التفاسير

< >
عرض

فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَـٰؤُلاۤءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ
١٠٩
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ فَٱخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ
١١٠
وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
١١١
فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
١١٢
-هود

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أبو جعفر وابن عامر وحمزة وحفص وإنَّ كُلاًّ لمَا بتشديد النون والميم وقرأ أهل البصرة والكسائي وخلف وإِنَّ كُلاًّ بتشديد النون لَما بتخفيف الميم وقرأ نافع وابن كثير وإِنْ كُلاًّ خفيفة النون لَما خفيفة الميم وقرأ أبو بكر عن عاصم وإن كلا خفيفة النون لَمّا مشددة الميم وفي الشواذ قراءة الزهري وسليمان بن أرقم لمَّا بالتنوين وقراءة ابن مسعود وإن كلُّ بالرفع إلا ليوفينهم.
الحجة: قال أبو علي من قرأ { وإنَّ كلا } لَما بتشديد إنَّ وتخفيف لما فوجهه بَيِّنٌ وهو أنه نصب كلا بأن وأن يقتضي أن يدخل على خبرها أو اسمها لام فدخلت هذه اللام وهي لام الابتداء على الخبر في قولـه { لما } وقد دخلت في الخبر لام الأخرى وهي التي تلقي بها القسم ويختص بالدخول على الفعل ويلزمها في أكثر الأمر إحدى النونين فلما اجتمعت اللامان واتفقتا في تلقي القسم واتفقتا في اللفظ فصِّل بينهما بما كما فَصّلوا بين إن واللام فدخلت ما لهذا المعنى وإن كانت زائدة لتفصل كما جلبت النون وإن كانت زائدة في نحو وأما تَرَيِنَّ من البشر أحداً وكما صارت عوضاً من الفعل في قولهم إمَّا لا بالإمالة وفي قولـه:

أَبــا خُراشَةَ أَمّا أَنْت ذَا نَفَرٍ فَإِنَّ قَوْمِيَ لَمْ يَأْكُلْهُمُ الضَّبُعُ

ويلي هذا الوجه في البيان قول من خفف إنّ ونصب كلا وخفف لما قال سيبويه حدثنا من نثق به أنه سمع من العرب من يقول: إن عمراً لمنطلق قال: وأهل المدينة يقرؤون وإن كلا لما جميع لدينا محضرون يخففون وينصبون كما قالوا:

كَـــأَنْ ثَــدْيـيْــــهِ حـقَّـــــــانِ

ووجه النصب بها مع التخفيف من القياس أن أن مشبهة في نصبها بالفعل والفعل يعمل محذوفاً كما يعمل غير محذوف وذلك في نحو لم يك زيد منطلقاً { فلا تك في مرية } وكذلك لا أدر فأما من خفف أن ونصب كلا وثقل لما فقراءته مشكلة وذلك أن إِنَّ نصب بها وإن كانت مخففة كانت بمنزلتها مثقلة ولما إذا شددت كانت بمنزلة إلا، وكذلك قراءة من شدَّد لما وثقل أن مشكلة وذلك أن إنَّ إذا ثقلت وإذا خففت ونصب بها فهي في معنى الثقيلة فكما لا يحسن تثقيل ان زيداً إلا منطلق كذلك لا يحسن تثقيل إن وتثقيل لما فأما مجيء لما في قولهم نشدتك الله لما فعلت وإلا فعلت فقال الخليل: الوجه لتفعلن كما تقول أقسمت عليك لتفعلن، وأما دخول إلا ولما فلأن المعنى الطلب فكأنه أراد ما أسألك إلا فعل كذا ولم يذكر حرف النفي في اللفظ وإن كان مراداً كما جاء في قولهم شرّاً هرَّ ذا ناب أي ما أهرَّه إلا شر وليس في الآية معنى نفي ولا طلب فإن قال قائل لمن ما فأدغم النون في الميم بعد ما قلبها ميماً فإن ذلك لا يسوغ ألا ترى أن الحرف المدغم إذا كان قبله ساكن نحو قول مالك لم يقو الإدغام فيه على أن يُحَرِّك الساكن الذي قبل الحرف المدغم فإذا لم يجز ذلك فيه وكان التغيير أسهل من الحذف فإن لا يجوز الحذف الذي هو أذهب في باب التغيير من تحرك الساكن أجرد على أن في هذه السورة ميمات اجتمعت في الإدغام أكثر مما كان يجتمع في لمن ما ولم يحذف منها شيء وذلك قوله { على أمم ممن معك } [هود: 48] فإذا لم يحذف شيء من هذا فإن لا يحذف ثم أجدر وقد روي أنه قد قرأ وإن كلا لماً منوناً كما قال وتأكلون التراث أكلاً لمّاً فوصف بالمصدر فإن قال أن لما فيمن ثقل إنما هو لما هذه وقف عليها بالألف ثم أجري في الوصل مجرى الوقف فذلك مما يجوز في الشعر ووجه الإشكال فيه أبين من هذا الوجه.
وقد حكي عن الكسائي أنه قال لا أعرف وجه التثقيل في لما ولم يُبْعِد فيما قال ولو خفف مخفف أن ورفع كلا بعدها لجاز تثقيل لما مع ذلك على أن يكون المعنى ما كُلٌّ إلاّ ليوفينهم فيكون ذلك كقولـه
{ { وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا } [الزخرف: 35] ولكان ذلك أبين من النصب في كل والتثقيل لِلمّا وينبغي أن يقدر المضاف إليه كلُّ نكرةً ليحسن وصفه بالنكرة ولا يقدر إضافته إلى معرفة فيمتنع أن يكون لما وصفاً له ولا يجوز أن يكون حالاً لأنه لا شيء في الكلام عاملاً في الحال هذا كله كلام أبي علي وقال غيره في معنى لما بالتشديد أربعة أوجه:
أحدها: قول الفراء: أنها بمعنى لمن ما فحذفت إحدى الميمات الثلاث على ما تقدم ذكره وأنشد الفراء:

