [الرعد: 38] أي: لأَجَلٍ أهل المشيئة والإرادة في حركاتهم وقت معين لوقوع الفعل فيه وكذلك لأهل الإذن والرضا ثم { يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ } لأهل السعادة من أفاعيل أهل الشقاوة { وَيُثْبِتُ } لهم من أفاعيل أهل السعادة ويمحو ما يشاء لأهل الشقاوة من أفاعيل أهل السعادة ويثبت لهم أفاعيل أهل الشقاوة { وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَابِ } [الرعد: 39] الذي مقدر فيه حاصل أمر كل واحد من الفريقين، وحاصلهم لا يزيد ولا ينقص { وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ } [الرعد: 40] أي: نريك بالكشف والمشاهدة بعض الذي وعدناهم من العذاب والثواب قبل وفاتك كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عن العشرة المبشرين وغيرهم دخولهم الجنة، وقد أخبر السائل عن أبيه حين قال إن أباك في النار وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"رأيت الجنة وفيها فلان، ورأيت النار وفيها فلان" .
{ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } [الرعد: 40] قبل أن نريك من أحوالهم { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ } [الرعد: 40] فيما أمرناك بتبليغه ولا عليك القبول فيما يقول: { وَعَلَيْنَا ٱلْحِسَابُ } في الرد والقبول { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ } [الرعد: 41] أرض البشرية { نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } أي: من أوصافها بالازدياد في أوصاف الروحانية وأرض الروحانية حيث ننقصها من أخلاقها بالتبديل بالأخلاق الربانية وأرض العبودية ننقصها من آثار الخليقة وإظهار أنوار الربوبية { وَٱللَّهُ يَحْكُمُ } [الرعد: 41] من الأزل وإلى الأبد.
{ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ } [الرعد: 41] أي: لا مقدم ولا مؤخر ولا مبدل لحكمه { وَهُوَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [الرعد: 41] فيما قدر ودبر وحكم فلا يسوغ لأحد تغيير حكم من أحكامه، { وَقَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [الرعد: 42] إشارة إلى أن أهل كل زمان وهم يمكرون { فَلِلَّهِ ٱلْمَكْرُ جَمِيعاً } [الرعد: 42] ليمكروا بمكره ويمكروا مكراً مع أهل الحق ليبتليهم الله بمكرهم ويصيروا على مكرهم ثقة بالله أنه خير الماكرين فيثيبهم على صبرهم ثواب الصابرين ويعذب الماكرين الممكورين { يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ } [الرعد: 42] من الماكرين { وَسَيَعْلَمُ ٱلْكُفَّارُ } الذين يسترون الحق بالباطل مكراً وحيلة { لِمَنْ عُقْبَى ٱلدَّارِ } عند كشف الغطاء يوم اللقاء.
{ وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً } [الرعد: 43] فيه إشارة إلى أن من يقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم إنه ليس مرسلاً من الله كما قالت الفلاسفة: إنه حكيم وليس برسول فقد كفر { قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } [الرعد: 43] بتحقيق رسالتي مرسلاً من الله، كما قالت الفلاسفة: إنه حكيم وليس برسول فإنه أرسلني وأنزل علي الكتاب الذي جئت به إليكم { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ } وهو الذي علمه القرآن وعلمه البيان وأراه آيات القرآن ومعجزاته فبذلك علم حقيقة رسالته وشهد بها، والله أعلم.
