التفاسير

< >
عرض

صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ
٧
-الفاتحة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ حمزة عليهم بضم الهاء وإِسكان الميم وكذلك لديهم وإِليهم, وقرأ يعقوب بضم كل هاء قبلها ياء ساكنة في التثنية والجمع المذكر والمؤنت نحو: عليهما وفيهما وعليهم وفيهم وعليهن وفيهن, وقرأ الباقون عليهم وأخواتها بالكسر, وقرئ في الشواذ: عليهموا قراءة ابن أبي إِسحاق وعيسى الثقفي وعليهمي قراءة الحسن البصري وعمر بن قايد وعليهم مكسورة الهاء مضمومة الميم بغير واو وعليهم مضمومة الهاء والميم من غير بلوغ واو مرويتان عن الأعرج, فهذه سبع قراءات ثم اختلف القراء في الميم فأهل الحجاز وصلوا الميم بواو انضمت الهاء قبلها أو انكسرت قالوا عليهموا وعلى قلوبهموا وعلى سمعهموا ومنهموا ولهموا إِلا أن نافعاً اختلف عنه فيه والباقون بسكون الميم فأما إذا لقي الميم حرف ساكن فإِن القراء اختلفوا فأهل الحجاز وعاصم وابن عامر يضمون على كسر الهاء ويضمون الميم نحو عليهم الذلة ومن دونهم امرأتين, وأبو عمرو يكسر الهاء والميم, وحمزة والكسائي يضمان الهاء والميم معاً, وكل هذا الاختلاف في الهاء التي قبلها كسرة أو ياء ساكنة فإِذا جاوزت هذين الأمرين لم يكن في الهاء إِلا الضم وقرأ صراط من أنعمت عليهم عمر بن الخطاب وعمرو بن عبد الله الزبيري وروي ذلك عن أهل البيت عليهم السلام وقرئ أيضا في الشواذ غير المغضوب عليهم بالنصب وقرأ: غير الضالين عمر بن الخطاب وروي ذلك عن علي (ع).
الحجة: من قرأ عليهم بضم الهاء فإِنه رده إِلى الأصل لأنه إِذا انفرد من حروف يتصل بها قيل: هم فعلوا بضم الهاء قال السراج وهي القراءة القديمة ولغة قريش وأهل الحجاز ومن حولهم من فصحاء اليمن وإِنما خص حمزة هذه الحروف الثلاثة بالضم لأن الياء قبلها كانت ألفاً مثل على القوم ولدى القوم وإِلى القوم, ولا يجوز كسر الهاء إِذا كان قبلها ألف ومن قرأ عليهموا فإِنه اتبع الهاء ما أشبهها وهو الياء وترك ما لا يشبه الياء والألف على الأصل وهو الميم ومن قرأ عليهم فكسر الهاء وأسكن الميم فلأنه أمن اللبس إِذا كانت الألف في التثنية قد دلت على الاثنين ولا ميم في الواحد فلما لزمت الميم الجمع حذفوا الواو وأسكنوا الميم طلباً للتخفيف إِذا كان ذلك لا يشكل وإِنما كسر الهاء مع أن الأصل الضم للياء التي قبلها, ومن قرأ عليهموا فلأنه الأصل لأن وسيلة هذه الواو في الجمع وسيلة الألف في التثنية أعني أن ثبات الواو كثبات الألف, ومن قرأ عليهمي فإنه كسر الهاء لوقوع الياء قبلها ساكنة وكسر الميم كراهة للخروج من كسرة الهاء إِلى ضمة الميم ثم انقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ومن كَسَر الهاء وضم الميم وحذف الواو فإنه احتمل الضمة بعد الكسرة لأنها غير لازمة إِذا كانت ألف التثنية تفتحها لكنه حذف الواو تفاديا من ثقلها مع ثقل الضمة.
ومن قرأ عليهم فإِنه حذف الواو استخفافاً واحتمل الضمة قبلها دليلاً عليها وأما من ضم الميم إذا لقيها ساكن وكسر الهاء فإِنما يحتج بأن يقول لما احتجت إِلى الحركة رددت الحرف إِلى أصله فضممت وتركت الهاء على كسرها لأنه لم تأت ضرورة تحوج إِلى ردها إِلى الأصل ولأن الهاء إِنما تبعت الياء لأنها شبّهت بها ولم يتبعها الميم لبعدها منه. واحتج من كسر الميم والهاء بأن قال: اتبعت الكسر الكسر لثقل الضم بعد الكسر. قال سيبويه: الهاء تكسر إِذا كان قبلها ياء أو كسرة لأنها خفيفة وهي من حروف الزيادة كما أن الياء من حروف الزيادة وهي من موضع الألف وهي أشبه الحروف بالياء وكما أمالوا الألف في مواضع استخفافاً كذلك كسروا هذه الهاء وقلبوا الواو ياء لأنه لا تثبت واو ساكنة وقبلها كسرة كقولك: مررت بهي ومررت بدار هي قبل.
الإعراب: { صراط الذين } صفة لقولـه: { الصراط المستقيم } ويجوز أن يكون بدلاً عنه الفضل بين الصفة والبدل أن البدل في تقدير تكرير العامل بدلالة تكرير حرف الجر في قولـه تعالى:
{ { قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } [الأعراف: 75] وليس كذلك الصفة فكما أعيدت اللام الجارة في الاسم فكذلك العامل الرافع أو الناصب في تقدير التكرير فكأنه قال اهدنا صراط الذين وليس يخرج البدل وإِن كان كذلك عن أن يكون فيه تبيين للأول كما أن الصفة كذلك ولهذا لم يجز سيبويه المسكين بي كان الأمر ولا بك المسكين كما أجاز ذلك في الغائب نحو مررت به المسكين والذين موصول وأنعمت عليهم: صلة وقد تم بها اسماً مفرداً يكون في موضع جر بإضافة صراط إِليه ولا يقال في موضع الرفع اللذون لأنه اسم غير متمكن, وقد حكي اللذون شاذاً كما حكي الشياطون في حال الرفع وأما غير المغضوب عليهم ففي الجر فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون بدلاً من الهاء والميم في عليهم كقول الشاعر:

