التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ
١٢٥
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
١٢٦
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
١٢٧
رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ
١٢٨
رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ
١٢٩
وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَاهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ
١٣٠
-البقرة

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم ندب هذه الأمة في اتخاذ مقام الخلة أشار بقوله تعالى: { وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [البقرة: 125]، الإشارة فيها أن البيت هو القلب كما جاء أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام وقال: "يا داود فرغ بيتاً أسكن فيه فقال: وكيف يا رب فقال: فرغ لي قلبك" وكذلك قوله تعالى: "لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن" فمعناه إذ جعلنا القلب الإنساني مثابة يرجعون إليه طلابي وزواري، كما يرجعون إلى الكعبة في الصورة وأمنا للسالك من تصرفات الشيطان ومكائده حين بلغ منزل القلب، وحصل له سلوك مقاماته وإن الشيطان لا يقدر على دخول القلب؛ لأن القلب خزانة الحق والخزانة محروسة بحراسة قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن وإنما جولان الشيطان في ميادين الصدور لقوله تعالى: { يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ } [الناس: 5].
{ وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [البقرة: 125] يعني: إذا وصلتم إلى كعبة القلب اجعلوا مقام الخلة قبلة توجهكم فيكون قصدكم وذهابكم إلي لا إلى سواي اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم، وكانت ملته
{ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الصافات: 99]، ومما يدل على المعنى الذي جرى في الآية قوله تعالى: { وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } [البقرة: 125]، والإشارة فيها أنه لما شرف البيت بإضافة إلى نفسه لقوله بيتي أكرمه بكرامات مخصوصة عن غيره من المساجد:
أولها: أنه كان أول بيت وضع الناس من بيوت الله تعالى.
وثانيها: عين موضعة بمكة خير المواضع بإرسال جبريل عليه السلام وقد خلق الله تعالى موضع البيت بألفي عام.
وثالثها: أمر الخليل عليه السلام ببنائه بيده.
ورابعها: جعله مباركاً على زواره ومستقبليه.
وخامسها: وهو سبب هداية لقوله تعالى:
{ وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } [آل عمران: 96].
وسادسها: جعله حرماً لا يصاد صيده ولا يقطع شجره.
وسابعها: مأمنا لا تجد جانٍ يأوي إليه ويغفر ذنوب من دخل فيه قال تعالى:
{ حَرَماً آمِناً } [القصص: 57].
وثامنها: جعلها قبلة حبيبه، وقال:
{ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [البقرة: 144]، وقبلة أمته { وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } [البقرة: 144].
وتاسعها: جعله حجة ركناً من أركان الإسلام وقال الله:
{ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } [آل عمران: 97].
وعاشرها: جعله منزل الرحمة ومقسمها لقوله صلى الله عليه وسلم:
"إن الله في كل يوم وليلة مائة وعشرين رحمة تنزل على هذا البيت ستون للطائفين وأربعون للمصلين وعشرون للناظرين" .
والحادي عشر: جعل طوافه عبادة وموجباً للرحمة.
والثاني عشر: جعل النظر إليه عبادة وموجباً للرحمة.
والثالث عشر: جعل جواره جوار الله.
والرابع عشر: جعل محل الآيات البينات.
الخامس عشر: جعل صلاة فيه كألف صلاة فيما سواه من المساجد.
والسادس عشر: جعله ملجأ الخلق ومعاداً يعودون إليه لا يقضون منه وطراً كلما انصرفوا اشتاقوا إليه قال تعالى: { وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً } [البقرة: 125].
السابع عشر: جعله مغناطيس القلوب بجذبها من المسافة البعيدة فالقلوب مشتاقة إليه وإلى أهله لما قال تعالى:
{ فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِىۤ إِلَيْهِمْ } [إبراهيم: 37].
والثامن عشر: جعل له كرامة ظاهرة وآية مبينة أن الطير يقع على حيطانه ولا يطير فوقه ولا روث في حرمه مع كثرة الحمام.
والتاسع عشر: جعله معظماً مبجلاً في الجاهلية والإسلام من لدن آدم عليه السلام إلى اليوم، وكانوا يعظمونه ويقصدونه ويزورونه ويقربون به أهل الأديان والملل كلها حتى الكفر والشرك.
وعشرونها: جعل فيه الحجر الأسود وهو ياقوتة من يواقيت الجنة قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"الحجر الأسود يمين الله في أرضه" شرفه الله بهذه الكرامة بما لا يحصى ولكن اقتصر على مخافة التطويل والإشارة في قوله تعالى: { وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } [البقرة: 125]، أنا عاهدنا معهما في الميثاق على تطهير القلب عن أدناس تعلقات الكونين واقتصار ملاحظة الأغيار فإنه بيتي، وإنما أضافه إلى نفسه ليكون مخصوصاً به عما سواه ولا يكون لغيره فيه مأوى ولا سكنى.