قال أهل المعاني:
{ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ } [الرعد: 11] أ ي: أن أوامر الله عز وجل على وجهين: أحدهما: قضى حلوله ووقوعه لصاحبه ذلك مما لا يوصفه أحد ولا يغيره بشر، والآخر: قضى صرفه بالتوبة والدعاء والصدقة والحفظ والدليل، على هذا قصة قوم يونس في دفع النداء عنهم بدعائهم وتضرعهم وتوبتهم، وروي أنه: "دَخَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِي عَنْ الْعَبْدِ، كَمْ مَعَهُ مِنْ مَلَك؟ فَقَالَ: عَلَى يَمِينِك مَلَكٌ عَلَى حَسَنَاتِك، وَهُوَ أَمِينٌ عَلَى الْمَلَكِ الَّذِي عَلَى الشِّمَالِ، فَإِذَا عَمِلْت حَسَنَةً كُتِبَتْ عَشْراً، وَإِذَا عَمِلْت سَيِّئَةً قَالَ الَّذِي عَلَى الشِّمَالِ لِلَّذِي عَلَى الْيَمِينِ: أأَكْتُبُ؟ فَيَقُولُ لَهُ: لاَ، لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ اللهَ وَيَتَوبُ، فإِذَا قَالَ ثَلاَثاً، قَالَ: نَعَمْ، اُكْتُبْ أَرَحْنَا اللهُ مِنْهُ، فَبِئٍصَ الْقَرِينُ، مَا أَقَلَّ مُرَاقَبَتَهُ للهَِّ، وَأَقَلَّ اسْتِحْيَاءَهُ مِنَّا، يَقُولُ اللهُ: { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }، وَمَلَكَانِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ وَمِنْ خَلْفِك يَقُولُ اللهُ: { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } وَمَلَكٌ قَابِضٌ عَلَى نَاصِيَتِك، فَإِذَا تَوَاضَعْت للهَِّ رَفَعَك، وَإِذَا تَجَبَّرْت عَلَى اللهِ قَصَمَك، وَمَلَكَانِ عَلَى شَفَتَيْك، لَيْسَ يَحْفَظَانِ عَلَيْك إلاَّ الصَّلاَةَ عَلَى مُحَمَّدٍ، ومَلَكٌ قَائِمٌ عَلَى فِيك، لاَ يَدَعُ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَّةُ فِي فِيك، وَمَلَكَانِ عَلَى عَيْنَيْك، فَهَؤُلاَءِ عَشْرَةُ أَمْلاَكٍ عَلَى كُلِّ ابْنِ آدَمَ يَتَبَدَّلُونَ، مَلاَئِكَةُ اللَّيْلِ عَلَى مَلاَئِكَةِ النَّهَارِ، لأَِنَّ مَلاَئِكَةَ اللَّيْلِ سِوَى مَلاَئِكَةِ النَّهَارِ، فَهَؤُلاَءِ عِشْرُونَ مَلَكاً، عَلَى كُلِّ آدَمِيٍّ، عشرة بالنهار وعشرة بالليل وَإِبْلِيسُ بِالنَّهَارِ، وَوَلَدُهُ بِاللَّيْلِ" قال قتادة وابن جريج: هذه ملائكة الله عز وجل يتعاقبون فيكم بالليل والنهار وذكر لنا أنهم يجتمعون عند صلاة العصر وصلاة الصبح، قال: إن السر في قوله تعالى: { هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً } [الرعد: 12] يريكم أنوار محبته فمن خائف من يساره وطامع في يمينه.
وقال أبو بكر الثقفي: وورود الأحوال على الأسرار عندي كالبرق ولا يمكث، بل يلوح فإذا لاح ربما أزعج في خائف خوفه وربما حرك من محب محبته، قال أبو بكر طاهر: خوفاً من أعراض الكدورة في صفاء المعرفة، وطمعاً في الملاك به في إخلاص المعاملة.
وقال أبو يعقوب الأبهري، خوفاً من القطع والفراق وطمعاً في القرب والاشتياق، وقال ابن الريحاني في قوله:
{ وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَٱلْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ } [الرعد: 13] الرعد صعقات الملائكة والبرق زفرات أفئدتهم والمطر بكاؤهم، وفي قوله تعالى: { دَعْوَةُ ٱلْحَقِّ } [الرعد: 14].
قال ابن عطاء: أصدق الدعاوى دعاوى الحق فمن أجاب داعي الحق بغله إلى الحق، ومن أجاب داعي النفس رمي إلى الهلاك.
وقال الجنيد: داعي الحق فمن داعي الرسل لا يقع فيه الشيطان يد، ولا يكون فيه للنفس نصيب في دعاوى الحق إذا بدت أنوار الحق فلا يبقى على المدعو ريب ولا شك بحال.
وقال بعضهم: داعي الحق من يدعو بالحق إلى الحق وفي قوله:
{ وَمَا دُعَآءُ ٱلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } [الرعد: 14].
قال جعفر بن محمد - عليهما السلام -: من دعا بنفسه إلى نفسه دعاء فهو الكفر والضلال، وذلك محل الخيانة ولسقوط من درجات الأمانة فإن الدعاوى تختلف بن داعٍ بالحق وداعٍ بالحق إلى الحق ودعٍ إلى طريق الحق كل هؤلاء دعاة يدعون الخلق إلى هذه الطريق لا بأنفسهم فهذه طريق الحق وداعي يدعو بنفسه قال: أي شيء دعاؤه فهو ضلال.
وفي قوله تعالى:
{ طَوْعاً وَكَرْهاً } [الرعد: 15] قال الجنيد: العارض طوعاً والمعروض كرهاً، وقال: إذا جاءته المصائب ذل وإذا جاءه الرجاء مثل { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ } [الرعد: 16] قال أبو عثمان: لا يستوي من كحل بنور التوفيق مع من هو في ظلمة التدبير.