عَلَى حَالَةٍ لَوْ أَنَّ في القَوْمِ حاتماً عَلَى جُودِهِ لَضنَّ بِالْمَاءِ حَاتِمِ

فجر حاتم على البدل من الهاء في جوده وثانيها: أن يكون بدلاً من الذين وثالثها: أن يكون صفة للذين وإن كان أصل غير أن يكون صفة للنكرة. تقول: مررت برجل غيرك كأنك قلت مررت برجل آخر أو برجل ليس بك. قال الزجاج: وإِنما جاز ذلك لأن الذين ههنا ليس بمقصود قصدهم فهو بمنزلة قولك إني لأمُرُّ بالرجل مثلك فأكرمه. وقال علي بن عيسى الرماني: إِنما جاز أن يكون نعتاً للذين لأن الذين بصلتها ليست بالمعرفة الموقتة كالأعلام نحو زيد وعمرو وإنما هي كالنكرات إِذا عرِّفت نحو الرجل والفرس فلما كانت الذين كذلك كانت صفتها كذلك أيضاً, كما يقال لا أجلس إلا إلى العالم غير الجاهل ولو كانت بمنزلة الأعلام لما جاز كما لم يجز مررت بزيد غير الظريف بالجر على الصفة.
وقال أبو بكر السراج والذي عندي أن غير في هذا الموضع مع ما أضيف إليه معرفة لأن حكم كل مضاف إلى معرفة أن يكون معرفة وإنما تنكرت غير ومثل مع إضافتهما إلى المعارف من أجل معناهما وذلك أنك إذا قلت رأيت غيرك فكل شيء ترى سوى المخاطب فهو غيره وكذلك إذا قلت: رأيت مثلك فما هو مثله لا يحصى فأما إِذا كان شيئاً معرفة له ضد واحد وأردت اثباته ونفي ضده فعلم ذلك السامع فوصفته بغير وأضفت غير إلى ضده فهو معرفة وذلك نحو قولك: عليك بالحركة غير السكون فغير السكون معرفة وهي الحركة فكأنك كررت الحركة تأكيداً فكذلك قولـه تعالى: { الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم } [الفاتحة: 7] فغير المغضوب هم الذين أنعم الله عليهم فمتى كانت غير بهذه الصفة فهي معرفة وكذلك إِذا عرف إِنسان بأنه مثلك في ضرب من الضروب فقيل فيه قد جاء مثلك كان معرفة إذا أردت المعروف بشبهك. قال ومن جعل غير بدلاً استغنى عن هذا الاحتجاج لأن النكرة قد تبدل من المعرفة وفي نصب غير ثلاثة أوجه أيضاً:
أحدها أن يكون نصباً على الحال من المضمر في عليهم والعامل في الحال أنعمت فكأنه قال: صراط الذين أنعمت عليهم لا مغضوباً عليهم.
وثانيها أن يكون نصباً على الاستثناء المنقطع لأن المغضوب عليهم من غير جنس المنعم عليهم.
وثالثها أن يكون نصباً على أعني كأنّه قال أعني غير المغضوب عليهم ولم يجز أن يقال غير المغضوبين عليهم لأن الضمير قد جمع في عليهم فاستغنى عن أن يجمع المغضوب وهذا حكم كل ما تعدى بحرف جر تقول رأيت القوم غير المذهوب بهم استغنيت بالضمير المجرور في بهم عن جمع المذهوب وأما لا من قولـه: { ولا الضالين } فذهب البصريون إِلى أنها زائدة لتوكيد النفي, وذهب الكوفيون إِلى أنها بمعنى غير, ووجه قول البصريين أنك إِذا قلت ما قام زيد وعمرو, احتمل أن تريد ما قاما معاً ولكن قام كل واحد منهما بانفراده فإذا قلت ما قام زيد ولا عمرو زال الاحتمال غير متضمن معنى النفي ولهذا أجاز النحويون أنت زيداً غير ضارب لأنه بمنزلة قولك أنت زيداً لا ضارب ولا يجوّزون أنت زيداً مثل ضارب لأن زيداً من صلة ضارب ولا يتقدم عليه, وقال علي بن عيسى الرماني من نصب على الاستثناء جعل لا صلة كما أنشد أبو عبيدة:

في بِئْرِ لا حُورٍ سرَى وَمَا شَعَرْ

أي في بئر هلكة وتقديره غير المغضوب عليهم والضالين كما قال ما منعك أن لا تسجد بمعنى أن تسجد.
المعنى واللغة: معنى الآية بيان الصراط المستقيم أي: صراط من أنعمت عليهم بطاعتك وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قولـه:
{ { وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ } [النساء: 69] وأصل النعمة المبالغة والزيادة يقال دققت الدواء فأنعمت دقه أي بالغت في دقه وهذه النعمة وإن لم تكن مذكورة في اللفظ فالكلام يدل عليها لأنه لما قال اهدنا الصراط المستقيم وقد بينا المراد بذلك بيّن أن هذا صراط من أنعم عليهم به ولم يحتج إلى إعادة اللفظ كما قال النابغة:

كَأنَّكَ مِن جِمالِ بَني أُقَيْشٍ يُقَعْقَعُ خَلْفَ رَجْلَيْهِ بِشَنٍّ

أي كأنك من جمالهم جمل يقعقع خلف رجليه وأراد بالمغضوب عليهم اليهود عند جميع المفسرين الخاص والعام ويدل عليه قولـه تعالى: { { مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ } [المائدة: 60] وهؤلاء هم اليهود بدلالة قولـه تعالى: { { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [البقرة: 65] وأراد بالضالين النصارى بدلالة قولـه تعالى: { { وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ } [المائدة: 77] وقال الحسن البصري: إن الله تعالى لم يبرئ اليهود من الضلالة بإِضافة الضلالة إِلى النصارى ولم يبرء النصارى من الغضب بإِضافة الغضب إلى اليهود بل كل واحدة من الطائفتين مغضوب عليهم وهم ضالون إلا أن الله تعالى يخص كل فريق بسمة يعرف بها ويميز بينه وبين غيره بها وإِن كانوا مشتركين في صفات كثيرة وقيل المراد بالمغضوب عليهم والضالين جميع الكفار وإِنما ذكروا بالصفتين لاختلاف الفائدتين. واختار الإمام عبد القاهر الجرجاني قولاً آخر قال: إن حق اللفظ فيه أن يكون خرج مخرج الجنس كما تقول نعوذ بالله أن يكون حالنا حال المغضوب عليهم فإنك لا تقصد به قوماً بأعيانهم ولكنك تريد ما تريده بقولك إِذا قلت اللهم اجعلني ممن أنعمت عليهم ولا تجعلني ممن غضبت عليهم فلا تريد أن ههنا قوماً بأعيانهم قد اختصوا بهذه الصفة التي هي كونهم منعماً عليهم وليس يخفى على من عرف الكلام أن العقلاء يقولون اجعلني ممن تديم له النعمة وهم يريدون أن يقولوا أدم عليَّ النعمة ولا يشك عاقل إِذا نظر لقول عنترة:

وَلَقَدْ نَزَلْتِ فَلاَ تَظُنِّيْ غَيْرَهُ مِنِّي بِمنزِلَةِ المُحَبِّ المُكْرَمِ

