التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً
١
وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً
٢
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلاَّ تَعُولُواْ
٣
وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً
٤
وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَٰماً وَٱرْزُقُوهُمْ فِيهَا وَٱكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً
٥
-النساء

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ } [النساء: 1]، إشارة في الآية: أن الله تعالى يذكر الناس ببدء خلقتهم بالأشباح والأرواح بقوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } [النساء: 1]، فإنهم كما خلقوا بالأشباح عن نفس واحدة وهي شبح آدم عليه السلام، كذلك خلقوا بالأرواح عن نفس واحدة وهي روح محمد صلى الله عليه وسلم، لقوله: "أول ما خلق الله روحي" ، فكما أن آدم عليه السلام بالشبح كان أبا البشر، كان محمد صلى الله عليه وسلم بالروح أبا الروح، { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [النساء: 1]؛ وهي النفس، خلقها من أدنى شعاع من أشعة أنوار روح محمد صلى الله عليه وسلم، { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً } [النساء: 1]؛ وهم أرواح الرجال البالغين الكاملين في الدين، كقوله تعالى: { { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } [النور: 37]، { وَنِسَآءً } [النساء: 1]؛ أي: أرواح ناقصات غير بالغات في الدين، كما أخرج من آدم عليه السلام المقبول والمردود، أخرج من روح محمد صلى الله عليه وسلم روح الكامل والناقص.
{ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ } [النساء: 1]؛ أي: اتقوا أن تسألوا به غيره، فلا تسألوا به عنه، { وَٱلأَرْحَامَ } [النساء: 1]، ولا تقطعوا صلة رحم رحمتي بصلة غيري، دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى:
"أنا الرحمن خلقتُ الرحم وشققت لها أسماً من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته" ، إن الله تعالى خلق الخلق برحمته، ولولا سبقت رحمته غضبه ما خلق أحداً من العالمين، فالواجب على الخلق أن يصلوا رحم رحمته بطلبه والانقطاع عن غيره؛ ليصلهم برحمته وكرامته، { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ } [النساء: 1] أيها المتقون { رَقِيباً } [النساء: 1]؛ لئلا يلتفتوا إلى غيره بالاعتراض عنه، بل { كَانَ عَلَيْكُمْ وَٱلأَرْحَامَ } [النساء: 1]؛ لتتقوا به عن غيره، وتصلوا به بالانقطاع عن غيره.
ثم أخبر عن التقوى بإحراز أموال اليتامى بقوله تعالى: { وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ } [النساء: 2]، إشارة في الآيتين: إن الله تعالى نفى بهاتين الأخلاق الذميمة والأفعال القبيحة، وبها زكى أنفسهم عن آفاتها؛ وهي الحسد والدناءة، والخسة والطمع، الخيانة والمكر والخديعة، والجور والظلم، والشهوة والفضب، وسوء الخلق والبخل، والكبر والأنفة، وحلالها بأضدادها تكميلاً للتخلق بأخلاق الحق، فقال تعالى: { وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ } [النساء: 2] تزكية عن آفة الحرص والحسد، والدناءة والخسة والطمع، وتحليته بالقناعة والمروءة وعلو الهمة والعافية، وقال تعالى: { وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ } [النساء: 2]تزكية عن آفة الخيانة والمكر والخديعة، وتحليته بالأمانة والديانة وسلامة الصدور، وقال تعالى: { وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ } [النساء: 2] تزكية عن الجور والحين والظلم وتحليته بالعدل والإنصاف، فإن اجتماع هذه الرذائل في نفس الأمر { إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } [النساء: 2]، حجاباً عظيماً.
وقال تعالى: { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ } [النساء: 3] تزكية عن الزنا والفواحش التي تتعلق بالشهوة، وتحليته بالعفة والإحصان، وقال تعالى: { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلاَّ تَعُولُواْ } [النساء: 3].
{ وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ } [النساء: 4] تزكية عن الحدة والغضب وسوء الخلق، وتحليته بالوفاق والسخاء والفتوة، وقال تعالى: { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } [النساء: 4] تزكية عن الكبر والأنفة، وتحليته بالتواضع والخشوع، والرحمة والشفقة واللين، في الحقيقة هذه كلها إشارة إلى تربية ينافي القلوب والنفوس بإيتاء حقوق تزكيتهم عن هذه الأوصاف، وتحليتهم بهذه الأخلاق؛ لتحقق الامتثال بأمر تخلقوا بأخلاق الله، والله أعلم.
ثم أخبر عن صيانة هذه الأخلاق من التفريط والإفراط بقوله تعالى: { وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَٰماً وَٱرْزُقُوهُمْ فِيهَا وَٱكْسُوهُمْ } [النساء: 5]، إشارة في هذه الآيتين: إن الله تعالى جعل المال قياماً لمصالح دين العباد ودنياهم، فإن العاقل منهم من يجعله قياماً لمصالح دينه ولمصالح دنياه بقدر حاجته للضرورة إليه، والسفيه من جعله قياماً لمصالح دنياه ما أمكنه فهو المنهي عنه، وإن تؤتوا إليه أموالكم كائناً من كان، وإنما قال: { أَمْوَالَكُمُ } [النساء: 5]، وما قال أموالهم؛ لأن الخطاب مع العقلاء الصلحاء الأتقياء، وقد أضاف المال إليهم؛ لأنه تعالى خلق الدنيا وما فيها لهم قياماً لمصلح دينهم، كما قال تعالى:
{ { خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } [البقرة: 29]، وقال تعالى: { أَنَّ ٱلأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّالِحُونَ } [الأنبياء: 105]، وأسفه السفهاء من جعلها في مفاسد دينه ودنياه؛ وهي النفس الأمارة بالسوء، وإنما هي أعدى عدوك؛ لأنها أسفه السفهاء، وكل ما أنفق الرجل نفسه بهواها ففيه مفاسد دينه ودنياه، إلا المستثني منه، كما أشار إليه تعالى بقوله: { وَلاَ تُؤْتُواْ } [النساء: 5]، { أَمْوَالَكُمُ } [النساء: 5]؛ أي: جعل الله لكم قياماً { وَٱرْزُقُوهُمْ } [النساء: 5]؛ يعني: ما يسد به جوع النفس، { وَٱكْسُوهُمْ } [النساء: 5]؛ يعني: ما يستر عورتها، فإن ما زاد على هذا يكون إسرافاً في حق النفس، والإسراف منهي عنه، { وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } [النساء: 5]، قول المعروف مع النفس أن يقول لها: أكلت رزقها ونعمت، فأدى شكر نعمته بامتثال أوامره ونواهيه وأذيبي طعامك بذكر الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: "أذيبوا طعامكم بذكر الله" .