التفاسير

< >
عرض

أَوْ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَٱنْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَٱنْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَٱنْظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٥٩
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ ٱلطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٢٦٠
-البقرة

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن إظهار قدرته في إحياء الموتى بعد انقطاع المدعي في محبته عقيب الدعوى بقوله تعالى: { أَوْ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَٱنْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ } [البقرة: 259].
والإشارة فيها: أن قوماً أنكروا حشر الأجساد مع أنهم اعتقدوا وأقروا بحشر الأرواح، وقالوا: الأرواح كان تعلقها بالأجساد ولاستكمالها في عالم المحسوس كالصبي يبعث إلى المكتب لتعلم الأدب، فلما حصل مقصوده من التعلم بقدر استعداده وخرج من المكتب ودخل محفل أهل الفضل وصاحبهم سنين كثيرة، واستفاد منهم أ نواع العلوم التي لم توجد في المكتب واستفاد العلوم من الفضلاء بقوة أدبه التي تعلم في المكتب، وصار فاضلاً في العلوم فما حاجته بعد أن كبر شأنه وعظم قدره أن يرجع إلى المكتب وحالة صباه. فلذلك الأرواح لما خرجت من سجن الأشباح واتصلت بالأرواح المقدسة بقوة علوم الجزئيات التي حصلتها من عالم الحس مستفادة عن الأرواح العلوية علم الكليات التي لم توجد في عالم الحسن فما حاجتها أن ترجع إلى سجن الأجساد، فكانت نفسهم تسولت بهذه التسويلات والشيطان يوسوسهم بمثل هذه الشبهات، فالله سبحانه وتعالى من كمال فضله ورحمته على عباده المسلمين أمت عزيزاً مائة سنة وحماره ثم أحياهما جميعاً ليستدل به العقلاء على أن الله مهما يحيي عزيز الروح يحيي معه حمار جسده فلا يشك العاقل بتسويل النفس ووسوسة الشيطان وشبهات المتفلسفين في حشر الأجساد كما قال تعالى: { وَٱنْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَٱنْظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً } [البقرة: 259]؛ يعني: انظر إلى حمارك الميت والعظام الرميمة، ثم انظر إلى العظام ننشزها لنجعل حالك وحال حمارك في الأحياء آية، والآية واضحة وأمارة لائحة للعاقل المؤيد عقله بنور الإيمان { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ } [البقرة: 259]، بعد كشف الحجاب برؤية مشاهدة أنوار الغيب { قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة: 259] يقر ويؤمن بأن الله يحيي عزيز الروح ويحيي معه حمار جسده، فكما أن عزيز الروح يكون في مقعد صدق عند مليك مقتدر يكون حمار عزيز الروح، وهو جسده ونفسه في الجنة، فلعزيز الروح مشرب من كئوس تجلي صفات الجمال والجلال عن ساقي
{ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } [الإنسان: 21] والحمار الجسد مشرب من أنهار الجنان وحياض رياض، { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعْيُنُ } [الزخرف: 71] { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ } [البقرة: 60] مشربنا، وأهرقنا على الأرض سؤرنا وللأرض من كأن الكرام نصيب، وإن الحشر الأجساد وإعادة الأرواح إليها فوائد وحِكَماً سنبينها في موضعه إن شاء الله تعالى.