وقال أبو حفص: الأعمى حقاً من يرى الله بالأشياء ولا يرى الأشياء بالله، والبصير من يكون نظره من الحق إلى المكونات.
وفي قوله:
{ أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } [الرعد: 17] قال الواسطي: خلق الله درة بيضاء صافية فلاحظها بعين الحال فذابت حياء منه { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } [الرعد: 17] فصفاء القلوب من وصول ذلك الماء إليه وجمال الأسرار من نزول ذلك الشرب.
وقال ابن عطاء: هذا مثل ضربه الله للعبد إذا سال السيل في الأودية لا تبقى في الأودية نجاسة إلا كنسها أو أذهبها كذلك النور الذي قسم الله للعبد في نفسه لا يبقى فيه غفلة ولا ظلمة في أودية القلوب
{ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً } [الرعد: 17] بذلك النور يصير القلب نوراً فلا يبقى فيه جفوة { وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ } [الرعد: 17] يذهب الأباطيل ويبقي الحقائق.
وقال بعضهم: أنزل من السماء ماءً لكم في القلوب فأخذ كل قلب بحظه ونصيبه، فكل قلب كان مؤيداً بنور التوفيق أضاء فيه سراج التوحيد، وكل قلب أيد بنور التوحيد أضاء فيه سراج التوحيد، وكل قلب أيد بنور المحبة أضاء فيه لهب الشوق، وكل قلب عمر بلهب الشوق أضاء فيه أنس القرب فالقلوب تنقلب من حالة إلى حالة حتى تستغرق في أنوار المشاهدة أخذ كل قلب بحظه ونصيبه إلى أن تبدو الأنوار على الشواهد من فضل نور السر، قال القسم في قوله:
{ وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ } [الرعد: 25] نقض العهد هو الخروج من العبودية والدخول في الربوبية، وقال بعضهم: نقض العهد هو لزوم التدبير والاختيار وترك التسليم والتفويض بعد أن أخبرك الحق: { لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ } [آل عمران: 128].
وقال أبو قاسم الحكيم: نقض العهد هو السكون إلى غير مسكون إليه والفرح بغير مفروح إليه، وبه قال الواسطي
{ وَفَرِحُواْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [الرعد: 26] الدنيا قذره ولك منها عبرة فمن أسرته عندها فهو أقل منها، ومن ملك جناح بعوضة أو أقل منها فذلك قدره وقال أيضاً: لا تدعوا الدنيا تغرقكم في بحارها وأغرقوها في بحر التوحيد لا تجدوا منها شيئاً.
وقال بعضهم: أخبر الله تعالى عن الدنيا أنها في الآخرة مبلغ والآخرة أقل خطراً في جنب الحقيقة من خطر الدنيا في الآخرة، وقال بعضهم في قوله:
{ قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ } [الرعد: 27] { يُضِلُّ } من قام إليه بنفسه واعتمد على طاعته عن سبيل رشده، ويهدي إلى سبيل رشده من رجع إيه في جميع أموره وتبرأ من حوله وقوته.
وقيل في قوله:
{ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ } [الرعد: 28] إن القلوب على أربعة أوجه:
قلوب العامة: اطمأنت بذكر الله وتسبيحه وحمده والثناء عليه لرؤية النعمة الجارية والعافية الدائمة.
وقلوب الخاصة: اطمأنت بذكر الله وذلك في أخلاقهم وتوكلهم وشكرهم وصبرهم فسكنوا إليه.
وقلوب العلماء: اطمأنت بالصفات والأسماء والنعوت فهم يلاحظون ما يظهر بها ومنها على الدهور.
وأما الموحدون: كالفرق لا تطمئن قلوبهم بحال كيف تطمئن قلوبهم بذكر من عرفوه أو كيف تطمئن بذكر الله فمن لم يؤمنهم بل خوفهم وحذرهم.
وقال إبراهيم الخواص: يعرف الناس في حالين فمن دام سعيه وحركته كان موصوفاً بنفسه لغلبات شواهد نفسه عليه لقوله:
{ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ عَجُولاً } [الإسراء: 11] ومن دام سكونه كان موصوفاً بالحق لغلبات شواهد الحق في سكينته لقوله: { أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } [الرعد: 28].
وقال الحسن: من ذكره الحق بخير اطمأن إليه في أبده.
وقال النهرجوري: قلوب الأولياء مواضع المطالع فهي لا تتحرك ولا تنزعج، بل تطمئن خوفاً من أن ترد عليه مخافة مطالعه فتجده مترمناً بسوء الأدب، قال الواسطي: هذه على أربعة أضرب:
فالأول: للعامة؛ لأنها إذا ذكرته ودعته اطمأنت إلى ذكرها فحظها منه الإجابة للدعوة.
