التفاسير

< >
عرض

قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ لَيَبْغِيۤ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ
٢٤
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَـآبٍ
٢٥
يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ
٢٦

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

وبقوله: { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ لَيَبْغِيۤ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } [ص: 24]، يشير إلى أن النفوس جبلت على الظلم والبغي وسائر الصفات الذميمة ولو كانت نفوس الأنبياء عليهم السلام، ثم استثني منهم أهل الإيمان والعمل الصالح بقوله: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [ص: 24]؛ يعني: الذين آمنوا وعملوا أعمالاً صالحة لتزكية النفس عن صفاتها الذميمة، ثم قال تعالى: { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } [ص: 24]؛ يعني: وقليل من أهل الإيمان أن يكون أعمالهم صالحة لتزكية النفس، وهم الأنبياء والأولياء، وفيه إشارة أخرى وهي: إن من شأن النبي والولي أن يحكم كل واحد منهم بين الخصوم بالحق، كما ورد الشرع به بتوفيق الله، وإن الواجب عليهم أن يحكموا على أنفسهم بالحق كما يحكمون على غيرهم، كما قال تعالى: { كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ } [النساء: 135]، فلما انتبه داود عليه السلام أنه ما حكم على نفسه بالحق كما حكم على غيره كما أخبر الله تعالى بقوله: { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } [ص: 24]؛ أي: أناب واستغفر ورجع إلى ربه متضرعاً خاشعاً، باكياً بقية العمر، معتذراً عما جرى عليه، فتقبل الله منه ورحم عليه وعفا عنه.
وقال: { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ } [ص: 25]؛ أي: لقربة بكل تفرع وخضوع وخشوع، وبكاء وأنين وحنين، وتأوه صدر منه { وَ } [ص: 25] له بهذه المراجعات، { حُسْنَ مَـآبٍ } [ص: 25] عندنا، وفيه إشارة أخرى وهي أن نعلم أن المعصوم عن عصمة الله عز وجل، ومن يهدي الله فهو المهتدي ومن يضلله
{ { فَلاَ هَادِيَ لَهُ } [الأعراف: 186].
ثم أخبر عن الهدى أنه مخالفة الهوى بقوله: { يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ } [ص: 26]، يشير إلى معان مختلفة:
منها: إن الخلافة الحقيقة ليست بمكتسبة للإنسان؛ إنما هي عطاء وفضل من الله
{ { فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } [الحديد: 21]، كما قال تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً } [ص: 26]؛ أي: أعطيناك الخلافة.
ومنها: إن استعداد الخلافة مخصوص بالإنسان، كما قال:
{ { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ ٱلأَرْضِ } [الأنعام: 165].
ومنها: إن الإنسان وإن خلق مستعداً للخلافة، ولكن بالقوة فلا يبلغ درجتها بالكمال إلا الشذاذ منهم.
ومنها: إن [خلافته] تتعلق بعالم المعنى، كما أن الخلقية تتعلق بعالم الصورة، ولهذا إنما أخبر الله تعالى عن صورة آدم عليه السلام قال:
{ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ } [ص: 71]، ولما أخبر عن معناه قال: { { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة: 30]، وقال: { { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَ } [الأنعام: 1]، قال: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً } [فاطر: 1].
ومنها: إن الروح الإنساني من الفيض الأول، وهو أول شيء تعلق بأمر "كن"، ولهذا نسبه إلى أمره، فقال تعالى:
{ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [الإسراء: 85]، ولما كان هو الفيض الأول إفاضة إلى ذاته تعالى، فقال: { { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [ص: 72]، فلما كان الروح هو الفيض الأول كان خليفة الله بذاته وصفاته، إما بذاته؛ فلأنه كان له وجود من وجوده بلا واسطة، فوجوده كان وجود خليفة وجود الله تعالى، وإما بصفاته؛ فلأنه كان له صفات أيضاً من وجود صفات الله بلا واسطة، فكل وجود وصفات يكون بعد وجود الخليفة يكون خليفة الله بالذات والصفات،... هلم جرّاً إلى أن يكون القالب الإنساني وهو أسفل سافلين الموجودات، وآخر شيء لقبول الفيض الإلهي، وأقل حظ من الخلافة، فلما أراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل الإنسان خليفة في الأرض خلق لخليفة روحه منزلاً صالحاً لنزول الخليفة فيه وهو قالبه، وأعد له عرشاً فيه ليكون محل استوائه عليه وهو القلب، ونصب له خادماً وهو النفس، فلو بقي الإنسان على فطرة الله التي فطر الناس عليها يكون روحه مستفيضاً من الله تعالى، فائضاً بخلافة القلب على القالب، والقالب فائض بخلافة النفس على الدنيا وهي أرض الله، فتكون الروح بهذه الأسباب والآلات خليفة الله في أرضه بحكمه وأمره بتواقيع الشرائع.
ومنها: إن من خصوصية الخلافة الحكم بين الناس بالحق، والإعراض عن الهوى، وترك متابعته، كما أن من خصوصية أكل الحلال العمل الصالح، قال تعالى:
{ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً } [المؤمنون: 51].
ومنها: إن الله تعالى جعل داود الروح خليفة في أرض الإنسانية، وجعل القلب والسر، والنفس والقالب، والحواس والقوى، والأخلاق والجوارح والأعضاء كلها رعية له، ثم على قضية
"كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" ، أمر بأن يحكم بين رعيته بالحق؛ أي: بأمر الحق تعالى، وقال: { وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ } [ص: 26] ؛ أي: لا بأمر الهوى، ثم اعلم أن الله تعالى خلق الهوى في الباطل على صفة الضلالة مخالفاً للحق تعالى، فإن من صفة الهداية والحكمة في خليفته ليكون هادياً إلى الحضرة بضدية طبعه ومخالفة أمره، كما أن الحق تعالى كان هادياً إلى حضرته بنور ذاته وموافقة أمره؛ ليسير السائر إلى الله على قدمي موافقة أمر الله ومخالفة هواه؛ ولهذا قالت المشايخ: لولا الهوى ما سلك أحد طريقاً إلى الله.
ومنها: إن أعظم جنايات العبد وأقبح خطاياه متابعة الهوى، كما قال صلى الله عليه وسلم:
"ما عبد إله في الأرض أبغض على الله من الهوى" .
ومنها: إن للهوى كمالية في الإضلال لا توجد في غيره؛ وذلك لأنه يحتمل أن يتصرف في الأنبياء بإضلالهم عن سبيل الله، كما قال لداود عليه السلام في هؤلاء: { وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ } [ص: 26]، يشير إلى أن الضلال الكبير؛ هو الانقطاع عن طلب الحق، ومن ضل عن طريق الطلب مأخوذ بعذاب شديد القطيعة والحرمان من القرب وجوار الحق، وذلك { بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ } [ص: 26]؛ وهو يوم يجازي فيه كل محق بقدر هدايته، وكل مبطل بحسب ضلالته.