التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٥٢
وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ وَٱلْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
٥٣
وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَٰقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ
٥٤
وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ
٥٥
ثُمَّ بَعَثْنَٰكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٥٦
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقْنَٱكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
٥٧
-البقرة

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ومن نعمه الباطنة: ما ذكر في قوله تعالى: { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ } [البقرة: 52] أي: من بعد عبادتكم العجل { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة: 52]، والشكر على ثلاثة أوجه: شكر بالأقوال، وشكر بالأعمال، وشكر بالأحوال.
فشكر الأقوال: أن يتحدث بالنعم مع نفسه إسراراً ومع غيره إظهاراً ومع ربه افتقاراً، كما قال تعالى:
{ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } [الضحى: 11]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "التحدث بالنعم شكر" .
وشكر الأعمال: أن يعرف نعمة الله تعالى في طاعته ولا يعصيه بها، ويتدارك ما فاته من الطاعات وبادر من المعاصي؛ لقوله تعالى: { ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً } [سبأ: 13].
وشكر الأحوال: أن يتجلى المنعم بالصفة الشكورية على سر العبد، فلا يرى إلا المنعم في النعمة والشكور في الشكر، ويرى المنعم في النعمة من المنعم، والشكر في الشكر والشكر من الشكور، ويرى وجوده وشكر النعمتين من نعم المنعم ورؤية النعمة، فتكون نعمة وجوده مرآة جمال المنعم، ويكون شكره مرآة جمال الشكور، ورؤية النعمة والمنعم نعمة أخرى إلى غير نهاية، فيعلم ألا يقوم بأداء شكره ولا يشكره إلا الشكور
{ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ } [الشورى: 23].
ثم أخبر عن إتياء الكتاب أنها نعمة أخرى في هذا الباب بقوله تعالى: { وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ وَٱلْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [البقرة: 53]، والإشارة فيها أن الله تعالى آتى لموسى الكتاب وهي التوراة والفرقان وهو نور النبوة والحكمة يؤتيها الله تعالى أنبياءه مع الكتاب، فيفرقون بها بين الحق والباطل للأمة، ويبينون بها الكتاب، ويعلمهم الحكمة لقوله تعالى:
{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ } [الأنعام: 89]، وقوله تعالى: { وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } [البقرة: 151]، قال صلى الله عليه وسلم: "أُتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ" ، { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } لكي تهتدوا بنور الكتاب ونور حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن موعظته إلى التوبة الحقيقية، وهي الرجوع إلى الله تعالى بقتل النفس الأمارة التي تعبد عجل الهوى؛ كيلا يحتاجوا إلى قتل النفس في الصورة. فلما لم يهتدوا إلى هذه التوبة بالتعريض، أمرهم بالتصريح بقوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ } [البقرة: 54]، والإشارة فيها أن لكل قوم عجلاً يعبدونه من دون الله؛ قوم يعبدون عجل الدرهم والدينار قال صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة" ، وقوم يعبدون عجل الشهوات، وقوم يعبدون عجل الجاه، وعجل الهوى وهذه يغضها الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما عبد إله أبغض على الله من الهوى" .
وقال تعالى: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } [الجاثية: 23]، فأرسل الله تعالى نبيه موسى قلب كل سعيد لقوله تعالى: { يَٰقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ } [البقرة: 54]، ارجعوا إلى الله تعالى بالخروج عما سواه، ولا يمكنكم إلا بقتل النفس { فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } [البقرة: 54]، بقمع الهوى لأن الهوى هو حياة، وبالهوى عبد ما عبد من دون الله على الحقيقة، وبالهوى ادعى فرعون الربوبية، وعبد بنو إسرائيل العجل، وبالهوى أبى واستكبر إبليس، وبه أكل آدم من الشجر، وبه عبدت الكواكب والأصنام.
وفيه معنى آخر: { فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ } ارجعوا إليه للاستنصار على قتل النفس بنهيها عن هواها، فاقتلوا أنفسكم بنصر الله وعونه، فإن قتل النفس في الظاهر تيسر للمؤمنين والكافرين، وأما قتل النفس في الباطن وقهر ما قهر صعب لا يتيسر إلا خواص الحق بسيف الصدق ونصر الحق، ولهذا جعل مرتبة الصديقين فوق مرتبة الشهداء بقوله تعالى:
{ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ } [النساء: 69].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع من غزو يقول:
"رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" وذلك لأن المجاهد إذا قتل سيف الكفار يستريح من النصب والتعب بمرة واحدة، وإذا قتل بسيف الصدق في يوم ألف مرة تحيى نفسه على بصيرة أخرى وتزداد في مكرها وخداعها وحيلها، فلا يستريح المجاهد طرفة من جهادها، ولا يأمن مكرها. وبالحقيقة: النفس صورة مكر الحق { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْخَاسِرُونَ } [الأعراف: 99].
{ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ } [البقرة: 54] يعني: قتل النفس بسيف الصدق ألف مرة خير لكم؛ لأن بكل قتلة رفعة درجة لكم عند بارئكم، فأنتم تقربون إلى الله تعالى بقتل النفس وقمع الهوى وهو يتقرب إليكم بالتوفيق للتوبة والرحمة عليكم، كما قال تعالى:
"من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً" ، وذلك قوله تعالى: { فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } [البقرة: 54]، أخبر عن سوء أعمالهم بمقالهم في قوله تعالى: { وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً } [البقرة: 55]، الآيتين، الإشارة فيهما أن مطالبة الرؤية جهرة هي تعرض مطالعة الذات المقدسة، فتوجب سوء الأدب وترك الحرمة، وذلك من أمارات البعد والشقاوة، فمن سطوات العظمة والعزة أخذتهم الرجفة الصعقة إظهاراً للعدل، ثم من سنة الكرم قاصد عليهم بحال النعم إسبالاً للستر على هيئات العبيد والخدم فقال: { فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } [البقرة: 55]، { ثُمَّ بَعَثْنَٰكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة: 56]، إظهاراً للفضل.
ثم أخبر عن نتائج الكرم بأنواع النعم بقوله تعالى: { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ } [البقرة: 57]، والإشارة: لما ابتلاهم بألسنة العزة وأدبهم بسوط القوة، أدركهم بالرحمة في وسطه الكربة، فأكرمهم بالإنعام وظللهم بالغمام ومن عليهم بالمن وسلاهم بالسلوى، فما ازدادوا بشؤوم الطبيعة ولؤم الوقيعة إلا في البلوى، كما قيل: { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [البقرة: 57]، بأمر الشرع { وَمَا ظَلَمُونَا } [البقرة: 57]، إذ تصرفوا فيها بالطبع { وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [البقرة: 57]، بالحرص على الدنيا ومتابعة الهوى.