التفاسير

< >
عرض

فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلسَّلْمِ وَأَنتُمُ ٱلأَعْلَوْنَ وَٱللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ
٣٥
إِنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَٰلَكُمْ
٣٦
إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ
٣٧
هَا أَنتُمْ هَـٰؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَٱللَّهُ ٱلْغَنِيُّ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم
٣٨
-محمد

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

{ فَلاَ تَهِنُواْ } [محمد: 35] في جهاد النفس، { وَتَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلسَّلْمِ } [محمد: 35]؛ أي: تدعوا النفس إلى الصلح، فإن من صالح نفسه وترك جهاده لن يفلح أبداً، { وَأَنتُمُ ٱلأَعْلَوْنَ } [محمد: 35]، يخاطب القلوب والأرواح العلوية، ولكم القوة الروحانية، { وَٱللَّهُ مَعَكُمْ } [محمد: 35] بالنصر؛ إذ تجاهدون النفس السفلية الضعيفة في الله، { وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } [محمد: 35] لن ينقصكم أجوركم؛ لأنه لا يظلم مثقال ذرة، { وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَٰعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } [النساء: 40]، بالغوا في العبودية وسارعوا في طلب الحق تعالى.
ولا تغتروا بالدنيا وزينتها، { إِنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا } [محمد: 36] عند أرباب النظر وأصحاب الطلب { لَعِبٌ وَلَهْوٌ } [محمد: 36]، مخصوصة بالفناء، مجبولة على التعب والنصب والبلاء والعناء، { وَإِن تُؤْمِنُواْ } [محمد: 36] بطلب الحق، { وَتَتَّقُواْ } [محمد: 36] بالحق عما سواه، { يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ } [محمد: 36] بالتقرب إليكم على حسب تقربكم إليه؛ فإن تقربتم إليه شبراً يتقرب إليكم ذراعاً، وإن جئتم إليه وأنتم تمشون يجئ إليكم وهو يهرول كما يليق بذاته وصفاته، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وبقوله: { وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَٰلَكُمْ } [محمد: 36]، يشير إلى المؤمنين من أهل الجنة أنه تعالى لا يسألكم جميع أموالكم ليدخلكم الجنة، بل بأداء الزكاة الواجبة يرضى عنكم لدخول الجنة، وهذا لمن يوق شح نفسه، فأما الأحرار عن ذوق الكونين ومن علت رتبتهم في طلب الحق تعالى؛ فلا يسامحون في استيفاء ذرة، ويطالبون ببذل الروح والتزام الغرامات، فإن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، بل يقال لهم: { إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ } [محمد: 37]، به يشير إلى الطالب الصادق، والعاشق الوامق الذي لا ترضى عنه الآية؛ فيخفى في السؤال كذلك أن يسأل الله، فيحفي لا يرضى منه إلا ببذل الوجود إفناء الناسوتية في لاهوتية، وهذا مقام أخص الخواص، وقال للعوام: أن يسألكموها { فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُو } [محمد: 37] ببذل الوجود؛ لقصور همتكم في طلب المقصود ولجهلكم عن كمال المفقود.
ثم قال لأرباب الهمم العلية في طلب المواهب السنية: { هَا أَنتُمْ هَـٰؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ } [محمد: 38] في حقيقة الوجود الكلي لنيل المقصود الكلي، فمنكم من يتجلى { فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [محمد: 38] ببذل الوجود، { فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } [محمد: 38]؛ لأنه بخل بوجود مجازي، فإنه حرم عن وجود حقيقي باقٍ، { وَٱللَّهُ ٱلْغَنِيُّ } [محمد: 38] لذاته بذاته، ومن غناه تمكنه من تنفيذ مراده، واستغناؤه عن سواه، { وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ } [محمد: 38] إلى الله في الابتداء؛ ليخلقكم في الوسط ليربيكم في الانتهاء ليغنيكم عن أنانيتكم، ويبقيكم بهويته، والله غني عنكم من الأزل إلى الأبد، وأنتم الفقراء يحتاجون إليه من الأزل إلى الأبد.
وبقوله تعالى: { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } [محمد: 38]، يشير إلى أن الإنسان خلق ملولاً غير ثابت في طلب الحق تعالى، وإن من خواصهم: من يرغب في طلب الحق تعالى بالجد والاجتهاد من حسن استعداده الروحاني، ثم في أثناء السلوك بمجاهدة النفس ومخالفة هواها بظمأ النهار وسهر الليل تمل النفس من مكايدة الشيطان وطلب الرحمن، فيتولى عن الطلب بالخذلان وابتلي بالكفران؛ إذ لم يكن مستعاناً بجذبة العناية، فما أمكنه حسن الرعاية، فالله تعالى قادر على أن يستبدل به قوماً آخرين في الطلب صادقين، وعلى قدم العبودية ثابتين، وقد أدركتهم جذبات العناية موفقين للهداية، وهم أشد رغبة وأعز رهبة منكم، { ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم } [محمد: 38] في الإعراض بعد الإقبال، والإنكار بعد الإقرار، وترك الشكر والوفاء بأن يكونوا خيراً منك من جميع الأحوال؛ إظهاراً للقدرة على ما يشاء والحكمة فيما يشاء.