وَإِنّي لَمّا أَصْدَر الأَمْرَ وَجْهَهُ إِذا هُوَ أعْيا بِالسَّبيلِ مَصادِرُهُ

والثاني: أنها بمعنى إلا كقولهم سألتك لما فعلت بمعنى إلا فعلت عن الزجاج وقال الفراء: هذا لا يجوز إلا في اليمين كما قاله أبو علي.
والثالث: أنها مخففة شدّدت للتأكيد عن المازني قال الزجاج: هذا لا يجوز لأنه إنما يجوز تخفيف المشدد عند الضرورة فأما تشديد المخفف فلا يجوز بحال.
والرابع: أنها من لممت الشيء إذا جمعته إلا أنها بنيت على فعلى فلم تصرف مثل تترى فكأنه قال وإن كلا جميعاً ليوفينهم ويدل عليه قراءة الزهري لمّاً بالتنوين وقال ابن جني تقديره هذا وإن كلا ليوفينهم ربك أعمالهم لمَّا أي توفية جامعة لأعمالهم جميعاً ومحصلاً لأعمالهم تحصيلاً فهو كقولك قياماً لأقومن وذكر الشيخ علي ابن أبي الطيب رحمة الله عليه فيه وجهاً آخر فقال ها هنا محذوف وتقديره وإن كلا لما عملوا ليوفينهم ربك أعمالهم والحذف في الكلام كثير قال الشاعر:

إِذا قُلْـتُ سيـرُوا إِنَّ لَيْلـى لَعَلَّـها جَرى دُونَ لَيْلَى مائِلُ القَرْنِ أَعْضَبُ

والمراد لعلها تلقاني أو تصلني أو نحو هذا فهذا وجه خامس فأما إذا خففت إن فانتصاب كلا مع حمل أن على النفي مشكل وقد ذكر فيه أن يكون التقدير وإن هم إلا ليوفينّهم كلا أو وإن هم أعني كلا إلا ليوفينّهم وهذان الوجهان مرغوب عنهما وعلى الجملة فإن تشديد الميم من لما مع تشديد إن وتخفيفه مشكل عند المحققين إذ لا يتأتى في لما هذه معنى لم ولا معنى الحين ولا معنى إلا ولا يعرف لها معنى سوى هذه ومن قرأ وإن كل إلا ليوفينهم فمعناه ما كل إلا والله ليوفينهم كقولك ما زيد إلا لأضربنه أي ما زيد إلا مستحق لأن يقال فيه هذا ويجوز أن يكون مخففة من الثقيلة وإلا زائدة كما في قول الشاعر:

أَرَى الدَّهْرَ إلاَّ مَنْجَنُوناً بِأَهْلِهِوَما طالِبُ الحاجاتِ إلاّ مُعَلَّلا

أي أرى الدهر منجنوناً بأهله وعلى ذلك تأوّلوا بيت ذي الرمة:

حَـراجِيجُ مــا تَنْفَــكُّ إلاَّ مُنـاخَـةً عَلَى الخَسْفِ أَوْ يَرْمي بِها بَلَداً قَفْراً

