التفاسير

< >
عرض

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ
٨
أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوۤاْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ ٱلأَرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
٩
ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ ٱلسُّوۤأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ
١٠
ٱللَّهُ يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
١١
-الروم

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

{ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ } [الروم: 8] بالعقل السليم { فِيۤ أَنفُسِهِمْ } [الروم: 8] أي: في خلق أنفسهم وكمالية استعدادها أنه { مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ } [الروم: 8] سماوات الروحانية والأرض أرض النفسانية { وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } [الروم: 8] أي: مظهر لصفات الحق فإنها مخصوصة من الموجودات بمرآة صفات جماله وجلاله.
{ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى } [الروم: 8] يعني: بالصبر والثبات في تصفية مرآة القلب عن صدأ الأوصاف الذميمة النفسانية، والأجل المسمى هو صفاء القلب وتوجهه إلى الحق تعالى شوقاً إلى لقائه { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ } [الروم: 8] من الناسين أي لا من المؤمنين الذاكرين، { بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ } [الروم: 8] أي: مع أنهم عن الشهود لمعزولون بالإيمان بلقائه أيضاً، لكافرون جاحدون منكرون كالمعتزلة وتابعيهم.
ثم أخبر أن بالسير يحصل اعتبار الأخيار بقوله تعالى: { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ } [الروم: 9] يشير إلى طلبة العلم الذين يشرعون في علوم غير نافعة بل مضرة مثل الكلام والمنطق والمعقولات فتؤثر عليهم عقيدتهم على مذهب أهل السنة والجماعة، وإن وقعوا في أدنى شك في الكفر فيقول لهم: { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } أرض البشرية والسير فيها إنما يكون بالعبور عليها والخروج عنها وتبديلها بالأخلاق الحميدة الروحانية لتزكي النفس عن لوث هذه الصفات مثل الكبر والغضب والحقد والحرص والشهوات والشره والحسد، وأمثالها من المذمومات وتصفي القلب عن ظلمته ورينه وتخلص الروح عن حجبها وتتجلى بحلية نور الإيمان { فَيَنظُرُواْ } بعد ذلك بنور الإيمان الحقيقي.
{ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [الروم: 9] من الفلاسفة أنهم كانوا أشد منهم قوة في علم المقال، { وَأَثَارُواْ ٱلأَرْضَ } [الروم: 9] أرض البشرية بالرياضة والمجاهدة { وَعَمَرُوهَآ } بتبديل الأخلاق والاستدلال بالدلائل العقلية والبراهين المنطقية { أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا } [الروم: 9] المتأخرون؛ لأنهم كانوا أطول أعماراً منهم فوسوس لهم الشيطان وغرهم بعلومهم العقلية واستبدت نفوسهم بها وظنوا أنهم غير محتاجين إلى الشرائع ومتابعة الأنبياء.
{ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ } [الروم: 9] بالمعجزات الظاهرة فلم يؤمنوا بها ونسبوها إلى السحر والنيرنج واعتمدوا على سؤلات نفوسهم من الشبهات بحسبان أنها من البراهين القاطعة فأهلكهم الله في أودية الشكوك والخيال، { فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ } بالابتلاء بهذه الآفات بأن يكلهم إلى وساوس الشيطان وهواجس نفوسهم ولا يرسل إليهم الرسل ولا ينزل معهم الكتب { وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [الروم: 9] بتكذيب الأنبياء ومتابعة الشيطان وعبادة الهوى.
{ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ ٱلسُّوۤأَىٰ } [الروم: 10] أي: عاقبة أمر الفلاسفة الذين هم مكذبوا الأنبياء لما أساءوا بتكذيب الأنبياء بأن صاروا أئمة الكفرة وصنعوا الكتب في الكفر وأوردوا فيها الشبهات على بطلان ما جاء به الأنبياء من الشرائع والتوحيد وسمو الحكمة وسمو أنفسهم الحكماء فالآن بعض المتعلمين من الفقهاء، إما لوفور حرصهم على العلم والحكمة، وإما لخباثة الجوهر، وليتخلصوا من تكاليف الشرع، يطالعون تلك الكتب ويتعلمونها، وبتلك الشبهات التي درسوا بها كتبهم يهلكون في أودية الشكوك ويقعون في الكفر.
وهذه الآفة وقعت في الإسلام من المتقدمين والمتأخرين منهم، فكم من مؤمن عالم فسدت عقيدتهم بهذه الآفة وأخرجوا ربقة الإسلام من عنقهم فصاروا من جملتهم، ودخلوا في زمرتهم داخل هذه الآفة يبقى في هذه الأمة إلى قيام الساعة فإن كل يوم يزدادون ويقل طلبة علوم الدين من التفسير والأحاديث والمذهب، ويكثر طلبة علوم الفلسفة والزندقة ويسمونها الأصول والكلام.
وقد قال الشافعي رضي الله عنه: "من تكلم تزندق" ثم وبال هذه الجملة إلى قيام الساعة يكتب في ديوان من سن هذه السنة السيئة ومن أوزار من عمل من غير أن ينقص من أوزارهم شيء على أن كذبوا بآيات الله بالقرآن واستهزءوا بها وسموا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أصحاب النواميس وسموا الشرائع الناموس الأكبر عليهم لعائن الله تترى.
وبقول: { ٱللَّهُ يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [الروم: 11] يشير إلى أنه تعالى كما بدأ روح الإنشاء ورده إلى أسفل سافلين القالب، ثم يعيده بطريق السير والسلوك على المعاملات والمنازل التي أنزل عليها إلى عالم الأرواح ثم بجذبة ارجعي إليه ترجعون.