التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ ٱلأَمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً
٨٣
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً
٨٤
-النساء

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

وفي قوله تعالى: { وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ ٱلأَمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ } [النساء: 83]، إشارة إلى أرباب السلوك وأبناء السير إلى الله إذا فتح لهم من الإنس أو الهيبة والحضور والغيبة من آثار صفات الجمال والجلال، تغشوا الأسرار إلى الأغيار، وأشاعوا في الأقطار، { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ } [النساء: 83]؛ يعني: ولو كان رجوعهم في حل مثل هذه المشكلات وكشف هذه المعضلات إلى سنن الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى سير أولي الأمر منهم وهم المشايخ البالغون والواصلون، ومن كان له شيخ كامل فهو ولي أمره، { لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء: 83]، وهم أرباب الكشوف بحقائق الأشياء، فهم العالمون بعلوم درر ورق دقائق المعرفة، { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } [النساء: 83] ببعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، { لاَتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً } [النساء: 83]، وفي الحقيقة كان النبي صلى الله عليه وسلم فضل الله ورحمته، يدل عليه قوله تعالى: { { هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ } [الجمعة: 2]، إلى قوله: { ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } [الجمعة: 4]، وقوله تعالى: { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 107]، فلولا وجود النبي صلى الله عليه وسلم وبعثه لبقوا في نية الضلالة تائهين، كما قال تعالى: { { وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } [آل عمران: 164]، قبل بعثته، وكانوا قد اتبعوا الشيطان إلى شفا حفرة من النار، وكان صلى الله عليه وسلم فضله ورحمته عليهم فأنقذهم منها، كما قال تعالى: { وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } [آل عمران: 103]، وقوله تعالى: { إِلاَّ قَلِيلاً } [النساء: 83]، لعل استثناء راجع إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فإنه كان قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم مرافقاً في طلب الحق، قالت عائشة - رضي الله عنها -: "لم أعقل أبواي قط إلا وهما يدينان بدين الإسلام دين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يمر علينا يوماً إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية".
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"كنت وأبو بكر كفرسي رهان فسبقته فتبعني، ولو سبقني لتبعته" ، والله أعلم.
وفي قوله تعالى: { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ } [النساء: 84]؛ المعنى: فجاهد في طلب الحق نفسك، فإن في طلب الحق لا تكلف نفس أخرى إلا نفسك، وفيه معنى آخر: لا تكلف نفس أخرى بالجهاد لأجل نفسك؛ لأن حجابك من نفسك لا من نفس أخرى، فدع نفسك وتعالى فإنك صاحب
{ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً } [الانفطار: 19]؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم اختص بهذا المقام من جميع الأنبياء والمرسلين أن يكون فاني النفس، والذي يدل عليه أن الأنبياء - عليهم السلام - يوم القيامة يقولون لبقاء نفسهم: نفسي مفسي، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لفناء نفسه: "أمتي أمتي" ، فافهم جيداً.
ثم قال تعالى: { وَحَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [النساء: 84] على القتال؛ يعني: في الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر، { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [النساء: 84] ظاهراً وباطناً، فالظاهر الكفار، والباطن النفس، { وَٱللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً } [النساء: 84]، في استبطاء سطوات صفات قهره عند تجلي صفة جلاله للنفس من بأس الكافر عليها.