التفاسير

< >
عرض

أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
٧٥
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوۤاْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
٧٦
أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ
٧٧
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ
٧٨
فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ
٧٩
وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ ٱللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٨٠
بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٨١
-البقرة

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن اليأس من إيمانهم بغاية خذلانهم بقوله تعالى: { أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ } [البقرة: 75]، إلى قوله تعالى: { وَمَا يُعْلِنُونَ } [البقرة: 77]، والإشارة في تحقيق الآيات بمجرد سماع الكلام من الله تعالى وإن كان بلا واسطة لا يحصل الإيمان الحقيقي، فإن الفريق الذين يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه، ولو كان لهم من الإيمان الحقيقي حاصل ما حرفوا كلام الله وهم يعلمون العلم الحقيقي أنه حق، وهذا يدل على أن علم الرجل ويقينه ومعرفته ومكالمته مع الله تعالى لا يفيد الإيمان الحقيقي إلا أن يزيكه الله تعالى بفضله ورحمته كما قال تعالى: { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً } [النور: 21]، وإن الله تعالى كلم إبليس وخاطبه بقوله: { إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ص: 75]، وما أفاده الإيمان الحقيقي إذا لم يكن مؤيداً من الله بفضله ورحمته قال في حقه: { وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ } [البقرة: 34].
{ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤاْ آمَنَّا } [البقرة: 76] يعني: إذا لم يكن سماع الكلام يفيد الفريق منهم فكيف يفيد هؤلاء منا: { وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوۤاْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [البقرة: 76]، وهم من جهلهم وغفلتهم: { أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } [البقرة: 77]، فيطلع رسوله على أسرارهم، وهذا أحد معاني إعجاز القرآن؛ يخبرهم عن مخفيات ضمائرهم ومجيبات سرائرهم { وَمَا يُعْلِنُونَ } [البقرة: 77]، من تصديق بلا تحقيق وهم من عمى بصائر قلوبهم لا يبصرون المعجزات ولا يؤمنون بها.
ثم أخبر عن غاية جهلهم وخسة عقلهم بقوله تعالى: { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ } [البقرة: 78]، الآيتين، الإشارة فيهما: أن اليهود متفاوتون في مراتب كفرهم، فقوم منهم أميون لا يعلمون الكتاب ما هو في الحقيقة إلا أماني أي: ما يتمنون من عند أنفسهم كما قال تعالى:
{ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ } [الشورى: 52]، وكما قال صلى الله عليه وسلم: "ليس الدين بالتمني" فبعضهم أحسن من درجة وأكثر جهلاً، ركنوا إلى التقليد المحض، ولا يمكنهم استيفاء شهوة، بل اعترضوا بظنون فاسدة وتخمينات مبهمة، فهم الذين لا ينصيب لهم من كتبهم إلا قراءتها دون معرفة معانيها وإدراك أسرارها وحقائقها، وهذا حال أكثر أهل زماننا من مدعي الإسلام، ومنهم: من أكثر شأنه ما يتمناه في نفسه ولا يساعده مكان إلا بظنون وتخمين، ومنهم: من يعتمد على كتب الأوائل وأقاويلهم الفاسدة وظنونهم الكاذبة ويكتبونه بأيديهم { ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } [البقرة: 79]، من الحطام الدنيوية والوجاهة عند الناس { فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } [البقرة: 79]، من الكفر والإلحاد عن الحق والاعتقاد السوء، وإغواء الخلق وإضلالهم، كما قال تعالى: { قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً } [المائدة: 77]، في هذه الآيات أيضاً إشارة إلى بعض المنتمين إلى هذه الطائفة من مدعي الإخلاص في الصحبة في طريق الحق، فينضم إلى الأولياء وأرباب القلوب ظاهراً، ثم يصدق له الإرادة ويميل إلى أهل الغفلة، وله مع هذه الطريقة جانب؛ كلما دعته هواتف الحظوظ يسارع إلى الإجابة طوعاً، وإذا قادته دواعي الحق يتكلف كرهاً من الحالة ما لم يختص نيته، وما أشد ندمه فيما أؤخر عن الله تعالى إن لم يصلح طويته حين اشترى بالحقوق الباقية الحظوظ الفانية.
