التفاسير

< >
عرض

ذٰلِكَ ٱلْفَضْلُ مِنَ ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِيماً
٧٠
يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنْفِرُواْ جَمِيعاً
٧١
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً
٧٢
وَلَئِنْ أَصَٰبَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يٰلَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً
٧٣
-النساء

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

{ ذٰلِكَ } [النساء: 70]، الرفق والرفاقة إنما هي { ٱلْفَضْلُ مِنَ ٱللَّهِ } [النساء: 70] لا من أحد غيره، { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِيماً } [النساء: 70]، بمن استعداده لهذه الرفاقة فيوفقه لتحصيل هذه السعادة، فيطيع الرسول صلى الله عليه وسلم ويحب جميع الصحابة، وتدل هذه الآية على خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وذلك أن الله تعالى ذكر مراتب أوليائه وأنبيائه على الترتيب فقدم الأنبياء على الأولياء، فليس لأحد أن يؤخر الأنبياء على الأولياء، وجعل مراتب الأولياء ثلثاً: الأخص وهم الصديقون، والخواص وهم الشهداء، والعوام وهم الصالحون، فكما لا يجوز أن يقدم الأولياء على الأنبياء، فكذلك لا يجوز أن يقدم الشهداء على الصديقين، فلا يجوز أن يقدم الشهداء وهم: عمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - على أبي بكر رضي الله عنه؛ لأنه أول من صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، يدل عليه قوله تعالى: { { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } [الزمر: 33]؛ يعني: محمد صلى الله عليه وسلم، وصدق به أبي بكر رضي الله عنه، فلما صح أنه الصديق وأنه ثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب أن يكون خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يتقدم عليه أحد بعده، كما يجوز في عهده واجمعوا على خلافته بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده صارت الخلافة إلى الشهداء كما رتبهم الله تعالى بالذكر، فلا يكون من علامة السعادة تغيير هذه المراتب وتقديم بعضهم على بعض في هذا الزمان، وهذا مما لا يمكن؛ لأن الله تعالى أجرى كما قدره في الأزل فلا راد لحكمه، لا سيما بعد وقوع الأمر، { { لِّيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } [الأنفال: 42]، وقال تعالى: { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِيماً } [النساء: 70]، فلم يبق لمجوز تغيير تلك المراتب، إلا الاعتراض على الله تعالى فيما جعله مخصوصاً بهذا الفضل، لقوله تعالى: { ذٰلِكَ ٱلْفَضْلُ مِنَ ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِيماً } [النساء: 70]؛ أي: من يعطيه فضله والاعتراض على النبي صلى الله عليه وسلم حيث اختص أبا بكر رضي الله عنه بهذا الفضل، وقال: "أفضلكم أبو بكر" ، والاعتراض على جميع الصحابة فإنهم أجمعوا على فضيلة أبي بكر وخلافته، فافهم جيداً وتفكر في هذا التقرير بلا تعصب ولا تكن من أهل التغير.
ثم أخبر عن أهل الفضل وأهل العدل بقوله تعالى: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ } [النساء: 71]، الإشارة فيها: إن الله تعالى بفضله وكرمه يعلم الذين آمنوا أن يأخذوا عدتهم وأسلحتهم في جهاد كافر النفس والشيطان لفلاح الروحاني عن أسير الهوى النفساني بقوله تعالى: { خُذُواْ حِذْرَكُمْ } [النساء: 71]، هو ذكر الله عز وجل لقوله تعالى:
{ { وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } [الأنفال: 45]، قال تعالى: { فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ } [النساء: 71]؛ أي: جاهدوا أنفسكم بالرياضة وقمع الهوى متفرقين؛ أي: وإن كنتم بوصف التفرقة ولا جمعية لكم، فإن بالرياضة يحصل الجمعية، { أَوِ ٱنْفِرُواْ جَمِيعاً } [النساء: 71]؛ يعني: جاهدوا على الجمعية والحضور، فإن الجهاد ماض مع النفس مدة العمر في كل قتلة لها حياة أخرى أطيب وأعز من الأولى بقوله تعالى: { خُذُواْ حِذْرَكُمْ } [النساء: 71] إلى الخروج من عالم الحيوانية إلى عالم الروحانية ومن التفرقة إلى الجمعية، { فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ } [النساء: 71] على الخروج من عالم الروحانية إلى عالم الوحدانية الربانية، ومن الجمعية إلى الوحدة.
{ وَإِنَّ مِنْكُمْ } [النساء: 72] أيها الصديقون { لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } [النساء: 72]، من المدعين المتكاسلين في السير، القانعين بالاسم النازلين على الرسم، { فَإِنْ أَصَٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ } [النساء: 72] شدة وبلاء وجهد وعناء، قال: { قَالَ قَدْ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً } [النساء: 72] من المحنة والشقاوة والشدة والعناء، { وَلَئِنْ أَصَٰبَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله } [النساء: 73]، فتوحات ومواهب غيبية وعلوم لدنية، ومرتبة رفيعة عند الخواص ومحبة وقبول عند العوام، { لَيَقُولَنَّ } [النساء: 73]، هذا المرائي قول حاسد كاسد، { كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ } [النساء: 73]؛ أي: كمن لم يكن بينكم وبينه صحبة ونسبة في هذا الشأن، ولم يكن له انتماء إلى هذا الفرق إذا انقطع في الطريق، { يٰلَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ } [النساء: 73] في جهاد النفس وتزكيتها، وتربية القلب وتصفية وتنقية الروح، وتحليته وتحلية السر وتقويته، { فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً } [النساء: 73]؛ أي: فالفوز العظيم؛ وهو الله جل ثناؤه.