التفاسير

< >
عرض

يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ قُلِ ٱلأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
١
إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَٰناً وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
٢
ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
٣
أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
٤
كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ
٥
-الأنفال

التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ } [الأنفال: 1] إلى قوله: { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [الأنفال: 4] يشير إلى أن كثرة السؤال توجب الهلاك، ولهذا "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال" ، فلما أكثروا السؤال، قال صلى الله عليه وسلم: "ذروني ما تركتكم ، فإنه أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم عن أنبيائهم" ومن كثرة سؤالهم قوله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ } وإنما سألوه لتكون الأنفال لهم فقال على خلاف ما تمنوا.
{ قُلِ ٱلأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ } [الأنفال: 1] يعملا فيها ما شاءا لا كما شئتم؛ لتتأدبوا ولا تعترضوا على الله والرسول بطريق السؤال، وتكونوا مستسلمين لأحكامهما في دينكم ودنياكم، وترحصوا على الدنيا؛ لئلا تشوبوا أعمالكم الدينية بالأعراض الدنيوية { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } [الأنفال: 1] أي اتقوا بالله عن غير الله وأصلحوا ما بينكم من الأخلاق الرديئة والهمم الدنيئة، وهي الحرص على الدنيا والحسد على الإخوان وغيرهما من الصفات الذميمة التي يحجب بها نور الإيمان عن القرب { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } [الأنفال: 1] بالتسليم لأحكامهما والائتمار بأوامرهما والانتهاء عن نهواهيهما { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [الأنفال: 1] تحقيقاً لا تقليداً، فإن المؤمن الحقيقي هو الذي كتب الله بقلم العناية في قلبه الإيمان وأيده بروح منه فهو على نور من ربه.
كما وصفه الله تعالى بقوله: { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } [الأنفال: 2] فإن دخل القلوب عند سماع ذكر الله من خصوصيته النور المنبسط فيه؛ لأنه من شأن نور الإيمان أن ينقي القلب ويصفيه عن كدورات صفات النفس وظلماتها، ويلين قسوته فيلين إلى ذكر الله فيجد شوقاً إلى الله، وهذا حال أهل البدايات، وأمَّا أهل النهايات الطمأنينة والسكون بالذكر؛ لقوله تعالى:
{ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } [الرعد: 28].
وقال صلى الله عليه وسلم:
"أحب القلوب إلى الله أصلبها في دين الله، وأصفاها عن الذنوب، وأرقها على الإخوان" ، ولمَّا جاء قوم حديثو العهد بالإسلام فسمعوا القرآن كانوا يبكون ويتأوهون فقال أبو بكر رضي الله عنه: هكذا كنا في بداية الإسلام، ثم قست قلوبنا.
{ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَٰناً } [الأنفال: 2] فجعل من شرط الإيمان الحاصل في القلوب: ازدياده عند سماع القرآن وتلاوته، وذكر الله وطاعته وعبادته؛ وذلك لأن الإيمان الحقيقي هو النور الواقع في القلوب بعد انفتاح روزنة القلوب من أنوار تجلي شموس صفات مالك يوم الدين للقلوب المشتاقة، فتكون وجوه القلوب النافرة من دنس حب الدنيا بذلك النور إلى ربها وحبيبها ناظرة، فلمَّا تليت على أصحابها الآيات، أو تلوها، أو ذكروا بالله، أو ذكروه، أو عملوا عملاً صالحاً زاد انفتاح روزنتها بقدر صدقها وشوقها، فيزيد فيها نور الإيمان فيزدادون إيماناً مع إيمانهم.
{ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [الأنفال: 2] يعني: فحينئذ على ربهم يتوكلون لا على الدنيا وأهلها، فإن من شاهد نور الإيمان جمال الحق وجلاله، فقد استغرق في بحر لجي من شهود الحق بحيث لا مستغرق لغيره، ويرى الأشياء مضمحلة تحت سطوات جلاله فيكون تولكه عليه لا على غيره.
ومن صفاتهم أنهم { ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ } [الأنفال: 3] أي: يديمونها بملازمة العبودية ظاهراً وباطناً، ولا يشتغلون بطلب الدنيا وإن كانت حاجتهم، قائمة بها لإدامة الصلاة، { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [الأنفال: 3] أي: ومما أعطيناهم من غير طلبهم يصرفون في مصالح الدين وحراثة الآخرة وتقرباً إلى الله تعالى، { أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } [الأنفال: 4] لاستكمال شرائط الإيمان فيهم بالتحقيق لا بالتقليد، ووقوع نور الحق في قلوبهم، وتهون ظلمة الباطل عنها، { لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ } [الأنفال: 4] على قدر استعلاء ذلك النور وتمكنهم في مقام العندية، { وَمَغْفِرَةٌ } [الأنفال: 4] أي: عطف من عواطفه يستر بنوره ظلمة وجودهم، { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [الأنفال: 4] أي: عطاء كريم يناسب كرمه.
ثم أخبر عن تحقيق هذا لنبيه بقوله تعالى: { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِٱلْحَقِّ } [الأنفال: 5] إلى قوله:
{ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [الأنفال: 10] الإشارة فيها أنه تعالى أخرج المؤمنين الذين هم المؤمنون حقاً عن أوطان البشرية إلى مقام العندية بجذبات العناية، { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ } [الأنفال: 5] أي: من وطن وجودك { بِٱلْحَقِّ } أي: بمجيء الحق من تجلي صفات جماله وجلاله.
{ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الأنفال: 5] أي: القلب والروح، { لَكَارِهُونَ } [الأنفال: 5] يعني: للفناء من التجلي، فإن البقاء محبوب والفناء مكروه على كل ذي جود.