ثم أخبر عن إراءة كيفية الإحياء لخليله "شيخ الأنبياء" عليهم الصلاة السلام قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [البقرة: 260]، والإشارة فيها أن في قوله:
{ رَبِّ أَرِنِيۤ } [الأعراف: 143]، تفوح رائحة معنى قول موسى عليه السلام { رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ } [الأعراف: 143]، ولكن موسى عليه السلام كان الغالب عليه السكر فإذا أديرت عليه كاسات المكالمات وأثر فيه شراب ملاطفات المحاورات، وسكر قلبه بشراب الذوق وطاش لبه عن غلبات الشوق وارتفعت الحشمة والحياد، وانقطعت الكلفة والعناد أرويت الآذان بالإصغاء تعطشت العيون إلى اللقاء فانبسط على بساط البسط، وأطلق عنان اللسان بالتصريح في ميدان البيان لسبق رؤية العيان وقال: { رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ } [الأعراف: 143]، فلم يحفظ الأدب في الطلب فما أرى غير النصب والتعب وأدب تأديب الخاطئ الجاني وعرك بتعريك { لَن تَرَانِي } [الأعراف: 143] فأما الخليل عليه السلام فكان الغالب عليه الصحو على أنه أسقي بأقداح الخلة ما لو سقى موسى عليه السلام بقطرة منه لم يفق أبداً لأنه كان صاحب شرب، وكان الخليل عليه السلام صاحب ري، فصاحب الشرب سكران وصاحب الري صاح كما قيل شعر:

شرب الحب كأساً بعد كأس فما نفد الشراب وما رويت

كان شرب موسى عليه السلام من شراب الكلام بأقداح السماع في أفواه السماع أحياناً فكان دائماً سكراناً فتارة ينبسط مع الحق بقوله { أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ } [الأعراف: 143] وأجري يعربد بقوله { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } [الأعراف: 155] وتارة يعربد مع هارون { وَأَلْقَى ٱلأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ } [الأعراف: 150]، وتارة يعربد من الخضر عليه السلام { لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً } [الكهف: 74]، وتارة يعربد مع ملك الموت فلطمه ففقأ عينه، وأما القبطي وقتله فوكزه موسى فلا يقربه به.
والخليل عليه السلام شرب من شراب الخلة بكاسات الوصلة في أفواه الأرواح ومع هذا ما زلت قدمه في أدب من آداب العبودية في الحضور والغيبة من كمال صحوة بسطوات الهيبة، فلا جرم أكرم اليوم بكرامة الشيبة: "إن أول من شاب شيبة إبراهيم عليه السلام" ويحترم غداً بالكسوة أما أول من بكى إبراهيم عليه السلام ولما ابتلي في ماله بذل الضيفان وابتلي في ولده
{ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } [الصافات: 103]، للقربان وابتلي في نفسه استسلم لمنجنيق ابن كنعان وابتلي بجبريل عليه السلام فقال: أما إليك فلا عند الامتحان فلا جرم على قضيته عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان، أكرمه بالإمامة للإنسان قال الله تعالى: { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } [البقرة: 124]، ومن إمامته أنه كان أول من دق باب الطلب للحق، وقال: { قَالَ هَـٰذَا رَبِّي } [الأنعام: 76]، وأول من سلك طريق الحق، وقال: { وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الصافات: 99] وأول من نطق بمحبته وقال: { قَالَ لاۤ أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ } [الأنعام: 76]، وأول من أظهر الشوق، وقال: { لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّالِّينَ } [الأنعام: 77]، وأول من أظهر العداوة مع غير المحبوب وقال: { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِيۤ إِلاَّ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } [الشعراء: 77]، أول من اشتاق إلى الرب سأل الرؤية وقال: { رَبِّ أَرِنِي } [البقرة: 260]، ولا تحسبن أن اشتياقه إلى الرب وتعطشه للرؤية، إنما كان وقت سؤال رب أرني، كما قيل شعر:

ولست حديث العهد شوقاً لوعة حديث هواكم في حشاي قديم

فإنه كان برهة من الدهر مستغرقاً في هذا البرح؛ ولكن من غاية الحلم والحياة في مقام الصدق والوفاء يراعي حق إجلال العظمة والكبرياء، ومن حفظ أدب الإجل لا يفتح على نفسه باب السؤال، ويقول: "حسبي من سؤال علمه بحالي" والله تعالى يرى قلبه وتقلبه والعشق وليسمع تحنثه وتأوهه من الحرقة والشوق، ويشاء تحمله وتحمله وتخلده إجلالاً لمولاه، فيقول الله تعالى: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } [التوبة: 114]، وهو في ذلك يترصد فرصته يجد للسؤال فيها رخصة إلى أن يساقه التقدير إلى حسن التدبير وسأله نمرود: من ربك؟ فأجرى الحق على لسانه من فضله وإحسانه: { ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ } [البقرة: 258]، قال نمرود: وهي رأيت منه ما تقول أو رميت برمية ما به رأيت فوجد الخليل عليه السلام فرصة بهذا المقال لحق رخصته السؤال فأدرج في السؤال، فطلب بهذا الطريق مأموله فأخفى سره وهو: أرني في علته، وهو كيف يحيي الموتى بحفظ الأدب مع الرب، وهو يعلم أنه يعلم السر وأخفى، وكان يعلم الجليل ما هو مقصود الخليل وأول باب فتح عليه من مقصوده بأن خاطبه واسمعه بكلامه بفضله وجوده، وقال تعالى: { أَوَلَمْ تُؤْمِن } [البقرة: 260]، وكان فيه هذه الكلمة من إعجاز القرآن ثلاثة أجوبة مضمرة وثلاثة معان مدرجة مناسبة للسؤال.