أي ما تنفك مناخة وإلا زائدة.
اللغة: المِرْية بكسر الميم وضمّها الشك مع ظهور الدلالة للتهمة وهي مأخوذة من مرى ضرع الناقة ليدر بعد دروره والنصيب الحظ وهو القسم المجعول له ومنه انصباء الورثة والاختلاف ذهاب كل واحد إلى جهة غير جهة الآخر وهو على وجهين اختلاف النقيضين وهذا لا يجوز أن يصحا معاً فإن أحدهما مبطل لصاحبه والآخر اختلاف الجنسين كاختلاف المجتهدين في جهة القبلة فهذا يجوز أن يصحا معاً والاستقامة الاستمرار في جهة واحدة وأن لا يعدل يميناً وشمالاً والطغيان تجاوز المقدار في الفساد.
الإعراب: { ومن تاب } موصول وصلة في موضع رفع بالعطف على الضمير المستكن في استقم ويجوز أن يكون معطوفاً على التاء من أمرت ويكون التقدير في الأول استقم أنت ومن تاب معك وفي الثاني كما أمرت أنت ومن تاب معك ويجوز أن يكون من تاب منصوب الموضع بكونه مفعولاً معه.
المعنى: { فلا تك في مرية } أي في شك { مما يعبد هؤلاء } من دون الله تعالى أنه باطل وأنهم يصيرون بعبادتهم إلى عذاب النار { ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل } يعني ما يعبدون غير الله تعالى إلا على جهة التقليد كما كان آباؤهم كذلك { وإنا لموفوهم نصيبهم } أي إنا لمعطوهم جزاء أعمالهم وعقاب أعمالهم وافياً { غير منقوص } عن مقدار ما استحقُّوه آيَسَهم سبحانه بهذا القول عن العفو. وقيل: معناه إنا نعطيهم ما يستحقونه من العقاب بعد أن نوفيهم ما حكمنا لهم به من الخير في الدنيا عن ابن زيد.
{ ولقد آتينا } أي أعطينا { موسى الكتاب } يعني التوراة { فاختلف فيه } يريد أن قومه اختلفوا فيه أي في صحة الكتاب الذي أنزل عليه وأراد بذلك تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب قومه إياه وجحدهم للقرآن المنزل عليه فبيَّن أن قوم موسى كذلك فعلوا بموسى فلا تحزن لذلك ولا تغتم له { ولولا كلمة سبقت من ربك } أي لولا خبر الله السابق بأنه يؤخّرَ الجزاء إلى يوم القيامة لما علم في ذلك من المصلحة { لقضي بينهم } أي لعجَّل الثواب والعقاب لأهله. وقيل: معناه لفصل الأمر على التمام بين المؤمنين والكافرين بنجاة هؤلاء وهلاك أُولئك { وإنهم لفي شك منه مريب } يعني أن الكافرين لفي شك من وعد الله ووعيده مريب والريب أقوى الشك. وقيل: معناه إن قوم موسى لفي شك من نبوته.
{ وإن كلاًّ } من الجاحدين والمخالفين. وقيل: إن كل من الفريقين المصدق والمكذب جميعاً { لما ليوفينّهم ربك أعمالهم } أي يعطيهم ربك جزاء أعمالهم وافياً تاماً إن خيراً فخيرٌ وإن شرّاً فشرٌّ { إنه بما يعملون خبير } يعني أنه عليم بأعمالكم وبما استحققتم من الجزاء عليها لا يخفى عليه شيء من ذلك.
{ فاستقم } يا محمد { كما أمرت } أي استقم على الوعظ والإنذار والتمسك بالطاعة والأمر بها والدعاء عليها والاستقامة هو أداء المأمور به والانتهاء عن المنهي عنه كما أمرت في القرآن { ومن تاب معك } أي وليستقم من تاب معك من الشرك كما أمروا عن ابن عباس. وقيل: معناه ومن رجع إلى الله وإلى نبيه فليستقم أيضاً أي، فليستقم المؤمنون. وقيل: استقم أنت على الأداء وليستقيموا على القبول { ولا تطغوا } أي لا تجاوزوا أمر الله بالزيادة والنقصان فتخرجوا عن حد الاستقامة. وقيل: معناه ولا تطغينكم النعمة فتخرجوا عن حد الاستقامة عن الجبائي. وقيل: معناه لا تعصوا الله ولا تخالفوه { إنه بما تعملون بصير } أي عليم بأعمالكم لا تخفى عليه منها خافية وروى الواحدي بإسناده عن إبراهيم بن أدهم عن مالك بن دينار عن أبي مسلم الخولاني عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا وصمتم حتى تكونوا كالأوتاد ثم كان الاثنان أحب إليكم من الواحد لم تبلغوا حدّ الاستقامة" . وقال ابن عباس: ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية كانت أشدُّ عليه ولا أشقّ من هذه الآية ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له أسرع إليك الشيب يا رسول الله: "شيّبتني هود والواقعة" .
النظم: وجه إتصال الآية الأولى بما قبلها أنه لما قصَّ نبأ الأمم وإهلاكهم بكفرهم أخبر عقيب ذلك عن بطلان ما كانوا عليه وأنه يوفيهم جزاء أعمالهم. وقيل: إنه سبحانه بيَّن فيما قبل اختلاف الأمم على أنبيائهم تكذيباً لهم ثم بيَّن في هذه الآية أن خلاف هؤلاء كخلاف أولئك خلاف كفر لا خلاف اجتهاد عن أبي مسلم وكذلك اتصال الآية الثانية فإنه بيَّن فيها أن تكذيب هؤلاء الكفار بالذي آتيناك كتكذيب أولئك بالكتاب الذي آتيناه موسى.