والثانية: الخاصة التي أطاعته وصدقت ورضيت عنه فهم مرابطون في أماكن الزيادات اطمأنت قلوبهم إلى ذلك للخاصة الذين أقبلوا فكانوا أمماً وهي الملاحظة بشواهدهم وفاسدي الطبائع برؤية طاعاتهم.
والثالثة: خصوص الخوص الذين عرفوا الأسماء والصفات فعرفوا ما خاطبهم الله تعالى به فطمأنت قلوبهم بذكره ولها شكرها له وبرضاه عنها لا برضاها عنه.
والرابعة: الأولياء وهم الذين كشف لهم عن ذاته وعلمهم علم صفاته، فأصبح لهم الصفات فأراهم أنما تعرف إلى الخلق على أقدارهم وعلمهم أخطارهم فعلموا أن سرائرهم لا تقدر أن تطمئن إليه ولا تسكن إليه، فمن كانت الأشياء في سره كذلك فبماذا يسكن ويمطئن؟! فلا يجد لقلبه طمأنينته بقدر المطمئن إليه كلما عادت الزيادة عليها أتاها حجاباً لا ينقطع بالبرق النقي؛ لأنها حجاب مستور وهباء منثور، فإذا عزمت الدخول في هذا المقام فاحتسب حظك وأعظم الله عليك أجرك.
قال الجريري: في قوله:
{ طُوبَىٰ لَهُمْ } [الرعد: 29] طوبى لهم طوبى لمن طاب قلبه مع الله لحظة من عمره ورجع بقلبه إلى ربه وقتاً من أوقاته، وقال الشيبان: طوبى لمن غاب في حضرته وحضر في غيبته، وأصبح وأمسى مراعياً لسريرته، وقال الجنيد: طابت أوقات العارفين بمعروفهم، قال الجنيد في قوله: { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ } [الرعد: 33] بالله قامت الأشياء وبه فنيت وبتجليه حسنت المحاسن وباستدباره فجت وسمجت.
وقال بعضهم: في قوله:
{ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ } [الرعد: 33] زين طرق الهلاك في عين من قدر له الهلاك فيراه رشداً فيوصله إلى المقضي عليه الهلاك.
قال أبو زيد: اجتنب مكر النفس وانتبه له فإنه أخفى من كل خافية، وهو الذي أهلك من هلك، سُئِلَ أبو حفص في قوله:
{ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ وَلاۤ أُشْرِكَ بِهِ } [الرعد: 36] بالعبودية، قال: ترك ما لك ملازمة ما عليك مما أمرت به، وقال أبو عثمان: العبودية اتباع الأمر على مشاهدة الآمر.
وسُئِلَ سهل بن عبد الله: متى يصح للعبد مقام العبودية؟ قال: إذا ترك تدبيره ورضي بتدبير الله تعالى فيه، وقال الشيخ رضي الله عنه: العبودية محو حظوظ العبد في إثبات حقوق الرب، وبذل الوجود في نيل المقصود من العبودية.
وقال الحسن بن الفضل في قوله:
{ وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً } [الرعد: 37] تصح حكم العافية؛ لأنه لا حكم ينفرد به العرب إلا حكم العافية، وقال بعضهم: أحكام العرب السخاء والشجاعة وهما من عُرتي الإيمان.
قال جعفر الصادق في قوله: { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } [الرعد: 38] أي: للرؤية وقت، وقال ابن عطاء: لكل علم بيان، ولكل إنسان عبادة، ولكل عبادة طريقة، ولكل طريقة من لم يتميز بين هذا الأحوال فليس له أن يتكلم.
وعن الواسطي في قوله: { يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ } [الرعد: 39] قال: منهم من جذبة الحق ومحاه عن نفسه بنفسه، ومنهم من فني عن الحق بالحق فيقام الحق بالحق عن الربوبية فضلاً عن العبودية، وقيل: { يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ } من شواهده حتى لا يكون على سر غير ربه ويثبت من يشاء في ظلمة مشاهدة حتى يكون غائباً عن ربه أبداً.
وقال ابن عطاء: { يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ } عن رسوم الشواهد والأعراض وكلما يورد على سره من عظمته وهيبته وألوان أنواره فقد آتاه وأحضره، ومن محاه فقد غيبه، والحاضر مرجوع له بعدوه والغائب لا مرجوع له بعدوه ولا سبيل بعدوه إليه.