إِنه لم يرد أن يشبهها بإِنسان هو محب مكرم عنده أو عند غيره ولكنه أراد أن يقول إنك محبة مكرمة عندي وأما الغضب من الله تعالى فهو إِرادته انزال العقاب المستحق بهم ولعنهم وبراءته منهم, وأصل الغضب الشدة ومنه الغضبة وهي الصخرة الصلبة الشديدة المركبة في الجبل, والغضوب الحية الخبيثة والناقة العبوس وأصل الضلال الهلاك ومنه قولـه إذا ضللنا في الأرض أي هلكنا ومنه قولـه: { { وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } [محمد: 8] أي أهلكها والضلال في الدين الذهاب عن الحق وإِنما لا يقال الذين أنعمت عليهم غير الذين غضبت عليهم مراعاة للأدب في الخطاب واختياراً لحسن اللفظ المستطاب وفي تفسير العياشيرحمه الله روى محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته عن قولـه تعالى: { { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي وَٱلْقُرْآنَ ٱلْعَظِيمَ } [الحجر: 87] قال فاتحة الكتاب يثني فيها القول قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى منَّ عليَّ بفاتحة الكتاب من كنز الجنة فيها بسم الله الرحمن الرحيم الآية التي يقول الله فيها: { وإِذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفوراً } [الأسراء: 46]" و{ الحمد لله رب العالمين } دعوى أهل الجنة حين شكروا لله حسن الثواب ومالك يوم الدين قال جبرائيل عليه السلام ما قالها مسلم إلا صدّقه الله تعالى وأهل سمائه إِياك نعبد إخلاص للعبادة وإِياك نستعين أفضل ما طلب به العباد حوائجهم اهدنا الصراط المستقيم صراط الأنبياء وهم الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم اليهود ولا الضالين النصارى. وروى محمد الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه كان يقرأ مَلك يوم الدين ويقرأ اهدنا صراط المستقيم وفي رواية أخرى يعني أمير المؤمنين (ع) وروى جميل عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا كنت خلف إمام ففرغ من قراءة الفاتحة فقل أنت من خلفه الحمد لله رب العالمين. وروى فضيل بن يسار عنه عليه السلام قال: إِذا قرأت الفاتحة ففرغت من قراءتها فقل الحمد لله رب العالمين.
النظم: وأما نظم هذه السورة فأقول فيه: إن العاقل المميز إذا عرف نعم الله سبحانه بالمشاهدة وكان له من نفسه بذلك أعدل شاهد وأصدق رائد ابتدأ بآية التسمية استفتاحاً باسم المنعم واعترافاً بآلهيته واسترواحاً إلى ذكر فضله ورحمته, ولما اعترف بالمنعم الفرد اشتغل بالشكر له والحمد فقال الحمد لله, ولمَّا رأى نعم الله تعالى على غيره واضحة كما شاهد آثارها على نفسه لائحة عرف أنه رب الخلائق أجمعين فقال رب العالمين ولما رأى شمول فضله للمربوبين وعموم رزقه للمرزوقين قال الرحمن لما رأى تقصيرهم في واجب شكره وتعذيرهم في الانزجار عند زجره واجتناب نهيه وامتثال أمره وأنه تعالى يتجاوز عنهم بالغفران ولا يؤاخذهم عاجلاً بالعصيان ولا يسلبهم نعمه بالكفران قال الرحيم ولما رأى ما بين العباد من التباغي والتظالم والتكالم والتلاكم وأن ليس بعضهم من شر بعض بسالم على أن وراءهم يوماً ينتصف فيه للمظلوم من الظالم فقال: مالك يوم الدين وإذا عرف هذه الجملة فقد علم أن له خالقاً رازقاً رحيماً يحيي ويميت ويبدئ ويعيد وهو الحيّ لا يشبهه شيء والإله الذي لا يستحق العبادة سواه ولما صار الموصوف بهذا الوصف كالمدرك له بالعيان المشاهد بالبرهان تحول عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب فقال: إياك نعبد وهذا كما أن الإنسان يصف الملك بصفاته فإِذا رآه عدل عن الوصف إلى الخطاب ولما رأى اعتراض الأهواء والشبهات وتعاور الآراء المختلفات ولم يجد معيناً غير الله تعالى سأله الإعانة على الطاعات بجميع الأسباب لها والوصلات فقال وإياك نستعين.
ولما عرف هذه الجملة وتبين له أنه بلغ من معرفة الحق المدى واستقام على منهج الهدى ولم يأمن العثرة لارتفاع العصمة سأل الله تعالى التوفيق للدوام عليه والثبات والعصمة من الزلات فقال اهدنا الصراط المستقيم وهذا لفظ جامع يشتمل على مسألة معرفة الأحكام والتوفيق لاقامة شرائع الاسلام والاقتداء بمن أوجب الله طاعته من أئمة الأنام واجتناب المحارم والآثام وإِذا علم ذلك علم أن لله سبحانه عباداً خصَّهم بنعمته واصطفاهم على بريّته وجعلهم حججاً على خليقته فسأله أن يلحقه بهم ويسلك به سبيلهم وأن يعصمه عن مثل أحوال الزالين المزلين والضالين المضلين ممن عاند الحق وعمي عن طريق الرشد وخالف سبيل القصد فغضب الله عليه ولعنه وأعد له الخزي المقيم والعذاب الأليم أو شك في واضح الدليل فضلَّ عن سواء السبيل فقال صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.