ثم أخبر عن وساوسهم الشيطانية وهواجسهم النفسانية بقوله: { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ } [البقرة: 80]، إلى قوله: { خَالِدُونَ } البقرة: 81]، والإشارة فيها: أن بعض المغرورين بالعقل من ضلاَّلا الفلاسفة وجهال الطبائعية وغيرهم نوط غفلتهم وغلبات مغاليط ظنونهم، قد ظنوا أن قبائح أعمالهم وفضائح أفعالهم وأقوالهم لا تؤثر في صفاء أرواحهم، وتغيير أحوالهم، فإذا فارقت الأرواح إلى حضائر القدس، ولا يصحبها شيء من نتائج الأعمال.
{ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } [البقرة: 80]، وذلك من فطام الأرواح عن ألبان التمتعات الحيوانية، وهذا ظن فاسد وكفر صريح من وسواس الشيطان وهواجس النفوس وليس بمعقول؛ لأن العاقل يشاهد حساً وعقلاً أن تتبع الشهوات الحيوانية واستيفاء اللذات النفسانية تورث الأخلاق الذميمة من الحرص والأمل والحسد والبغض والغضب والبخل والكبر والكذب وغير ذلك؛ إن هذه وإن كانت من صفات النفس الأمارة بالسوء؛ فتصير بالمجاورة والشعور بأخلاق الروح ويتدنس بها، ويتكدر صفاؤه، ويتبدل أخلاقه الروحانية الملكية من الحلم والكرم والمروة والصدق والحياء والعفة والصبر والشكر وغير ذلك بالأخلاق الحيوانية السبعية الشيطانية، وإن الذي يرتاض نفسه بالمجاهدات وترك الشهوات وينهاها عن المألوفات والمستلذات، ويمنعها عن الأخلاق المذمومات تورث هذه المعاملات مكارم الأخلاق وصفاء القلب ورقة النظر وصدق الفراسة وإصابة الرأي ونور العقل وعلو الهمة وغلو السر وشوق الروح وتحننه إلى وطنه الأصلي، وغير ذلك من المقامات العلية والأحوال السنية، فلا يشك العاقل في أن الروح المتبع للنفس الأمارة، كما يكون للعوام، لا يكون مساوياً بعد المفارقة مع الروح المتبع لإلهامات الحق كما يكون للخواص؛ لقوله تعالى:
{ أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الملك: 22]، وبعضهم قالوا: وإن تكدرت الأرواح بقبائح أفعال الأشباح فدنست بقدر تعلقاتها بمحبوبات طباعهم فبعد المفارقة بقيت في العذاب أياماً معدودة على قدر انقطاع التعلقات عند وزر الكدورات، ثم يتخلص من العذاب ويرجع إلى حسن المآب، وهذا خيال فاسد، وكذبهم الله تعالى بقوله: { بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ } [البقرة: 81]، تظهر على مرآة قلبه بقدرها ديناً، فإن تاب محي عنه، وإن لم يتب ويصر على السيئات حتى إذا أحاطت مرآة قلبه زين السيئات بحيث لا يبقى فيه الصفاء الفطري، وخرج منه نور الإيمان وضوء الطاعات فأحبط أعماله الصالحات وأحاط به الخطيئات { فَأُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [البقرة: 81]، والذي يدل على هذا قوله تعالى: { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [المطففين: 14]، ومن كان في قلبه ذرة من الإيمان فلم يحط به خطيئته، وإن كان من أهل الكبائر يخرج من النار، ولا يخلد فيها بالشفاعة الشافعين، وجاء في الحديث الصحيح: "يخرج من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، فيكون مع الذين آمنوا وعملوا الصالحات" .
وفيه أيضاً إشارة إلى بعض أرباب الطلب فمن يركن بنفسه في أثناء الطلب إلى شيء من الزخارف الدنيا ويميل إلى شيء من شهواتها، فيظهر عليه الشيطان بذلك فيوسوس له؛ ليقطع عليه الطلب ويغره بمعاملاته وزهده وعزلته فيوقعه في ورطة العجب فينظر إلى نفسه بنظر التعظيم وإلى الخلق بنظر التحقير فيهلك المغرور، أو يغتر ببعض الأحوال التي تظهر على أهل الطلب في أثناء السلوك من الوقائع الصادقة والروايات الصالحات، وشيء من المشاهدات الروحانية الرحمانية، فيظن المغرور الممكور أن ليس وراء عيان هذه المقامات قرية، وأنه بلغ مبلغ الرجال البالغين ووصل إلى مقام الواصلين، فيسكن عن الطلب وتعتريه الآفات حتى أحاطت به خطيئته فيبقى بهذه الواقعة في نار الطبيعة ويرجع قهقرى إلى أسفل الطبيعة نعوذ بالله من الحور بعد الكور.