ولو كان الأمر بالتطهر مقصوراً على بيت الكعبة لكفى الخطاب إلى أحدهما دون الآخر كقوله تعالى:
{ وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ } [الحج: 27]، فلما كان الأمر بذلك مشتملاً على تطهير كلا البيتين خاطبهما به، وأما الطائفون فواردات الحق وإلهاماته وإشاراته ومحادثاته ولوامع أنواره وطوالع أسراره ووفور مواهبه فحملتها بلسان قوم الأحوال، وهي التي تطوف حول القلوب المطهرة من الملوثات السليمة من الآفات، وأما المعاكفون فأنوار معرفته ومحبته وحقائق صفاته وأخلاقه فجملتها المقام فالأحوال تكون لأصحاب التلوين ولأرباب التميكن والمقام ولا يكون إلا لأرباب التمكين، وأما الركوع والسجود فإشارة إلى قلب الصفاء المطهرة وهي الإرادة والصدق والإخلاص والخضوع والخشوع والدعاء والتضرع والابتهال والانكسار والتواضع والخوف الرجاء والصفاء والوفاء والتسليم والرضا والخشية والهيبة والتوكل والتفويض فحملتها العبودية.
ثم أخبر عن دعاء إبراهيم عليه السلام لمكة وأهلها من شرف البيت بقوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَٰعِيلُ } [البقرة: 126-127]، والإشارة فيها أنه كما كان في بدء أمر البيت أن آدم عليه السلام لما هبط إلى الأرض وفقد ما كان يجد من روائح ألطاف الحق في الجنة استوحش، فأنزل الله تعالى ياقوتة من يواقيت الجنة لها بابان باب شرقي وباب غربي، وفيها قناديل من الجنة فكذلك لما هبط الروح إلى أرض الجسد فقد ما كان يجد من روائح ألطاف الحق في جنة حضرة القدس استوحش فأنزل الله ياقوتة من يواقيت حضرة القدس لها بابان إلى حضرة رب العالمين يطلع منه شوارق الألطاف، وباب غربي إلى مغرب الجسد منه تخرج الشوارق إليه وفيه قناديل من جنة حضرة القدس، وهو العقل وأنزل حجرة الذرة المخاطبة بخطاب:
{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [الأعراف: 172]، منوراً بنور جواب { بَلَىٰ } وهو الإيمان الفطري وهو الحجر الذي لقمه كتاب العهد يوم الميثاق، وهو يمين الله في أرضه وهو الذي يلزم أن يصافح ويقال إيماناً بوعدك ووفاء بعهدك فلما كان أيام طوفان آفات الصفات البشرية الطفولية إلى أوان البلاغة ودار تنور الشهوة رفع بيت معمور القلب إلى السماء الرابع يعني حجب أستار خواص العناصر الأربع وأخفى حجر الذرة في أبي قبيس صفات النفس فلما أمر إبراهيم الروح بعد البلوغ ببيت القلب السكينة التي ينزل الله تعالى في قلوب عباده ولو كان نبياً من الأنبياء لقوله تعالى: { أَنَزلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ } [التوبة: 26].
وقال تعالى:
{ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الفتح: 4] فجعل إسماعيل النفس المطمئنة المارة تجيء بأحجار أعمال الشريعة من جبال أركان الإسلام، وتناولها بيد الصدق إبراهيم الروح وهو بيتي إلى أن يبلغ موضع الحجر فنودي من أبي قبيس الهوى: وإن لك عندي وديعة فخذها مخلص حجر الذرة من أستار صفات النفس والهوى فوضعه مكانه وكان أبيض فلما لمسه حضيض اللذات الدنياوية ومشركوا الشهوات النفسانية في جاهلية الطفولية اسود، فلما أتما رفع قواعد بيت القلب رجعا إلى الحضرة بصدق النية وما سألا ربهما من الأجرة إلا تقبل العبودية: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } [البقرة: 127]، بما يحتاج إليه مما نعلم ومما لا نعلم.
