التفاسير

< >
عرض

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ
٣٣
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ ٱلْمُرْسَلِينَ
٣٤
وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن ٱسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي ٱلأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي ٱلسَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْجَٰهِلِينَ
٣٥
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَٱلْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ
٣٦
وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٣٧
-الأنعام

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

ثم أخبر عن جحود أهل الوجود بقوله تعالى: { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَ } [الأنعام: 33]، الآيتين والإشارة فيهما أن من ضيق نطاق البشرية أثر في بشرية حبيب الله صلى الله عليه وسلم مقالة الجهال والضلال حتى بمقالتهم، وتأسف على ضلالتهم فواساه الله تسلية له وقال: قد نعلم أنه ليحزنك الذين يقولون بجهالتهم وينسبونك إلى الكذب عن ضلالتهم { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ } [الأنعام: 33]، على الحقيقة؛ لأنهم يعرفونك بالصدق { وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } [الأنعام: 33]، ولكن الكذب والتكذيب في الجحود والعناد من شأن الظالمين؛ لأن الظالم من يضع الشيء في غير موضعه فيضعون التكذيب والجحد في موضع التصديق والإقرار، فلا تحزن على مقالهم فإنا نعلم أن من أصابك لم يصبك إلا لأجلنا، وإن لك غير ضائعٍ هذا عندنا وحالك فينا كما قيل شعر:

أشاعوا لنا في الحيِّ أشنع قصةٍ وكانوا لنا سِلَما فصاروا لنا حَربا

وإنك لست منفرداً في مقامات المحنة من بين أهل المحبة { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ } [الأنعام: 34]، فإن الصبر على المكاره من شأن المرسلين { حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } [الأنعام: 34]، ظاهراً وباطناً فإنا الظاهر فعمر رسلنا بهلاك القوم أو بإجابة الدعوة، وإن في الباطن فتنصرهم بالتخلق بأخلاقنا فأما الصبر خلق من أخلاقنا وينافهم بالصبر مرتبة أولوا العزم كما قال تعالى: { فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ } [الأحقاف: 35]، { وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ } [الأنعام: 34]، وهي القدرات التي قدرها ودبرها في الأزل إلى الأبد بكلمة { { كُنْ } [البقرة: 117]، فقدر للمقبولين الرسالة والنبوة والولاية والمحبة والصبر عليها ونعمة الطاعة والعبودية والشكر لها { وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ ٱلْمُرْسَلِينَ } [الأنعام: 34]؛ أي فيما صبروا على المحق والشكر والنعم وقدر للمردود بين الغفلة والجهالة والضلالة وكفران النعمة والجزع فيما أصابهم من المكاره.
ثم أخبر عن إعراض أهل الاعتراض بقوله تعالى: { وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن ٱسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي ٱلأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي ٱلسَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ } [الأنعام: 35]، تربية وتأديب للنبي صلى الله عليه وسلم من الله تعالى كما قال صلى الله عليه وسلم:
"أدبني ربي فأحسن تأديبي" ؛ لئلا يبالغ في الشفقة على غير أهلها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كما خوطب بقوله تعالى: { { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ } [آل عمران: 159]، بالغ في اللين والشفقة وحرص على إيمان القوم وكبر عليه إعراضهم حتى قيل وأغلظ عليهم وقيل { { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً } [الكهف: 6]، وقيل: { { وَمَآ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [يوسف: 103]، وقيل: { وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ }، ثم قال تعالى: { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } [الأنعام: 35]؛ يعني: في عالم الأرواح عند رشاش النور على الأرواح لجمعهم في قابليته النور مع القابلين الذين أصابهم النور، وقد اهتدوا به { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْجَٰهِلِينَ } [الأنعام: 35]، الذين لا يعلمون الحكمة فيما جعلنا بعضهم قابلي نور الهداية والإيمان، وبعضهم غير قابلين إظهاراً للطف والقهر، وفي هذا إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عالماً بهذه الحكمة، وفيه إشارة أخرى إلى أن هذا الخطاب أزلي خاطب النبي صلى الله عليه وسلم في الأزل { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْجَٰهِلِينَ } في الدنيا فما كان منهم، ولو لم يخاطبه به لكان من الجاهلين، فإن كل أمر خاطب له النبي صلى الله عليه وسلم هو أمر التكوين، وكذلك النهي هو نهي الامتناع عن الكينونة.
ثم وصف له المستعدين بقول الهداية فقال تعالى: { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَٱلْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [الأنعام: 36]؛ يعني: الذين يسمعون بالله، وهم الذين أحياهم الله تعالى بنور منَّه كقوله تعالى وتبارك:
{ { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ } [الأنعام: 122]؛ يعني: يسمع بذلك النور ويبصر به كما قال تعالى: "فبي يسمع وبي يبصر" { وَٱلْمَوْتَىٰ } [الأنعام: 36]، أراد بالموتى من كان ميتاً ولم يحيه الله فلا يسمع قوله: { يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ } [الأنعام: 36]؛ يعني: الله قادر على أن يبعثهم ويحييهم ويسمعوا لا أنت يا محمد كقوله تعالى: { { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ } [النمل: 80]، وقال تعالى: { وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي ٱلْقُبُورِ } [فاطر: 22]، { ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [الأنعام: 36]؛ يعني: من يبعثهم يحييهم الله من قبور نفوسهم { يُرْجَعُونَ } إليه بجذبات العناية ونور الهداية { وَقَالُواْ } [الأنعام: 37]، أهل الأهواء لأهل الولاء { لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } [الأنعام: 37]، طالما يطالبونهم بإراءة الآيات، وهو من مكائد النفس وغلبة الهوى والتعلل بالأشياء الفاسدة وكم من آية قد رأوها وقد أعرضوا عنها { قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلٍ آيَةً } [الأنعام: 37]، في كل ساعة ولحظة { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ } [الأنعام: 37]، بدون الآية { لاَ يَعْلَمُونَ } [الأنعام: 37]، إنها من آيات الله لأن آيات الله لا ترى إلا بنور الله تعالى، فمن لم يكن له نور الله لينظر به فلم ير الآيات إلا السحر والكذب.