التفاسير

< >
عرض

وَمَن يَعْمَلْ سُوۤءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً
١١٠
وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
١١١
وَمَن يَكْسِبْ خَطِيۤئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً
١١٢
وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
١١٣
-النساء

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن الدواء بعد الداء بقوله تعالى: { وَمَن يَعْمَلْ سُوۤءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } [النساء: 110]، والإشارة فيها: إن من يعمل سوءاً؛ أي: عملاً من مأمورات النفس وشهواته، { { إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ } [يوسف: 53]، أو يظلم نفسه بأن يشرك بالله في عبودية أحداً، { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان: 13] { ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ } [النساء: 110]، يفر من أنانيته ويطلب من الله أن يغفر بهويته، { يَجِدِ ٱللَّهَ } [النساء: 110] عند الطلب، فإنه قال: "من طلبني وجدني" ، { غَفُوراً } [النساء: 110] بهوية أنانيته، { رَّحِيماً } [النساء: 110] فيرحم أنانيته بهويته، { وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً } [النساء: 111]، ولا يستغفر الله، { فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ } [النساء: 111]، فإن دين الإثم يظهر في الحال في صفاء مرآة قلبه فيعميه عن رؤية الحق، ويضمه عن سماع الحق، كما قال تعالى: { بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [المطففين: 14]، { وَكَانَ ٱللَّهُ } [النساء: 111] في الأزل { عَلِيماً } [النساء: 111]، بكسب إثمه { حَكِيماً } [النساء: 111] فيما أظهر أثر كسبه في زين قلبه، { وَمَن يَكْسِبْ خَطِيۤئَةً } [النساء: 112]؛ وهي ما تكسب نفسه من مذمومات الصفات بغير عمده وقصده، { أَوْ إِثْماً } [النساء: 112] ذنباً بعمده وسعيه، { ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً } [النساء: 112]؛ أي: قلبه البريء من مذمومات الصفات وعمده الذنب فإن من شأن القلب الطاعة والعبودية والصفات الحميدة؛ يعني: تسعى النفس وتتبع شهواتها واستيفاء حظوظها إلى أن يؤثر ظلمة طبيعتها في صفات القلب، ويستلذ القلب من مشتهيات النفس فيتصف القلب بصفات النفس فيبهت عنها ويقع في ورطة الهلاك، { فَقَدِ ٱحْتَمَلَ } [النساء: 112] صاحب النفس { بُهْتَاناً } [النساء: 112] مما أبهت القلوب عن العبودية والطاعة { وَإِثْماً مُّبِيناً } [النساء: 112] مما أنبت به نفسه من المعاصي وأثم بها قلبه، فيكون بمنزلة من جعل اللب وهو القلب جلداً وهو النفس، وهذا من إكسير الشقاوة فلا ينقطع عنه العذاب، إذا صار كل وجوده جلوداً فيكون من جملة الدين، قال الله تعالى فيهم: { { سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } [النساء: 56]؛ لأنهم بدلوا الألباب بالجلود وهاهنا كما قررنا، والله أعلم.
ثم أخبر عن فضيلة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه بالفضل جعله خير البرية بقوله تعالى: { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ } [النساء: 113]، والإشارة فيها: إن فضل الله موهبة من مواهب يؤتيه من يشاء، وليس لأحد فيه مدخل بالكسب والاستجلاب، وبذلك يهدي للإيمان ويوفقه الله للعمل الصالح، ولهذا قال سيد الأولين والآخرين: { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ } [النساء: 113] من الأزل إلى الأبد { لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ } [النساء: 113] عن طريق الوصول إلى الله، ولولا إنا أفنيناك عنك بل عن كل ذرة من ذرات المخلوقات من الروحانيات والجسمانيات حتى نفسك وروحك لكان حجابك عن الحضرة وما معك من الوصلة، فبجذبات الفضل أفنينا عنك وعن حجب المكونات، وبكرامات الرحمة جعلنا ذرات المكونات مرقات لك إلى الوصلة، وأبقيناك بنا حتى كنت فضلنا ورحمتنا فأرسلناك
{ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 107]، وقلنا لهم: { { فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [البقرة: 64]، فلا يقدر أحد أن يضلك { وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ } [النساء: 113]، من أراد أن يضلك؛ لأنهم بإرادة إضلالك يضلون أنفسهم عن متابعتك ومطاوعتك، وأنت فضل الله ورحمته عليهم فيضلون عنك، { وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ } [النساء: 113]؛ بل يضلون أنفسهم بالحرمان عما { وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ } [النساء: 113]؛ وهو القرآن { وَٱلْحِكْمَةَ } [النساء: 113]؛ وهي حقائق القرآن وأسراره ولطائفه وإشاراته، { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } [النساء: 113]؛ وهو علم ما كان وما سيكون، فإنه صلى الله عليه وسلم ما كان يعلم قبل أن أسري به علم ما كان وما سيكون، وهذا هو حقيقة { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } [النساء: 113]، والعظيم هو الله، والإشارة أن الله العظيم هو فضل الله عليك ورحمته، كما أن فضل الله ورحمته على العالمين، ولهذا قال: "لولاك لما خلقت الأفلاك" ، فافهم جيداً.