ثم أخبر تعالى عن صدق التجائهما وخلوص دعائهما بقوله تعالى: { رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ }، والإشارة فيها أن إبراهيم الروح وإسماعيل النفس المطمئنة سألا ربهما بعد فراغهما من عمارة القلب أن يجعل سعيهما مشكوراً، ويجعلهما مسلمين منقادين للأحكام الظاهرة والباطنة، فأما الظاهرة: فهي أحكام الشريعة وأما الباطنة: فهي الأحكام الأزلية الحقيقية التي جف القلم بها قالا: { رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ } أي: المتولدات منا من الصفات الروحانية والصفات النفسانية { أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ }، حتى لا يتحرك عرق منا إلا بانقياد أوامرك ونواهيك، ولا يخطر ببالنا خاطر إلا بإلهاماتك ودواعيك ولا يكون لنا خلق إلا تخلقنا به من أخلاقك { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا }؛ إذ لا سبيل إلى معرفة [مقتدراتك] إلا بإعلام [أوقاتك]، { وَتُبْ عَلَيْنَآ }، بتوفيق ترك حظوظنا والقيام بأداء حقوقك بعد القيام بجميع ما أمترنا حتى لا تلاحظ حركاتنا وسكناتنا، ونرجع إليك عن شهود أفعالنا واستجلاء أحوالنا لئلا يكون يخطر الشرك الخفي بوهم منا { إِنَّكَ أَنتَ }، وأنا بك لا بنا فلا يكون رجوعنا إلا إليك لأنك { ٱلتَّوَّابُ }، فارجع بنا إليك بك فراحمنا فإنك { ٱلرَّحِيمُ }.
ثم أخبر تعالى عن إلحاحهما في الدعاء بقوله تعالى: { رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ }، والإشارة فيها أن الرسول الخارجي لا يسمع من لم يكن له في القلب رسول قلبي بوارد من الحق سبحانه ويكون القلب به حياً كما قال تعالى:
{ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ } [النمل: 80]، وقال تعالى: { لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً } [يس: 70]، فالقلب الحي بنور ورد الحق ليسمع بذلك النور كلام الرسول الخارجي ويفهمه ويقبله فسر القلب الذي هو قابل فيض نور وارد الحق يكون الرسول بين الحق والعبد، فيأخذ الأسرار والمعاني والحكم والمواعظ من نور وارد الحق ويبلغها إلى القلب والنفس وسائر الأمة المسلمة من الأوصاف والأخلاق.
كما قال صلى الله عليه وسلم:
"واعظ الله في قلب كل مؤمن" فمعنى الآية أفض على سر القلب أنوار وارد فضلك ليكون رسولاً في الآمة المسلمة من الأوصاف الإنسانية وأخلاقها وأعمالها منهم، فيأخذ رسالات أنوار وارداتك ويبلغ إليهم { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ }، بلسان الأنوار { آيَٰتِكَ }، وارداتك { وَيُعَلِّمُهُمُ } أسرار { ٱلْكِتَٰبَ }، ومعانيه وحقائقه ولطائفه { وَٱلْحِكْمَةَ }، وهي كل خير معنوي يؤتيهم الله بوارد فضله سراً فيخصه بذلك دليله قوله تعالى: { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [البقرة: 269]، فإن قيل على هذا كيف يعلمهم الحكمة النبي صلى الله عليه وسلم وأثبت أن الحكمة من مواهب الحق؟ فالجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أنه يعلمهم من الحكمة التي أتاه الله ويدعوهم بها إلى سبيل الحق بيانه قوله تعالى:
{ ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ } [النحل: 125].
وثانيهما: شرائط الإسلام وواجبات الشرع فيها يهدي الله قلوبهم ويفتح عليهم أبواب الحكمة لقوله تعالى:
{ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [التغابن: 11]، وقال تعالى: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ } [الشورى: 52]، وقوله تعالى: { وَيُزَكِّيهِمْ }، فيه إشارة إلى أن تزكية أوصاف الخلق لا يمكن إلا بتحلية أخلاق الحق، وذلك أيضاً من أنوار وارد الفضل لقوله تعالى: { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ } [النور: 21].
{ إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ }، والعزيز هو المنيع الذي لا يهدي إليه إلا بهدايته ولا يوصل إليه إلا بجذبات عنايته { ٱلحَكِيمُ }، أي: ذو الحكمة يعني ليست الحكمة من صفات الخالق إنما هي من صفات الحق فمن لم يؤته الحكمة يكون على وصف جهولية
{ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [الأحزاب: 72].
ثم أخبر تعالى عن وصف من نبذ الملة وما فيه من العلة بقوله: { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [البقرة: 130]، إشارة إلى أنه من يرغب من ملة إبراهيم الروح وهي التوحيد بالكلية للحق، والتبرؤ عما سواه في تصحيح الخلة إلا النفس الأمارة التي من خصوصيتها الظلومية والجهولية فبجهلها لا يعرف قدر مقام الروح واختصاصه بالقرب واستحقاقه للخلة، ولا يعرف أيضاً خسته نفسها وعملها وضلالتها المذمومة، وإن هكلاها في هواها فترغب إلى متابعة هواها وتحصيل لذاتها وشهواتها وترغب عن مطاوعة الروح في طلب الحق { وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَاهُ فِي ٱلدُّنْيَا } [البقرة: 130]، على كل شيء خلقناه { وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ } [البقرة: 130]، لقبول نور الله الذي هو مخصوص به من العالمين في قبوله وإلى هذا أشار بقوله
{ وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ } [الأحزاب: 72]، فافهم جدّاً.