التفاسير

< >
عرض

وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَدْنَىٰ دُونَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
٢١
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ إِنَّا مِنَ ٱلْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ
٢٢
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ
٢٣
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ
٢٤
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقَيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
٢٥
-السجدة

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن عذاب الدنيا أنه الأدنى بقوله تعالى: { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَدْنَىٰ دُونَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَكْبَرِ } [السجدة: 21] يشير إلى أرباب الطلب وأصحاب السلوك إذا وقعت لأحدهم في إنشاء السلوك وقفة لعجب بداخله ولملالة وسآمة للنفس، أو لحسبان وغرور في قبول أو رفعت له فترة بالتفاته إلى شيء من الدنيا وزينتها وشهواتها فابتلاه الله ابتلاء في نفسه أو ماله أو مصيبة في أهاليه وأقربائه وأحبائه لعلم بإذاقة عذاب البلاء والمحن انتبهوا من نوم الغفلة وتداركوا أيام العطلة قبل أن يذيقهم العذاب الأكبر بالخذلان والهجران وقسوة القلب، كما قال تعالى: { { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الأنعام: 110] إلى صدق طلبهم وشرح إرادتهم وعلو محبتهم { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَٰتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا } [الكهف: 57] غذا نبذ العبد بأنواع الزجر وحرك في الترك حدود الوفاق مصون من التأديب ثم لم يردع عن فعله واغتر بطول سلامته وأمن هواجم مكره وخفايا سره أخذه بغتة بحيث لا يجد خرجة من أخذته، كما قال تعالى: { إِنَّا مِنَ ٱلْمُجْرِمِينَ } [السجدة: 22] المصرين على جرمهم { مُنتَقِمُونَ } [السجدة: 22] بخسارة الدارين.
وبقوله: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ } [السجدة: 23] يشير إلى أن موسى عليه السلام لما أوتي الكتاب اليوم وهو حق سمعه، فلا شك يا محمد أنه يحظى غداً حظ بصره بالرؤية، ولكن بشفاعتك وبركة متابعتك واختصاصه في دعائه بقوله: اللهم اجعلني من أمة أحمد، فغن الرؤية مخصوصة بك وبتبعيتك لأمتك، وفيه إشارة أخرى، وهي أن لموسى القلب ينفتح في البداية إذنه لاستماع الكلام، فلما تأثر فيه شراب السماع وغلب عليه السكر هاج له شوق اللقاء فاستغاث إلى ربه:
{ أَنظُرْ إِلَيْكَ } [الأعراف: 143] ثم ينفتح بصره فنودي مبشراً له فلا تكن في مرية من لقاءه { وَجَعَلْنَاهُ هُدًى } [السجدة: 23] الهاء كناية عن موسى القلب هدى لبني إسرائيل صفات القلب { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً } [السجدة: 24] وهم السر والخفاء { يَهْدُونَ } [السجدة: 24] بأمرنا إلينا لما صبروا على مجادلي أحكامنا الأزلية وصبروا على مقاساة شدائد التزكية والتصفية إلى أن استحقاق التجلية يتجلي صفات الربوبية { وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [السجدة: 24] أي: بشواهد آثار التجلي منا { يُوقِنُونَ } [السجدة: 24] أنه بلا ريب.
ثم أخبر عن أصل الفصل بقوله تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقَيَامَةِ } [السجدة: 25] يشير إلى أنه تبارك وتعالى يحكم بين عباده لوجوه:
أولها: لعزتهم لأنهم عنده أعز من أن يجعل حكمهم إلى أحد من المخلوقين بل هو بفضله وكرمه يكون حاكما عليهم.
وثانيها: غيرة عليهم لئلا يطلع على أحوالهم أحد غيره.
وثالثها: رحمةً وكرماً فإنه ستار لا يفشي عيوبهم ويستر عن الأغيار ذنوبهم.
ورابعها: لأنه كريم ومن سنة الكرام أنهم
{ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } [الفرقان: 72].
وخامسها: فضلاً وعدلاً فإنه الخالق الحكيم الذي خلقهم وما يعلمون على مقتضى حكمته ووفق مشيئته، فإن رأى منهم حسنا فلذلك من نتائج إحسانه وفضله، وأن منهم قبيحاً فذلك من موجبات حكمته وعدله وأنه
{ { لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَٰعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } [النساء: 40].
وسادسها: عناية وشفقة فإنه تعالى خلقهم ليربحوا عليه لا ليربح عليهم، فلا يجوز عن كرمه أن يخسروا عليه.
وسابعها: رحمة ومحبة فإنه تعالى بالمحبة خلقهم لقوله:
"فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف" وللمحبة خلقهم لقوله: { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة: 54] فينظر في شأنهم بنظر المحبة والرضا وعين الرضا عن كل عيب كليلة.
وثامنها: لطفاً وتكريماً فإنه نادى عليهم بقوله:
{ { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ } [الإسراء: 70] فلا يهين من كرَّمه.
وتاسعها: عفواً وجوداً فإنه تعالى عفو يحب العفو، فإن رأى جريمة في جريدة العبد يجب عفوها، وأنه جواد يحب أن يجود عليهم بالمغفرة والرضوان.
وعاشرها: أنه تعالى جعلهم خزائن أسراره فهو أعلم بحالهم وأعرف بقدرهم، فإنه خمر طينتهم بيده أربعين صباحاً وجعلهم مرآة يظهر لها جميع صفاته عليهم لا على غيرهم، ولو كانت الملائكة المقربون ألا ترى أنه تعالى لما قال لهم:
{ { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ } [البقرة: 30] غما عرفوهم حق معرفتهم حتى قال تعالى فيهم عزة وكرامة لهم: { إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 30] أي: من فضائلهم وشمائلهم، لإغنهم خزائن أسراري ومرآة جمالي وجلالي، فأنتم تنظرون إليهم بنظر الغيرة وأنا أنظر إليهم الرحمة والمحبة، فلا ترون منهم إلا كل قبيح ولا أرى منهم إلا كل جميل، فلا أرضى أن أجعلكم حاكماً بينهم بل بفضلي وكرمي أنا أفضل بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، فأحسن مع محسنهم وأتجاوز عن سيئهم، فلا يكبر على اختلافهم لعلمي بحالهم أنهم لا يزالون مختلفين { { إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ } [يوسف: 53] ولذلك خلقهم.