وأما الأجوبة: فظاهر السؤال كان دالاً على طلب إحياء الموتى.
فأجابه وقال: { أَوَلَمْ تُؤْمِن } يعني ما آمنت عند نمرود بأني أحيي وأميت، فما كان إيمانك حقيقاً.
والجواب الثاني: وذلك أن الخليل أخفى سره وهو طلب الرؤية وعين سؤاله، فكذلك الرب تعالى أخفى سره، وقال: { أَوَلَمْ تُؤْمِن } بمعياد رؤيتي في الجنة فأريك ثمة.
والجواب الثالث: أن الخليل ما كان شاكاً فيما التمس ظاهراً؛ ولكنه أرى نفسه مشككاً تعللاً لسؤال المرام في ثناء الكلام، فكذلك الرب تعالى ما كان شاكاً في مقصود الخليل المضمر في سؤاله؛ ولكنه أجاب تشككه في إراءة نفسه كالمتشكك في المقصود والمضمر في سؤاله وقال: { أَوَلَمْ تُؤْمِن } يعني بما طلبت من الإحياء وتغافل عن مرام الجليل من كلامه مجيباً فيما صنع.
وأما المعاني الثلاثة: فالأول: أنه أضمر معنى الإثبات في لفظه النفي قال: { أَوَلَمْ تُؤْمِن } أي: بل تؤمن، كقوله:
{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [الأعراف: 172] أي: أنا ربكم، والثاني: أنه درج فيها معاني جواز الرؤية يعني { أَوَلَمْ تُؤْمِن } بأني أرى يوم الميعاد، فتراني أنت أيضاً، فتتضمر في سؤالك طلب رؤيتي.
والثالث: أنه أحيى فيها معنى معالجة الخليل بالبصر يعني: { أَوَلَمْ تُؤْمِن } بإنجاز وعدي لك بالرؤية فاصبر فإن الميعاد لخواص العباد، ثم قال الخليل في الاستفهام للمبالغة في تحصيل المرام: { بَلَىٰ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } عن الاستفهامات ببلى السر بالسر، وقرر المضمرات في السؤال بقوله: { وَلَـكِن } يعني ولكن مع الحديث اعلم واضمر في لفظه: { لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } ضرورات السؤال وحقائقها إضمار بإضمار، فأما الجواب عن الاستفهام الأول في جواب المفهوم الأول منه طلب الأحياء، ومعنى الاستفهام أي: ما آمنت عند نمرود بأني أحيي وأميت قال: { بَلَىٰ } وكان إيماني حقيقياً، ولكن كان مقصودي من السؤال عن إحياء الموتى الإيمان والإيقان، فإنه حاصل لي ولا إحياء الموتى، فإني فارغ من الموتى وإحيائهم ولي اضطراب قلبي بمثل هذه الأشياء حتى تطمئن، وإنك تعلم ما نريد.
والجواب عن مفهوم الثاني بالاستفهام، وهو قوله: { أَوَلَمْ تُؤْمِن } بميعاد رؤيتي في الجنة فأريك ثمة، فقال: أؤمن بهذا ولكن لا يسكن اضطراب قلبي في الطلب وقلقة في الشوق أرني ليطمئن قلبي، فإن سبب اضطراب القلب عين الإيمان، وكلما ازداد يقينه بالرؤية ازداد شوقه وقلقه.
