التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
١٠٥
يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ ٱثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ ٱلصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ ٱلآَثِمِينَ
١٠٦
فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا ٱسْتَحَقَّآ إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا ٱعْتَدَيْنَآ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ
١٠٧
-المائدة

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن طريقة أهل الولاية عند استيلاء هذا البلاء بقوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [المائدة: 105]، إشارة أن في الخطاب تخصيص الطالب الصادق وهو قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أي: إيمان الطالبين المحققين بأن الوجدان في الطلب كما قال تعالى: "ألا من طلبني وجدني" { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } فاشتغلوا بتزكيتها فإنه { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [الشمس: 9-10]، فلا تشتغلوا قبل تزكيتها بتزكية نفوس الخلق، ولا تغتروا بإرادة الخلق وقبولهم وحسن ظنهم فيكم وتقربهم إليكم، فأيها الطالب اغتنم الساعة وأن مثل السالك المحتاج إلى المسلك والدين يدعي رواته ويتمسك به كمثل غريق في البحر محتاج إلى سائح كامل في ضيعته لينجيه من الغرق، فيتثبت به غريق في البحر وهو يأخذ بيديه لينجيه فيهلكان جميعاً، فالواجب على الطالب المحقق أن يتمسك بدليل إرادة صاحب ولاية له في هذه الشأن مسلك كامل ويستسلم لأحكامه، ولا يلتفت إلى كثرة الهالكين فإنه لا يهلك على الله إلا هالك { لاَ يَضُرُّكُمْ } [المائدة: 105]، أيها الطالبون { مَّن ضَلَّ } [المائدة: 105]، من المغرقين { إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ } [المائدة: 105]، إلى الحق { إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } [المائدة: 105]، أيها الطالبون بجذبات العناية على طريق الهداية والمضلون بسلاسل القهر والخذلان على طريق، والعصيان نزلت في منذر بن عمر وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل هجر فيدعوهم إلى الإسلام، فأبوا الإسلام فوضع عليهم الجزية، فقال: لا يضركم من ضل من أهل هجر إذا إهتديتم إلى الله يعني: آمنتم بالله { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [المائدة: 105]؛ أي: فيذيقكم لذة ثواب أعمالكم، والمعنى ليس للطالب أن يلتفت في أثناء سلوكه إلى أحد من أهل الصدق والإرادة بأن يقبله ليربيه، ويغتر بأنه شيخ يقتدى به إلى أن يتم أمر سلوكه بتسليكم مسلك كامل واصل، ثم إن يرى شيخان له رتبة الشيخوخة فينتبه بإشارة الحق في مقام التربية ودعوة الخلق إلى الحق فحينئذ يجوز له أن يكون هادياً مرشداً للمريدين باحتياط وافر فقد قال تعالى: { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [الرعد: 7]، فأما في زماننا هذا فقد آل الأمر إلى أن من لم يكن قط مريداً يدعى الشيخوخة ويخبر بالشيخوخة الجهال والضلال من جهالته حرصاً لانتشار ذكره وشهرته وكثرة مريديه، وقد جعلوا هذا الشأن العظيم والسر الجسيم لعب الصبيان وضحكة الشيطان حتى يتوارثون كلما مات ولله منهم يجلسون ابنه مقام صغيراً كان أو كبيراً ويلبسون منه الخرقة ويتبركون به وينزلونه منازل المساعي، فهذه مصيبة قد عمت ولعل هذه طريقة قد تمت فأنذرت آثارها والله أعلم بأخبارها.
ثم أخبر عن كيفية الوصية لقوله تعالى: { يِآ أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } [المائدة: 106]، إشارة إن الخطاب في قوله تعالى: { يِآ أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [المائدة: 106]، مع الروح وصفاته أن آمنتم إيمان المجتهدين في جهاد الأكبر شهادة بينكم { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ } [المائدة: 106]؛ أي: النفس تموت عن صفاتها الذميمة بالرياضيات والمجاهدات { حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ } [المائدة: 106]، والوصيان { ٱثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ } [المائدة: 106]، هما العقل والسر { مِّنْكُمْ } [المائدة: 106]؛ أي: من الروحانيات { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } [المائدة: 106]؛ يعني: من غير الروحانيات وهما الوهم والخيال من النفسانيات فالعقل والسر يشهدان بالحق، وإن كان على ذي قرابة من الروحانيات والوهم والخيال يتحملان الصدق والكذب في الشهادة { إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ } [المائدة: 106]؛ أي: سافرتم في السفليات { فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ } [المائدة: 106]؛ أي: تصيب النفس جذبة الحق فتموت { تَحْبِسُونَهُمَا } [المائدة: 106]؛ أي: الشاهدين العقل والسر والوهم والخيال إن كنتم في بعد من الروحانيات { مِن بَعْدِ ٱلصَّلاَةِ } [المائدة: 106]، بعد حضور جامع الله تعالى وتوجهها إلى الحق ومراقبة ثابتة { فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ } [المائدة: 106]، فيشدد على الشاهدين بالقسم والتخويف بالله أن يؤديا شهادة الحق { وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ ٱلآَثِمِينَ } [المائدة: 106]، يدفعان تركة النفس وهي صفاتها إلى ورثتها وهم القلب وصفاته، ولا يتصرفان في شيء من السفليات، ولا يميلان إلى حظ من حظوظها وإن كل خلق وصفة ذميمة ورثها القلب من النفس يجعلها خلقاً محمودة وصفة حميدة؛ لأن النفس كانت تشتمل تلك الصفة في السفليات وكانت ذميمة تستعملها القلب في العلويات فتكون حميدة مثاله أن الحرص صفة من صفات النفس، وهي تستعمله في طلب الدنيا ولذاتها وشهواتها فصارت ذميمة ويستعمله القلب في طلب الآخرة والمقامات وتحصيل العلوم والظلمات فيكون محموداً وعلى هذا النفس الباقي { فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا } [المائدة: 107]؛ يعني: الوصيين من العقل والسر والوهم والخيال { ٱسْتَحَقَّآ إِثْماً } [المائدة: 107]، بأنهما قصرا في أداء حق الوصية ومالا إلى حظ من الحظوظ السفلية { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا } [المائدة: 107]، يعني: مقام النصرانيين في استفاء حقوقهما { مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلأَوْلَيَانِ } [المائدة: 107]، وهما من صفات التذكر والتفكر الصاحب ينظر أن في عواقب الأمور، ويشهدان على أن الآخرة خير من الدنيا، وإن الباقي خير من الفاني وذلك قوله { فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا } [المائدة: 107]، لأنهما أعني الوهم والخيال مالا إلى الحظوظ فيما كتما من الحقوق والتذكر والتفكر يميلان إلى حفظ الحقوق بترك الحظوظ { وَمَا ٱعْتَدَيْنَآ } [المائدة: 107]، في حفظ الحقوق { إِنَّا إِذاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ } [المائدة: 107]، الواضعين الحظوظ في مقام الحقوق ذلك أدنى إلى الحق وأقرب.