التفاسير

< >
عرض

وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ
٦
وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ ٱلْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ
٧
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ
٨
-هود

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: الدابة الحيُّ الذي من شأنه أن يدُبَّ وقد صار في العرف مختصاً بنوع من الحيوان وقد ورد القرآن بها على الأَصل في قوله { وما من دابة } { { والله خلق كل دابة } [النور: 45].
الإِعراب: اللام في قولـه { لئن } لام القسم ولا يجوز أن يكون لام الابتداء لأَنها دخلت على أن التي للجزاء ولام الابتداء إنما هي للاسم أو ما ضارع الاسم في باب أن وجواب الجزاء مستغنى عنه بجواب القسم لأَنه إذا جاء في صدر الكلام غلب عليه كما أنه إذا تأخر وتوسط الغي و { يوم يأتيهم } نصب على الظرف من مصروف أي ليس يصرف العذاب عنهم يوم يأتيهم العذاب.
المعنى: { وما من دابة في الأرض } أي ليس من دابة تدبُّ على وجه الأَرض ويدخل فيه جميع ما خلقه الله تعالى على وجه الأَرض من الجن والإِنس والطير والأَنعام والوحوش والهوام { إلا على الله رزقها } أي إلا والله سبحانه يتكفل برزقها ويوصله إليها على ما تقتضيه المصلحة وتوجبه الحكمة { ويعلم مستقرها ومستودعها } أي يعلم موضع قرارها والموضع الذي أودعها فيه وهو أصلاب الآباء وأرحام الأَمهات عن مجاهد. وقيل: { مستقرها } حيث تأوي إليه من الأَرض { ومستودعها } حيث تموت وتبعث منه عن ابن عباس والربيع. وقيل: { مستقرها } ما يستقر عليه عملها { ومستودعها } ما يصير إليه { كل في كتاب مبين } هنا إخبار منه سبحانه أن جميع ذلك مكتوب في كتاب ظاهر وهو اللوح المحفوظ وإنما أثبت سبحانه ذلك مع أنه عالم لذاته لا يعزب عن علمه شيء من مخلوقاته لما فيه من اللطف للملائكة أو لمن يخبر بذلك.
{ وهو الذي خلق السماوات والأَرض في ستة أيام } هذا إخبار منه سبحانه عن نفسه بأنه أنشأهما في هذا المقدار من الزمان مع قدرته على أن يخلقهما في مقدار لمح البصر والوجه في ذلك أنه سبحانه أراد أن يبين بذلك أن الأُمور جارية في التدبير على منهاج الحكمة منشأة على ترتيب لما في ذلك من المصلحة والمراد بقوله { ستة أيام } ما مقداره مقدار ستة أيام لأَنه لم يكن هناك أيام بعد فإن اليوم عبارة عما بين طلوع الشمس وغروبها { وكان عرشه على الماء } في هذا دلالة على أن العرش والماء كانا موجودين قبل خلق السموات والأَرض وكان الماء قائماً بقدرة الله تعالى على غير موضع قرار بل كان الله يمسكه بكمال قدرته وفي ذلك أعظم الاعتبار لأَهل الانكار. وقيل: إن المراد بقوله عرشه بناؤه يدل عليه قوله:
{ { ومما يعرشون } [النحل: 68] أي يبنون والمعنى وكان بناؤه على الماء فإن البناء على الماء أبدع وأعجب عن أبي مسلم.
{ ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } معناه أنه خلق الخلق ودبَّر الأُمور ليظهر إحسان المحسن فإنه الغرض في ذلك أي ليعاملكم معاملة المبتلي المختبر لئلا يتوهم أنه سبحانه يجازي العباد على حسب ما في معلومه أنه يكون منهم قبل أن يفعلوه وفي قوله { أحسن عملاً } دلالة على أنه قد يكون فعل حسن أحسن من حسن آخر لأَن حقيقة لفظة أفعل يقتضي ذلك { ولئن قلت } يا محمد لهم { إِنكم مبعوثون من بعد الموت } للحساب والجزاء { ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين } أي ليس هذا القول إلا تمويه ظاهر لا حقيقة له ومن قرأ ساحر فالمراد ليس هذا يعنون النبي صلى الله عليه وسلم إلا ساحر قال الجبائي وفي الآية دلالة على أنه كان قبل خلق السماوات والأَرض والملائكة لأَن خلق العرش على الماء لا وجه لحسنه إلا أن يكون فيه لطف لمكلف يمكنه الاستدلال به فلا بد إذاً من حيّ مكلف وقال علي بن عيسى لا يمتنع أن يكون في الإِخبار بذلك مصلحة للمكلفين فلا يجب ما قاله الجبائي وهو الذي اختاره المرتضى قدس الله روحه.
{ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة } معناه ولئن أخرنا عن هؤلاء الكفار عذاب الاستئصال إلى أجل مسمى ووقت معلوم والأمة الحين كما قال سبحانه
{ وادَّكر بعد أمة } [يوسف: 45] وهو قول ابن عباس ومجاهد. وقيل: { إلى أمة } أي إلى جماعة يتعاقبون فيصرُّون على الكفر ولا يكون فيهم من يؤمن كما فعلنا بقوم نوح عن علي بن عيسى. وقيل: معناه إلى أمة بعد هؤلاء نكلفهم فيعصون فتقتضي الحكمة إهلاكهم وإقامة القيامة عن الجبائي. وقيل: إن الأُمة المعدودة هم أصحاب المهدي (ع) في آخر الزمان ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً كعدة أهل بدر يجتمعون في ساعة واحدة كما يجتمع قزع الخريف وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام { ليقولن } على وجه الاستهزاء { ما يحبسه } أي أيَّ شيء يؤخر هذا العذاب عنا ان كان حقاً { ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم } أي إن هذا العذاب الذي يستبطنونه إذا نزل بهم في الوقت المقدور لا يقدر أحد على صرفه عنهم إذا أراد الله أن يأتيهم به ولا يتمكن من إذهابه عنهم إذا أراد الله أن يأتيهم به { وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون } أي ونزل بهم الذي كانوا يسخرون به من نزول العذاب ويحققونه.
النظم: وجه اتصال الآية الأُولى بما قبلها أنه لما قال سبحانه { يعلم ما يسرُّون وما يعلنون } قال عقيبه: وكيف يخفى على الله سرّ هؤلاء وهو يرزقهم وإذا وصل إلى كل واحد رزقه ولم ينسه فليعلم أنه يعلم سره وقوله { ويعلم مستقرها ومستودعها } يدلُّ على ما ذكرنا ثم زاده بياناً بقوله { وهو الذي خلق السماوات } الآية فإن أصل الخلق التقدير الذي لا يختل بالنقصان والزيادة وذلك لا يتم إلا من العالم لذاته.