والجواب الثالث { بَلَىٰ }: اعلم أنك أبهمت الجواب عن سؤال الرؤية وأظهرت التشكك عن معنى الرؤية كما أبهمت السؤال عن الرؤية وأظهرت التشكك عن معنى الرؤية كما أبهمت السؤال عن الرؤية وأظهرت التشكك في معنى الإحياء، وقلت: { أَوَلَمْ تُؤْمِن } بقدرتي على الإحياء، ولكن ما سألتك عن الإحياء مسألتك عن كيفية الإحياء أن ترني كيف { تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ } ففي ذلك تحصيل مقصودي، وهذا كما أن العاشق معشوقاً احتياطاً وهو يريد أن يرى مشاهدة معشوقه، ويحتشم منه أن يقول له: { أَرِنِي } وجهك لأنظر إليك؛ لأنه يعلم أن الدلال قرين الجمال، وأن الحسرة والحسن وتؤمان، وفي مذهب الملاح الطلب والسبيل سر، وغلبات الشوق الشوق مزعجة، وطلبات العشق تخرجه حتى يضطرب إلى السؤال، فيتصنع في طلب المقصود من صاحب الكمال، فيقول: { أَرِنِي كَيْفَ } يختط الثياب، وكل صانع فاخر في صنعه يريد أن يرى جودة صنعه صاحب بصيرة وتمييز، ويجب أن يظهر كماله في ذلك فلا يبخل أن يريه كيفية خياطة الثوب ولا يستنكف عن هذا المعنى ليريه بأن يحضره عنده بلا حجاب، وهو يخيط الثوب ويقول: انظرني كيف أخيطه، فالعاشق يصل بعله الصنع إلى الصانع، ويخطى منه بلا مانع ولا دافع ويطمئن قلبه بذلك؛ فالخليل لما اعتذر عن الخليل من استعمال الاضطرار حاله في سؤاله وتضرع بين يدي مولاه، وهو من يجيب المضطر إذا دعاه وحقق رجاه: { فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ ٱلطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً } [البقرة: 260].
والإشارة فيها أنك محجوبٌ بك عني فحجاب صفاتك عن صفاتي محجوب، ولحجاب ذاتك عن ذاتي ممنوع، فمهما تموت عن صفاتك تجئ بصفاتي، وإذا فنيت عن ذاتك أبقيت ببقاء ذاتي: { فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ ٱلطَّيْرِ } وهي الصفات الأربعة التي تولدت من العناصر الأربعة التي تخمرت طينة الإنسان منها، وهي التراب والماء والنار والهوى، فتولدت من أزواج كل عنصر مع قرينه صفتان منها، وهي التراب وقرينه وهو الماء تولد الحرص والبخل، ومن النار وقرينه، وهو الهواء تولد الغضب والشهوة، وهو قرينان يوجدان معاً، ولكن واحد من هذه الصفة زوج خلق منها ليسكن إليها كحواء وآدم.
وتتولد منها صفات أخرى فالحرص زوجة الحسد، والبخل زوجة الحقد، والغضب زوجة الكبر، وليس للشهوة اختصاص بزوج معين بل هي كالمشوقة بين الصفات، فيتعلق بها كل صفة ولها منها متولدات يطول شرحها، فهي الأبواب السبعة للدركات السبع من جهنم التي لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم يعني: من الخلق، فمن كان الغالب عليه صفة منها، فيدخل النار بذلك الباب فافهم جدّاً.
فأمر الله تعالى خليله عليه السلام بذبح هذه الصفات وهي الطيور الأربعة: طاووس البخل، فلو لم يزن المال في نظر البخيل كما يزين الطاووس بألوانه ما بخل به، وغراب الحرص، وهو من حرصه يكثر في الطلب، وديك الشهوة وهو بها معروف، ونسر الغضب ونسبته إليه لتصريفه في الطيران فوق الطيور وهذه صفة الغضب، فلما ذبح الخليل عليه السلام بسكين الصدق هذه الطيور وانقطعت منه متولداتها ما بقي له باب يدخل به النار، فلما ألقي فيها بالمنجنيق قهراً ووقراً صارت عليه
{ بَرْداً وَسَلَٰماً } [إبراهيم: 69]، تفهم إن شاء الله تعالى وحده.
