التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱرْكَعُواْ وَٱسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَٱفْعَلُواْ ٱلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
٧٧
وَجَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ
٧٨
-الحج

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن نجاح أهل الفلاح بقوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱرْكَعُواْ وَٱسْجُدُواْ } [الحج: 77] يشير إلى: الرجوع من تكبير قيام الإنسانية إلى تواضع خضوع الحيوانية، فإنها على أربع في الركوع، والرجوع من الركوع إلى الانكسار، والذلة النباتية في السجود، فإن النبات ذليل في السجود؛ لقوله تعالى: { { وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } [الرحمن: 6] لأن الروح كان مجيئه بهذه المنازل من عالم الأرواح عبر على كلّ المنزل النباتي، ثم على المنزل الحيواني إلى أن بلغ المنزل الإنساني، فعند رجوعه إلى الحضرة يكون عبوره على كل هذه المنازل، وهذا سر قوله صلى الله عليه وسلم "الصلاة معراج المؤمن" .
ثم قال الله تعالى: { وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ } يعني: بهذا الرجوع إليه؛ يعني: خالصاً لوجهه تعالى. { وَٱفْعَلُواْ ٱلْخَيْرَ } بالتوجه إلى الله تعالى في جميع أحوالكم وأعمال الخير كلها. { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [الحج: 77] بالعبور على هذه المنازل من حجب الظلمات النفسانية والأنوار الروحانية { وَجَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } [الحج: 78] بأن تجاهدوا النفوس في تزكيتها بأداء الحقوق وترك الحظوظ، وتجاهدوا القلوب في تصفيتها بقطع تعلقات الكونين، ولزوم المراقبات عن الملاحظات، وتجاهدوا بالأرواح في تحليتها بإفناء الوجود في وجوده؛ لتبقى بوجود وجوده.
{ هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ } [الحج: 78] لهذه الكرامات من بين سائر البريات، ولولا أنه اجتباكم واستعداد هذا الجهاد أعطاكم وأيد هداكم لمَّا جاهدكم في الله، كما قيل: فلولاكم ما عرفنا الهوى، ولولا الهوى ما عرفناكم، ومن مبادئ حق الجهاد: ألاَّ يفتر عن المجاهدة لحظة، كما قال قائلهم: يا رب إن جهادي غير منقطع، وكل أرضك لي ثغر وطرسوس { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج: 78] أي: ضيِّق في السير إلى الله تعالى والوصول إليه؛ لأنك تسير إلى الله تعالى بتيسيره لا بسيرك، وتصل إليه بتقربك إليك لا بتقربك إليه، وإن كنت ترى أن تقربك إليه منك، ولا ترى بأن تقربكم إليه من نتائج تقربه إليك لا بتقربك إليه، كما قال الله تعالى:
"من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً" ، فالذراع إشارة إلى الشبرين، شبر سابق على تقربك إليه وشبر لاحق بتقربك إليه حتى لو مشيت إليه، فإنه يسارعك من قبل مهرولاً.
وبقوله تعالى: { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } [الحج: 78] يشير إلى أن السير والذهاب إلى الله تعالى من سنة إبراهيم عليه السلام بقوله:
{ { إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الصافات: 99]، وإنما سمَّاه بأبيكم، لأنه كأب آباءكم في طريقة السير إلى الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنا لكم كالوالد لوالده" { هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ } [الحج: 78] أي: الله في الأزل لاستسلامكم لقبول هذه الطريقة بأن جعلكم مستعدين { مِن قَبْلُ } [الحج: 78] إن خلقكم { وَفِي هَـٰذَا } [الحج: 78] أي: وبعد أن خلقكم { لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ } [الحج: 78] فيما تعملون؛ لأنه كان أول المخلوقات بالروح مشرفاً عليها.
{ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ } [الحج: 78] فيما يعملون وهم الأمم الماضية، وفي هذا إشارة إلى أن روح محمد صلى الله عليه وسلم كما كان مخلوقاً قبل أرواح الأنبياء، ومشرفاً على أحوالهم كانت أمته مخلوقة قبل أرواح جميع الأمم مشرفين على أحوالهم، ولا إشراف لروح نبي على روح نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا لأرواح روح الأمم إشراف لأرواح هذه الأمة { فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ } [الحج: 78] بدوام السير والعروج إلى الله تعالى والتعظيم لأمره { وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ } [الحج: 78] بدعوة الخلق إلى الله تعالى، وهدايتهم إلى الصراط المستقيم إلى الله تعالى بالشفقة على خلقه، وهذا حقيقة الاعتصام بحبل الله للوصول إليه. { وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ } [الحج: 78] إذا وصلتم إليه بإفناء الوجود فيه { هُوَ مَوْلاَكُمْ } [الحج: 78] أي: متولي إفنائكم { فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ } [الحج: 78] في إفناء وجودكم { وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ } [الحج: 78] بإبقائكم به.