التفاسير

< >
عرض

وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ
٨
ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ ٱلْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ وَأَهْلَكْنَا ٱلْمُسْرفِينَ
٩
لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
١٠
وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ
١١
فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ
١٢
لاَ تَرْكُضُواْ وَٱرْجِعُوۤاْ إِلَىٰ مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ
١٣
قَالُواْ يٰوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ
١٤
فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّىٰ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ
١٥
وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـٰعِبِينَ
١٦
لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ
١٧
-الأنبياء

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن أحوالهم بقوله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً } [الأنبياء: 8] إلى قوله: { إِن كُنَّا فَاعِلِينَ } [الأنبياء: 17] { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ } [الأنبياء: 8] يشير إلى الأنبياء والأولياء خلقوا محتاجين إلى الطعام بخلاف الملائكة، وذلك لا يقدح في النبوة والولاية، بل هو من لوازم أحوالهم وتوابع كمالهم، فإن لهم فيه فوائد جمة:
* منها: أن الطعام للروح الحيواني الذي هو مركب الروح الإنساني كالدهن للسراج، وهو منبع جميع الصفات النفسانية الشهوانية، وهي مركب الشوق والمحبة التي بها يقطع السالك الصادق المسالك البعاد، ويَعْبُر المحب العاشق مهالك الفراق للوصول إلى كعبة الوصال.
* ومنها: أن أكل الطعام من نتائج الهوى، وهي ميل النفس إلى مشتهياتها والسير إلى الله تعالى بحسب نهي النفس عن الهوى لقوله تعالى:
{ { وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ * فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } [النازعات: 40-41] ولهذا قال المشايخ: لولا الهوى ما سلك أحد طريقاً إلى الله تعالى.
* ومنها: أن من علم الأسماء التي علم الله آدم منوط بأكل الطعام مثل: علم ذوق المذوقات، وعلم التلذذ بالمشتهيات، وعلم لذة الشهوة، وعلم لذة الجوع والعطش، وعلم الشبع والرّي، وعلم هضم الطعام، وعلم الصحة والمرض، وعلم الداء والدواء وأمثاله، والعلوم التي تتعلق به كعلوم الطب بأجمعها، والعلوم التي هي من توابعها كمعرفة الأدوية والحشائش وخواصها وطبائعها وغيرها، اقتصرنا على هذا القدر من الفوائد الجمة، فافهم جيداً.
قوله تعالى: { وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ } [الأنبياء: 8] إشارة إلى كثير من الفوائد فيقتصر على سمة منها وهي: كما أن الميت، وهلك اسم المحيي مودع في الإماتة والإحياء { وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ } [الأنبياء: 8] ليموتوا أو يتعلموا من المميت اسم الممونة وصفتها على التحقيق لا على التقليد، وليحيوا ويتعلموا من المحيي اسم المحيوية، وصفاتها إن شاء الله تعالى.
{ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ ٱلْوَعْدَ } [الأنبياء: 9] يشير إلى الوعد الذي وعدهم حين أهبطهم إلى الأرض بقوله تعالى:
{ { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } [البقرة: 38] { فَأَنجَيْنَاهُمْ } [الأنبياء: 9] أي: الذين اتبعوا وعدهم حين هداي من الدرك الأسفل الحيوانية إلى أعلى عليين مقامات القرب، وأكرمناهم بالوصول والوصال وهم الأنبياء والأولياء { وَمَن نَّشَآءُ } [الأنبياء: 9] أي: من المؤمنين الذين لم يبلغوا درجة الأنبياء والأولياء { وَأَهْلَكْنَا ٱلْمُسْرفِينَ } [الأنبياء: 9] الذين أسرفوا على أنفسهم بالسير إلى أسفل سافلين على قدمي متابعة الهوى ومخالفة الشرع وقنطوا من رحمة الله، ولم يتوبوا من الشرك والعصيان، ولم يرجعوا إلى الحضرة على الطاعة في المتابعة ومخالفة الهوى، ثم من على أهل الهداية والنجاة بما فيه هداهم فقال الله تعالى: { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ } [الأنبياء: 10] أي: فيه ذكركم بالهداية والنجاة ونيل الفضل والدرجات كما قال الله تعالى: { { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً } [الفتح: 29] أفلا تعقلون وتعلمون فضل الله عليكم، ورحمته بإنزال الكتاب إليكم لتهتدوا به { { فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [البقرة: 64] المسرفين الهالكين.
{ وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ } [الأنبياء: 11] أي: أهلكنا أهل قرية { كَانَتْ ظَالِمَةً } [الأنبياء: 11] بالإسراف على أنفسهم { وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ } [الأنبياء: 11] المعتبرين بهم { فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ } [الأنبياء: 12] يعني: الظالمين الغافلين { إِذَا هُمْ مِّنْهَا } [الأنبياء: 12] أي: من شدة بأسنا { يَرْكُضُونَ } [الأنبياء: 12] يفرون، ثم قال الله تعالى مع أرواحهم: { لاَ تَرْكُضُواْ } [الأنبياء: 13] أي: لا تفروا منها، بل فروا إلينا { وَٱرْجِعُوۤاْ إِلَىٰ مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ } [الأنبياء: 13] نعمتم فيه من التنعمات الروحانية الروحانية التي كنتم فيها { وَمَسَاكِنِكُمْ } [الأنبياء: 13] الروحانية في جوار الحق قبل هبوطكم إلى أرض البشرية، وأسفل سافلين القالب. { لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ } [الأنبياء: 13] عزة وكرامةً لكم.
{ قَالُواْ يٰوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } [الأنبياء: 14] بأن سرنا في إبطال استعداد صفاء الروحانية، وتحصيل ظلمة صفات النفسانية بتتبع شهوات الحيوانية واستيفاء صفاء الروحانية، وتحصيل ظلمة صفات النفسانية بتتبع شهوات الحيوانية واستيفاء اللذات الحسية { فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ } [الأنبياء: 15] بالويل والثبور { حَتَّىٰ جَعَلْنَاهُمْ } [الأنبياء: 15] أي: جعلنا أرواحهم { حَصِيداً خَامِدِينَ } [الأنبياء: 15] أي الجمادات الميتين المعذبين بنار القطيعة والحرمان.
{ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ } [الأنبياء: 16] أي: سماوات الأرواح وأرض الأجساد { وَمَا بَيْنَهُمَا } [الأنبياء: 16] من النفوس والقلوب والأسرار { لَـٰعِبِينَ } [الأنبياء: 16] وإنما خلقناهما مظهر صفات لطفنا وقهرنا { لَوْ أَرَدْنَآ } [الأنبياء: 17] في الأزل { أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً } [الأنبياء: 17] أي: أهلاً وولداً مما خلقنا { لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ } أي: مما يصلح أن يكون عندنا لا مما يكون عندكم؛ لأن
{ { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ } [النحل: 96] { إِن كُنَّا فَاعِلِينَ } [الأنبياء: 17] أي: إن كنا ممن يتخذ أهلاً وولداً عز وجل قدس حضرتنا عن أمثال هذه التدنسات، وعز جناب كبريائنا عن أنواع هذه التوهمات، وقد تنزه عن أمثالها الملائكة المقربون وهم عبادنا المكرمون، فالحضرة الخالقية أولى بالتنزه.