والإشارة في تقطيعهن بالمالغة ونتف ريشها، وتفريق أجزائها، وتلخيط ريشها ودمائها ولحومها بعضها ببعض، إشارة إلى: محو آثار الصفات الأربعة المذكورة، وهدم قواعدها على يد إبراهيم الروح بأمر الشرع ونائب الحق وهو الشيخ، والأمر بتقسيم أجزائها وجعلها { عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا } [البقرة: 260]، فالجبال الأربعة هي النفوس التي جُبل الإنسان عليها:
أولها: النفس النامية وتسمى النفس النباتية.
وثانيها: النفس الأمارة وتسمى الروح الحيواني.
وثالثها: قوة الشيطنة وتسمى الروح الطبيعي.
ورابعها: قوة الملكية وهو الروح الإنساني.
وطيور الصفات لما ذُبحت وقُطعت وخُلطت أجزاء بعضها ببعض، ووضعت على كل جبال روح ونفس منهما جزءاً بأمر الشرع، يكون بمثابة أشجار وزرع يجعل عليها اقتراب المخلوط بالزبل والقاذورات، باستصواب دهقان ذي بصارة في الدهقنة بمقدار معلوم ووقت معلوم، ثم يسقيها بالماء ليتقوى الزرع بقوة التراب والزبل، وتتصرف النفس النامية النباتية في التراب المخلوط الميتة فيحيها بإذن الله تعالى بقوله:
{ فَٱنظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ ٱللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ } [الروم: 50].
فكذلك الصفات الأربع وهي: الحرص والبخل والشهوة والغضب، فمهما كانت كل واحدة منها على حالها غالبة على الجواهر الروحاني تكدر صفاؤه وتمنعه من الرجوع إلى مقامه الأصلي ووطنه الحقيقي، فإذا كسرت صورتها وذهبت قوتها، وأميتت شعلتها، ومحيت آثار طباعها بأمر الشرع، وخلطت أجزاؤها المتفرقة بعضها ببعض، ثم قسمت بأربعة أجزاء وجعل كل جزء منها على جبل قوة أو نفس أو روح، فيتقوى كل واحد من هؤلاء بتقويتها، ويتربى بتربيتها، فيتصرف فيها الروح الإنساني بقوة الملك فيحييها، ويبدل تلك الظلمات التي هي من خصائص تلك الصفات المذمومة بنورٍ هو من خصائص الروح الإنساني والملكي، كقوله:
{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ } [الأنعام: 122]، فتكون تلك الصفة ميتة عن أوصافها، حية بأخلاق الروحانيات، هذا الخواص الخلق الذين غلبت على أحوالهم الروح، وأما خواص الخواص، ولمن أدركته العناية { وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ } [يوسف: 21]، كما كان حال الخليل عليه السلام، فإن الله تعالى بعد خمود هذه الصفات يتجلى لها بصفة المحيي، فيحيي هذه الصفات الغالبية عن أوصافها بنور صفة المحيية، فيكون العبد في تلك الحالة حياً بحياته محيياً بصفاته، وهذا المقام مخصوص بأهل الجنة والمحبة كما قال جل جلاله: "لا يزال العبد يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت له سمعاً وبصراً ولساناً ويداً ومؤيداً، فبي يسمع وربي يبصر، وبي ينظق وبي يبطش" ، ففي هذا المقام تجلى الحق تبارك وتعالى لإبراهيم عليه والسلام؛ لينعم عليه بما ولاه، ويكرمه بإعطاء سؤاله، فيتجلى له بصفة المحيي، فكان في تلك الحالة حياً بحياته محيياً بصفاته، وكان ينطق بالحق، فقال له الحق: "قلت لي: { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ } [البقرة: 260]، فأريك كيف أحيي الموتى، قل لهن: تعالين { يَأْتِينَكَ سَعْياً } [البقرة: 260]؛ لأنك عنك فإنٍ وبي باقٍ فبي تقول: تعالين لابك" .