وقال الواسطي: يمحوهم عن شاهدهم وغيبهم في شواهد الحق، ويمحوهم من شهود العبودية وأوصافها ما يشاء في شواهدهم ويمحو رسم نفوسهم ويثبتهم برسمه.
وقال ذو النون: العافية في قميص العبودية إلى أبد الأبدية، ومنهم من هو أرفع منهم درجة عليه شاهده الربوبية، ومنهم من هو أرفع درجة منهم درجة جذبهم الحق محاهم عن نفوسهم وأثبتهم عنده كذلك، قال: { يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ }.
وقال سهل: { يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ } من الأشياء { وَيُثْبِتُ } الأشياء في عنده { أُمُّ ٱلْكِتَابِ } القضاء المبرم الذي لا زيادة فيه ولا انقضاء.
وقال ابن عطاء: { يَمْحُواْ } أوصافهم { وَيُثْبِتُ } أسرارهم؛ لأنه موضع الشهادة.
وقال الشبلي: { يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ } من الأسباب { وَيُثْبِتُ } ما يشاء من الأقدار، وقال بعضهم: { يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ } يكشف من قلوب أهل محبة أحزان الشوق إليه { وَيُثْبِتُ } تبجيل أهل السرور والفرح به.
وقال بعضهم: { يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ } من قلوب أعدائه آثار حكمه وأنوار بره { وَيُثْبِتُ } في قلوب أوليائه ما أجرى عليها من معرفة نعوته منهم المقدمون في الأوقات والقائلون بحقوق الله من غير كلفة ولا شدة.
قال علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر محمد الصادق قال: يمحو الكفر ويثبت الإيمان، ويمحو النكرة ويثبت المعرفة، ويمحو الغفلة ويثبت الذكر، ويمحو الهدى ويثبت العلم، ويمحو البغض ويثبت المحبة، ويمحو الضعف ويثبت القوة، ويمحو الشك ويثبت اليقين، ويمحو الهوى ويثبت الحق على هذه النسق، ودليله
{ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [الرحمن: 29] { وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَابِ } [الرعد: 39].
قال جعفر الكتاب: قدر فيه السعادة والشقاوة فلا يزاد فيه ولا ينقص، كما قال تعالى:
{ مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ } [ق: 29] قال الشيخ رضي الله عنه: { يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ } من الأخلاق الذميمة النفسانية { وَيُثْبِتُ } ما يشاء من الأخلاق الحميدة الروحانية للعوام، ويمحو من الأخلاق الروحانية ويثبت من الأخلاق الربانية للخواص، ويمحو آثار الوجود ويثبت أنوار الجود لأخص الخواص { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [القصص: 88].
{ وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَابِ } وهو العلم الأزلي الأولي السرمدي القائم بذاته تعالى
{ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً } [الطلاق: 12] بلا زيادة ولا نقصان { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } [الرعد: 8].
وفي قوله: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } [الرعد: 41] قال محمد بن علي الباقر: يخرب الأرضون بذهاب أهل الولاية من بينهم، فلا يكون لهم مرجع في وقت محنتهم ونوائبهم فتواتر عليهم المحن فلا يكون فيهم من يكشف الله عنهم بدعائه فتخرب.
قال أبو عثمان: هم الذين ينصحون عباد الله ويحملون على طاعة الله فإذا ماتوا مات بموتهم من يصحبهم.
وفي قوله تعالى: { وَقَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ ٱلْمَكْرُ جَمِيعاً } [الرعد: 42] قال بان عطاء الله: المكر الحقيقي ما مكر بهم الحق حتى توهموا أنهم يمكرون ولم يعلموا أنه مكر بهم حيث سهل لهم سبيل المكر.
وقال الحسن: لا مكر أعظم من مكر الحق بعباده حيث أوهمهم أن لهم إليه سبيل أو للحدث اقتران مع القدم في وقت، والحق ثابت وصفاته ثابتة إن يكون ذكروا فلأنفسهم وإن شكروا فلأنفسهم، وإن أطاعوا فنلجاة أنفسهم ليس للحق منهم شيء مجال؛ لأنه الغني القهار.
وفي قوله: { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ ٱلْكِتَابِ } قال سهل: الكتاب عزيز وعلم الكتاب أعز، وعلم الكتاب عزيز والعمل به أعز، والإخلاص في العمل أعز والإخلاص عزيز، والمشاهدة أعز والمشاهدة عزيزة في الموافقة أعز والموافقة عزيزة، والأنس في الموافقة أعز والأنس عزيز، وآداب محل الأنس أعز وصلى الله على محمد وآله الطيبين أجمعين.