التفاسير

< >
عرض

قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
١٢
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
١٣
قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ
١٤
قُلْ إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
١٥
مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْمُبِينُ
١٦
-الأنعام

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن الهالكين في الغفلة وكمال الرحمة بقوله تعالى: { قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قُل للَّهِ } [الأنعام: 12]، والإشارة فيهما أن ما في الكون سوى الله لا داع ولا مجيب، قل: "أنت" يا محمد [لأنك] لا بك؛ بل بتكوني إياك، وناد لمن في السماوات والأرض؛ فلا تجد على الحقيقة مجيباً مكوناً من غير تكويني إياه، فقل: "أنت" يا محمد [لأنك] لا بك؛ بل بتكوني القول فيك الله؛ أي: لله ما في السماوات والأرض حلقاً وملكاً ووجوداً وعدماً وإيجاداً واعداً، فهو الأول الكون والآخر والظاهر والباطن { كَتَبَ } [الأنعام: 12]، في أزليته { عَلَىٰ } [الأنعام: 12]، ذمة كرم { نَفْسِهِ } [الأنعام: 12]، وحقيقة هيئته { ٱلرَّحْمَةَ } [الأنعام: 12]، بخلقه ومكوناته { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } [الأنعام: 12]، بالإيجاد لإظهار الرحمة في الوجود المجازي { إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ } [الأنعام: 12]، الذي { لاَ رَيْبَ فِيهِ } [الأنعام: 12]، وهو يوم ظهور آثار الصفة القهارية لا يبقى فيه إلا الوجود الحقيقي، فأنادي بعزتي ولعظمتي { { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ } [غافر: 16]، فلا يكون مجيباً لا في الصورة ولا في المعنى غير واحديتي، فأجيب لذاتي بذاتي { { لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر: 16].
ففي ذلك اليوم { ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ } [الأنعام: 12]؛ أي: أفسدوا استعدادات أنفسهم لقبول الكمال في الدنيا، وذاقوا ألم خسرانهم في نقصانهم، ووجدوا عقوبة حرمانهم وخسرة خذلانهم { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [الأنعام: 12]، بعد { وَ } قد شاهدوا على الحقيقة وعاينوا أن { لَهُ مَا سَكَنَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } [الأنعام: 13]؛ أي: من سكن في ليل البشرية إلى التمتعات الحيوانية، ومن سكن في نهار الروحانية إلى المواهب الربانية؛ كانوا ملكاً له يظهر عليهم آثار صفات قهره ولطفه؛ فالمعنى: فإنهم يؤمنون ولكن يوم لا ينفع نفساً غيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، ويظهر لهم في ذلك اليوم أن الله { وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ } [الأنعام: 13]؛ أي: كان سميعاً لما يسخرون من الأنبياء والأولياء ويطعنون فيهم ويكذبونهم { ٱلْعَلِيمُ } [الأنعام: 13]، بما كانوا يعمرون ولا يظهرون من حيث عقائدهم، فجازهم به وهو السميع ثناؤه من سكن إليه العليم تعلق من اشتياق إليه.
ثم أخبر عن امتناع النبي من اتخاذ غير الله الولي بقوله تعالى: { قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً } [الأنعام: 14]، إلى قوله: { وَذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْمُبِينُ } [الأنعام: 16]، والإشارة فيها: أن قل أغير الله اتخذ اليوم ولياً؟! وقد اتخذني الله في أزليته حبيباً كما قال صلى الله عليه وسلم:
"لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً" .
{ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [الأنعام: 14] أي: فاطر سماوات القلوب على محبته، وفاطر أرض النفوس على عبوديته { وَهُوَ يُطْعِمُ } [الأنعام: 14]، أرواح العارفين من طعام المشاهدات، وليسقيهم شربات المكاشفات كقوله صلى الله عليه وسلم: "أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" ، { وَلاَ يُطْعَمُ } [الأنعام: 14]، غيره هذا الطعام والشراب { قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ } [الأنعام: 14]، في الأزل وخصصت { أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } [الأنعام: 14]؛ أي: أخلص عن جنس الوجود وما خلص عنه غيره بالكلية، ولهذا يقول الأنبياء: نفسي نفسي، وهو يقول: أمتي أمتي، وخاطبني بخطاب التكوين، وقال في الأزل: { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ } [الأنعام: 14]، فما كنت من المشركين في أيام النبوة.
{ قُلْ إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي } [الأنعام: 15]، برؤية الضر والتفاته { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [الأنعام: 15]، فهو يوم الشرك والعذاب العظيم، كما قال تعالى:
{ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان: 13]، وعذاب الشرك أن نزل قدمه عن مقام الوحدة { مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ } [الأنعام: 16]، عذاب الشرك { يَوْمَئِذٍ } [الأنعام: 16]، يوماً قدر فيه الشرك لأقوام { فَقَدْ رَحِمَهُ } [الأنعام: 16] أي: نظر إليه بالرحمة فيرحمه وعافاه عن الشرك، كما قال لحبيبه يومئذ: { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ }، فما كان { وَذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْمُبِينُ } [الأنعام: 16]، لمن نجاه من الشرك وألزمه التوحيد.