التفاسير

< >
عرض

إِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ٱلْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
٢٧١
لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ ٱللَّهِ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ
٢٧٢
لِلْفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي ٱلأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ
٢٧٣
-البقرة

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم شرح أحوال العباد في نياتهم بالصدقات بقوله تعالى: { إِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ٱلْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ } [البقرة: 271]، وإخفاء الصدقة أشار به إلى تخليصها من شوب الحظوظ، كما أشار النبي صلى الله عليه وسلم في حديث: "سبعة يظلهم الله في ظله" ، وقال صلى الله عليه وسلم: "رجل تصدق بيمينه فأخفى حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه إلى إخفاء الصدقة عن شماله" ؛ يعني: يخفيها عن حظوظ نفسه فتكون خالصة لله تعالى، فصاحبها يكون في ظل الله، وكما قال صلى الله عليه وسلم: "إن المرء يكون في ظل صدقته يوم القيامة" ؛ يعني: إن كانت صدقته الله تعالى فيكون في ظل الله، وإن كانت صدقته للجنة فيكون في ظل الجنة، وإن كانت صدقته للهوى فيكون في ظل الهاوية، فافهم جدّاً.
فلما علموا إخفاء الصدقات فأدوها أن تكون مشوبة بحظ الثواب، فقال تعالى: { إِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَاتِ } [البقرة: 271]، نظروها لطمع ثواب الجنة { فَنِعِمَّا هِيَ } [البقرة: 271]، فإنها مرتبة الأبرار،
{ إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } [الانفطار: 13] { وَإِن تُخْفُوهَا } [البقرة: 271]، عن كل حظ ونصيب، { وَتُؤْتُوهَا ٱلْفُقَرَآءَ } [البقرة: 271]؛ أي تعطوها لوجه الله تعالى إلى الفقراء لا حظ النفس، { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [البقرة: 271]؛ يعني: كما زدتم على الصدقة بالإخفاء عن الحظوظ، وهي أن يكون في ظل الله وهو مقام المقربين، لقوله تعالى: { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ } [يونس: 26] الحسنى؛ أي: جزاء أهل الحسنات، فأما من أحسن الحسنة فهو الذي يكون مقامه مقام الإحسان، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه؛ يعني: نظرك في الطاعة لا يكون إلا الى الله، فيكون جزاؤه بعد الجنة الزيادة، وهي لقاء الله عز وجل { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ } [البقرة: 271]، كل طائفة من الأبرار والمقربين، { خَبِيرٌ } [البقرة: 271]، فيجازيكم على قدر خلوص نياتكم، فـ "إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى" من عمله.
ثم أخبر عن الهداية وأن ليس لأحد عليها ولاية، وأن الله فيها ولي الكفاية بقوله تعالى: { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [البقرة: 272]، الإشارة فيها: إن يا محمد لك المحمود واللواء المعقود، ولك الوسيلة، وعلى الأنبياء الفضيلة، ولك ليلة المعراج والقربة الواصلة، ولك يوم القيامة الشفاعة والرفعة، وأنت سيد الأولين والآخرين، وأنت أكرم على رب العالمين، ولكن { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } [البقرة: 272]،
{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [القصص: 56]، { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ ٱللَّهِ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } [البقرة: 272]، وهو عالم بخفيات سرائركم وجلبات ضمائركم من غير فطور وقصور، { وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } [البقرة: 272]، قطميراً ولا نقيراً.
ثم أخبر عن أهل الصدقات ودلنا على أفضل النفقات، بقوله تعالى: { لِلْفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [البقرة: 273]، الآيتين، والإشارة فيهما: أن الإنفاق على سادات اختاروا الفقر على الغنى؛ محبة لله عز وجل واقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرفته، فإنه صلى الله عليه وسلم يقول:
"ليَّ حرفتان: الفقر والجهاد" ، وأولى وهم أحق بها، كما قال تعالى: { لِلْفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [البقرة: 273]؛ يعني: الفقير أحصره حب الله في طلبه، لا الذي أحصره الفقر والعجز عن طلب الرزق، بل أحصرهم الشوق والمحبة في سبيل الله فأخذ عليهم سلطان الحقيقة كل طريق فلا لهم في الشرق مذهب ولا الغرب مضرب، ولا منه إلى غيره مهرب كيفما نظروا سرادقات التوحيد محدقة بهم، كما قيل:

كأن فجاج الأرض ضاقت برحبها عليه فما تزداد طولاً ولا عرضاً

{ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي ٱلأَرْضِ } [البقرة: 273]؛ لأنهم واقفون مع الله لله بالله، سقط عنهم السكون والحركات، فإنهم مجذبون عنهم بالجذبات، مضروب عليهم قباب الغيرات، لا إشراف للأجانب عليهم، ولا سبيل للأغيار إليهم، حجبهم العزة عن الجاهل بحجاب العفة، فيراهم الأغنياء بنظر الأغنياء، { يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ } [البقرة: 273]؛ لأنهم مستورون قباب الغيرة، محجوبون عن معرفة أهل الغيرة، كما قال تعالى: "أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري يا محمد" .
{ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ } [البقرة: 273]؛ لأنك لست بك فلست غيري؛ لأنك إذا رأيت ولكن الله رأى، كما قال تعالى: { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } [الأنفال: 17]، وإنَّ سيماهم لا ترى بالبصر الإنساني بل ترى بالنور الرباني؛ لأن سيماهم في الظاهر من ظهور آثار أحوال الباطن، وأحوال باطنهم أنهم أحصروا في سبيل الله، فأحصروا نفوسهم على طاعة الله عن معصية قلوبهم على معرفة الله عن نكرته، وأرواحهم على محبة الله عن غيره، وأسرارهم على رؤية الله عن شهود سواه، فمن سيماهم في الظاهر من ظهور آثار أحوال الباطن، { لاَ يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافاً } [البقرة: 273]، لا بقليل ولا بكثير مع غاية احتياجهم؛ لأن إيتاء أنوار غناء قلوبهم انعكست على ظواهرهم، فتنورت بتعفف نفوسهم واضمحلت ظلمة فقرهم، وحاجتهم تحت أنوار غني قلوبهم، { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ } [البقرة: 273]؛ يعني: من كل معاملة فيها خير المال والجاه، وخدمة بالنفس وإعزاز وإكرام وإعظام وارد من القلب تعاملون به هؤلاء، والسادة حتى السلام عليهم استحقاقاً وإجلالاً وإذلالاً، { فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ } [البقرة: 273]، بجميع معاملاتكم معهم للتقرب إليهم، { عَلِيمٌ } [البقرة: 273]، فإن تقربتم إليه في الإنفاق عليهم بشبر يتقرب في مجازاتكم بذراع، وإن تقربتم بذارع يتقرب عليكم بباع، فلا نهاية لفضله ولا غاية لكرمه، ومن يسماهم في الظاهر تعرفهم به يا محمد إذا وجدوا مالاً، يبعيوا عز الفقر به.