التفاسير

< >
عرض

وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ ٱلآخَرُ إِنِّي أَرَانِيۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ
٣٦
قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ
٣٧
وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـيۤ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَيْءٍ ذٰلِكَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ
٣٨
-يوسف

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: قال الزجاج: كانوا يسمون المملوك فتى فجائز أن يكون الفتيان حدثين أو شيخين وقال غيره يقال للعبد فتى وللأمة فتاة وفي الحديث: "لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي ولكن فتاي وفتاتي" والتأويل الخبر عما حضر بما يؤول إليه أمره فيما غاب ولذلك. قال: قبل أن يأتيكما تأويل القرآن ما يؤول إليه من المعنى أي يرجع إليه والتعليم تفهيم الدلالة المؤدية إلى العلم بالمعنى وقد يكون الإعلام بالمعنى في القلب والاتباع اقتفاء الأثر وهو طلب اللحاق بالأول.
الإعراب: هم الثانية دخلت للتوكيد لأنه لما دخل بينهما قولـه { بالآخرة } صارت الأولى كالملغاة وصار الاعتماد على الثانية كما قال:
{ { وهم بالآخرة هم يوقنون } [لقمان: 4] وكما قال: { أيعدكم أنكم إذا متّم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون } [المؤمنون: 35].
المعنى: ثم أخبر سبحانه عن حال يوسف (ع) في الحبس فقال: { ودخل معه السجن فتيان } والتقدير فسجن يوسف ودخل معه السجن فتيان أي شابان حدثان. وقيل: إنهما مملوكان لملك مصر الأكبر واسمه وليد بن ريان وكان أحدهما صاحب شرابه والآخر صاحب طعامه فنمى إليه أن صاحب طعامه يريد أن يسمه وظن أن الآخر ساعده على ذلك ومالأه عليه عن قتادة والسدي { قال أحدهما إني أراني أعصر خمراً } هو من رؤيا المنام كان يوسف (ع) لما دخل السجن قال لأهله: إني أعبر الرؤيا فقال: أحد العبدين لصاحبه هلم فلنجرّبه فسألاه من غير أن يكونا رأياً شيئاً عن ابن مسعود. وقيل: بل رؤياهما على صحة وحقيقة ولكنهما كذبا في الإنكار عن مجاهد والجبائي.
وقيل: إن المصلوب منهما كان كاذباً والآخر صادقاً عن أبي مجلز ورواه علي بن إبراهيم أيضاً في تفسيره عنهم (ع) والمعنى قال أحدهما: وهو الساقي رأيت أصل حبلة عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجنيتها وعصرتها في كأس الملك وسقيته إياها وتقديره أعصر عنب خمر أي العنب الذي يكون عصيره خمراً فحذف المضاف قال الزجاج وابن الأنباري: العرب تسمي الشيء باسم ما يؤول إليه إذا وضح المعنى ولم يلتبس يقولون فلان يطبخ الآجر ويطبخ الدبس وإنما يطبخ اللبن والعصير. وقال قوم: إن بعض العرب يسمون العنب خمراً حكى الأصمعي عن المعتمر بن سليمان أنه لقي أعرابياً معه عنب فقال له ما معك قال خمر: وهو قول الضحاك فيكون معناه إني أعصر عنباً وروي في قراءة عبد الله وأبي جميعاً إني رأيتني أعصر عنباً.
{ وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه } معناه وقال صاحب الطعام: إني رأيت كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وألوان الأطعمة وسباع الطير تنهش منه { نبئنا بتأويله } أي أخبرنا بتعبيره وما يؤول إليه أمره { إنا نراك من المحسنين } أي تؤثر الإحسان والأفعال الجميلة قال الضحاك: كان إذا ضاق على رجل مكانه وسع له وإن احتاج جمع له وإن مرض قام عليه وهو المروي عن أبي عبد الله (ع). وقال الزجاج: جاء في التفسير أنه كان يعين المظلوم وينصر الضعيف ويعود العليل قال. وقيل: { من المحسنين } أي ممن يحسن تأويل الرؤيا. قال: وهذا دليل على أن أمر الرؤيا صحيح وأنها لم تزل في الأمم السالفة وفي الحديث
"إن الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة" وتأويله أن الأنبياء يخبرون بما سيكون والرؤيا تدل على ما سيكون فيكون المعنى في الآية أنا نعلمك أو نظنك ممن يعرف تعبير الرؤيا ومن ذلك قول أمير المؤمنين (ع): قيمة كل امرئ ما يحسنه وقال أبو مسلم: نراك من المحسنين إلينا إن فسرت لنا الرؤيا وهو قول ابن أبي إسحاق ثم ذكر لهما يوسف (ع) ما يدل على أنه عالم بتفسير الرؤيا.
{ قال لا يأتيكما طعام ترزقانه } في منامكما { إلا نبأتكما بتأويله } في اليقظة { قبل أن يأتيكما } التأويل وذلك أنه كره أن يخبرهما بالتأويل لما على أحدهما فيه من البلاء فأعرض عن سؤالهما وأخذ في غيره عن السدي وابن إسحاق. وقيل: إنه إنما قدم هذا ليعلما ما خصه الله تعالى به من النبوة وليقبلا عنه فقال: لا يأتيكما طعام من منزلكما إلا أخبرتكما بصفة ذلك الطعام وكيفيته قبل أن يأتيكما كما قال عيسى بن مريم (ع):
{ وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } [آل عمران: 49] عن الحسن والجبائي.
{ ذلكما مما علمني ربي } كأنهما قالا له: كيف عرفت تأويل الرؤيا ولست بكاهن ولا عراف فأخبرهما أنه رسول الله وأنه تعالى علَّمه ذلك وتعليمه تعالى قد يكون بأن يفعل العلم في قلبه وقد يكون بالوحي وقد يكون بنصب الأدلة التي يدرك بها العلم { إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون } معناه أنه لا يستحق هذه الرتبة الخطيرة إلا المؤمنون المخلصون واني تركت طريقة قوم لا يؤمنون فلذلك خصني الله بهذه الكرامة { واتبعت ملة آبائي } أي شريعة آبائي { إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء } أي لا ينبغي لنا ونحن معدن النبوة وأهل بيت الرسالة أن ندين بغير التوحيد { ذلك } أي التمسك بالتوحيد والبراءة من الشرك. وقيل: النبوة والعلم { من فضل الله علينا } بأن خصَّنا بها وعلى الناس أيضاً بإرسالنا إليهم واتباعهم إيانا واهتدائهم بنا.
{ ولكن أكثر الناس لا يشكرون } نعم الله تعالى وقد كان يوسف (ع) فيما بينهم زماناً ولم يحك الله سبحانه أنه دعا إلى الدين وكانوا يعبدون الأصنام لأنه لم يطمع منهم في الاستماع والقبول فلما رآهم عارفين بإحسانه مقبلين عليه رجا منهم القبول منه فدعاهم إلى التوحيد على ما أمر الله سبحانه له في قولـه
{ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } [النحل: 125] وقد روي أن صاحبي السجن قالا له: لقد أحببناك حين رأيناك فقال: لا تحباني فوالله ما أحبني أحد إلا دخل عليَّ من حبه بلاء أحبَّتني عمتي فنسبت إليَّ السرقة وأحبَّني أبي فألقيت في الجب وأحبَّتني امرأة العزيز فألقيت في السجن.