التفاسير

< >
عرض

فَكُلِي وَٱشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلبَشَرِ أَحَداً فَقُولِيۤ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً
٢٦
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يٰمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً
٢٧
يٰأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً
٢٨
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً
٢٩
قَالَ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً
٣٠
وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً
٣١
وَبَرّاً بِوَٰلِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً
٣٢
وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً
٣٣
-مريم

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

{ وَقَرِّي عَيْناً } [مريم: 26] بأنوار الجمال { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلبَشَرِ أَحَداً } [مريم: 26] ما سنح لك من الخواطر البشرية { فَقُولِيۤ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً } [مريم: 26] كما قال بعضهم: الدنيا بوم ولنا فيه صوم { فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً } [مريم: 26] يعني الوصول والوصال لم يبق لي كلام مع أوصاف الإنسية بخير ولا شر، فإني نذرت للرحمن صوماً عن الالتفات بغير الله، ولا يكون إفطاري إلا [وكلمته) على مشاهدة جماله.
وبقوله: { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا } [مريم: 27] يشير إلى أن مريم القلب لمَّا ولدت بعيسى روح الله وكلمته فأتت به قومها من الخلائق { تَحْمِلُهُ } [مريم: 27] أي: تظهر مع الخلق من آثاره شيئاً من نتائج أحواله أنكروا عليها { قَالُواْ يٰمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } [مريم: 27] منكراً كما قال موسى عليه السلام لما أنكر على خضر؛ إذ جاءه بأفعال من نتائج العلم اللدني: { لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً * يٰأُخْتَ هَارُونَ } [مريم: 27-28] النفس الأمارة بالسوء { مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْءٍ } [مريم: 28] أي: أبو الروح { وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ } [مريم: 28] أي: القالب: { بَغِيّاً } [مريم: 28] يعني: أو وليّاً يتولد منه مثل ما جئت به.
واعلم أن المعتاد من أهل الزمان إذا ظهر الله في كل زمان وأوان نبيّاً أو وليّاً، وتخصصه بمعجزته أو كرامته أن ينكر عليه أكثرهم، وينسبونه إلى الجنون والضلال والافتراء والكذب والسحر وأمثاله { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ } [مريم: 29] يشير إلى أن هؤلاء القوم هم أهل الإشارات؛ أي: إشارة مريم القلب إلى عيسى روح الله المتولد من نفخ الروح المضاف إلى الحضرة المقدسة ومريم القلب { قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً } [مريم: 29] ما بلغ مبلغ الرجال البالغين والواصلين { قَالَ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ } [مريم: 30] أي: أقر بالعبودية والحدوث متبرئاً عن الاثنينية والقدم { آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ } [مريم: 30] من العلوم اللدنية وكشف الحقائق والأسرار.
{ وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ } [مريم: 31] نبيّاً؛ أي: بلغني مقام الأنبياء، فأخذ الأسرار من الله عند تجلي صفاته وإنباء الخلق بها { وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ } [مريم: 31] أي: متصفاً بصفاته، فأحيي الموتى بصفته، وأبرئ الأكمه والأبرص وغير ذلك من الكرامات { وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ } [مريم: 31] أي: بإقامة العبودية ومراقبة أحكام الربوبية { وَٱلزَّكَاةِ } [مريم: 31] أي: تزكية النفس عن الأوصاف الذميمة { مَا دُمْتُ حَيّاً } [مريم: 31] فيه إشارة إلى أن ما دام العبد حيّاً لا بدّ له من مراقبة السر وإقامة العبودية وتزكية النفس { وَبَرّاً بِوَٰلِدَتِي } [مريم: 32] أي: أبر والدة القلب بإفاضة الفيض الإلهي.
{ وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً } [مريم: 32] لم أكن قابلاً للفيض { شَقِيّاً } [مريم: 32] محروماً عن سعادة العبودية { وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ } [مريم: 33] أي: بسلامة من الله كانت ولادتي يوم ولدت بلا والد طبيعي { وَيَوْمَ أَمُوتُ } [مريم: 33] فيه إشارات:
* أولها: يشير إلى أن عيسى المعنى المتولد من نفخ الحق في القلب قابل للموت بسم غلبات صفات النفس والمعاملات المنتجة منها لئلا يحسب الواصل بأنه إذ حيي بحياة الله لا يموت المعنى الذي في قلبه.
* وثانيها: لئلا يقنط الطالب الصادق الذي زل قدمه، ووقع عن الطريق بنوع من المعاملات المؤدية إلى موت القلوب، ويعلم أن له إلهاً يميت الأحياء ويحيي الأموات، فيرجع إليه بصدق النية وصفاء الطوية على الصراط المستقيم وأنه واسع كريم.