ومثال هذا كما أن أُميِّاً يقول لكاتب: أرني كيف تكتب؟ فيجعل الكاتب قلمه في يد الأُمِّي، ويأخذ يده ويمد بقوة يده بيد الأُمِّي على الصحيفة، فيقول: أنا الكاتب، رأيت كتابي، هكذا أكتب، ففي تلك الحالة يظن الأمي أنه صار كاتباً إذا رأى الكتابة تكتب من يده، فيقول: أنا الكاتب، وفي هذا المقام قال من قال:

عَجِبتُ مِنكَ وِمنّي يا مُنيَةَ المُتَمَنّي
أَدَنَيتَني مِنكَ حَتّى ظَنَنتُ أَنَّك أَني

فإذا رفع الكاتب يده عن يد الأُمِّي فيعلم الأُمِّي أنه أُمِّي والكاتب هو الكاتب، ثم يستغفر عن ذنب حسبانه أنه هو الكاتب، كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى إن تجلى لخليله عليه السلام بصفة واحدة وهي المحيي ليريه آية من آياته وهي كيفية الإحياء، فقد تجلى لحبيبه بجميع صفاته ليلة المعراج، كما قال تعالى: { لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ } [الإسراء: 1]؛ أي: لنريه جميع آياتنا.
واعلم أن آيات الله تنقسم إلى قسمين:
قسم منها: هي صفاته القديمة القائمة بذاته.
وقسم هي: آثار صفاته وهي المخلوقات: كالشمس والقمر وقال تعالى:
{ وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ } [الإسراء: 12]، وأمثالها كثيرة وهي آثار صفات القدرة، كما قال تعالى: { فَٱنظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ ٱللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ } [الروم: 50]، فالرحمة صفة الحق، والماء الذي حيي الأرض آثار الرحمة، والآيات التي هي صفاته مثل آيات القرآن، فالله تعالى: { أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً } [الإسراء: 1]، وهي ليلة المعراج؛ ليريه جميع صفاته، كما سأل الحبيب بقوله: "أرنا الأشياء كما هي" ، فإنه أيضاً طلب الرؤية؛ ولكن بقدر علو همته، ورفعة مرتبة، وكمال معرفته، فعلى قدر علو همته قال: "أرنا الأشياء ما هي لي"، والأُمِّي كان يرى أن سر الناس من كل وحده برفعة مرتبته، وقال: الأشياء راعى فيها معنيين:
حفظ الأدب وإخفاء مقصوده غاية الإخفاء: في قوله: "الأشياء"، ما قاله الخليل بالنسبة إلى قوم الكليم كان تعريضاً، وبالنسبة إلى قول الحبيب كان تصريحاً، والمعنى الثاني: طلب كمال الرؤية بجميع الصفات؛ لأنه لا يبقى شيء إلا في الأشياء داخلها، فافهم.
ولكمال المعرفة طلب رؤية الماهية، فقال: "كما هي"، ولعمري هذا هو الملك الحقيقي الذي لا ينبغي لأحد من قبله ولا من بعده، وتجلى له الرب تبارك وتعالى تلك الليلة بجميع صفاته، كما قال تعالى:
{ إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ * مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ * لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ } [النجم: 16-18]، وإنما خص الآيات بالكبرى؛ ليفهم أن الآيات الصغرى هي: الآثار، والآيات الكبرى هي: الصفات العليا، ثم قال تعالى له: { فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ } [محمد: 19]، هذا إخبار عن إفناء ذاته وصفاته بالكلية عند تجلي الإلوهية، فبعث وحده بإفناء بالماهية عن العبدية وإبقاء بالوحدة؛ ليعلم ما هية { أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ } [محمد: 19]، فما بقي غير الحق، وما رأى الحق إلا الحق، { وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } [محمد: 19]؛ أي: لذنب حسبانك أنك كاتب وأنت نبي أُمِّي عربي لست بكاتب، وهذه إشارات وبشارات عرفها من عرفها وجهلها من جهلها، ولعلي ما سبقت بهذا التقرير، والله أعلم.
ثم قال لخليله حتى يعلم أنه ليس بكاتب { وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [البقرة: 260]؛ يعني بعد أن أحييتك بحياتي وأكرمتك بصفاتي، فأحييت الطيور وعَلِمْت كيفية إحيائي الموتى على قدر استعدادك واستحقاقك، فاعلم أني أعز من أن يُعرف كنه صفة من صفاتي أو كيفيتها أو ما هيتها،
{ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ } [البقرة: 255]، وأنا حيكم لا يحيط بعلمي إلا حكمتي، ولا يحيط بحكمتي إلا علمي، لأنهما موصوفان بإحاطه القدم.