التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ
٥٤
قَالَ ٱجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ
٥٥
وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ
٥٦
وَلأَجْرُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ
٥٧
-يوسف

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ ابن كثير حيث نشاء بالنون والباقون بالياء.
الحجة: قال أبو علي من قرأ بالياء فيشاء مسند إلى الغائب كما أن يتبوء كذلك ويقوي ذلك قوله
{ { وأورثنا الجنة نتبوأ منها حيث نشاء } [الزمر: 74] فكما أن قولـه { نشاء } وفق لفعل المتبوئين كذلك قوله { حيث يشاء } وفق لقوله: { يتبوأ } ومن قرأ بالنون فإنه على أحد وجهين إما أن يكون أسند المشيئة إليه وهو ليوسف في المعنى لأن مشيئته لما كانت بقوته واقداره عليه جاز أن ينسب إلى الله وإن كانت ليوسف في المعنى كما قال سبحانه { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } [الأنفال: 17] فأضيف الرمي إلى الله لما كان بقوته وإن كان الرمي للنبي صلى الله عليه وسلم والآخر أن يكون الموضع المتبوأ موضع نسك وقرب فالمكث فيه قربة إلى الله تعالى فهو يشاؤه ويريده فأما اللام في قولـه: { مكنَّا ليوسف } وقوله: { { إنا مكنا له في الأرض } [الكهف: 84] فيجوز أن يكون على حد التي في قولـه: { { ردف لكم } } [النمل: 72] و { للرؤيا تعبرون } [يوسف: 43] يدل على ذلك قولـه: { ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه } [الأحقاف: 26] وقولـه: { يتبوأ } في موضع نصب على الحال تقديره مكَّناه متبوءاً حيث يشاء وأما قولـه: { حيث يشاء } فيحتمل موضعه أمرين أحدهما أن يكون في موضع نصب بأنه ظرف والآخر أن يكون في موضع نصب بأنه مفعول به ويدل على جواز هذا الوجه قول الشماخ:

وَحَلاَّّءَهـا عَــنْ ذِي الأَراكَـةِ عامِـرٌأَخُو الخَضْرِ يَرْضى حَيْثُ تَكْبُو النَّواحِزُ

اللغة: الاستخلاص طلب خلوص الشيء من شائب الاشتراك كأنه يريد أن يكون خالصاً له وفي حديث سلمان الفارسي (رض) أنه كاتبه أهله على أربعين أوقية خلاص أي ما أخلصته النار من الذهب وكذلك الخلاصة، والمكين من المكانة وأصله التمكن في الأمر يقال مكن مكانة فهو مكين إذا كان له قدر وجاه يتمكن بهما مما يروم والتبوء اتخاذ منزل يرجع إليه وأصله من باء يبوء إذا رجع.
المعنى: { وقال الملك ائتوني به } معناه أن الملك لما تبيَّن له أمانة يوسف وبراءته من السوء وعمله أمر بإحضاره فقال ائتوني به: { أستخلصه لنفسي } أي أجعله خالصاً لنفسي أرجع إليه في تدبير مملكتي وأعمل على إشارته في مهمات أموري { فلما كلَّمه } ههنا حذف معناه فلما جاء الرسول يوسف ودعاه خرج من السجن ودخل على الملك وكلَّمه وعرف فضله وأمانته وعقله لأنه استدل بكلامه على عقله وبعفته على أمانته { قال إنك اليوم لدينا مكين أمين } أي أنك عندنا ذو مكانة متمكن في المنزلة والقدر نافذ القول والأمر ظاهر الأمانة مأمون ثقة. قال: ابن عباس يريد مكنتك من ملكي وجعلت سلطانك فيه كسلطاني وائتمنتك فيه قال الكلبي: إن رسول الملك جاءه فقال له: قم فإن الملك يدعوك وألق ثياب السجن عنك والبس ثياباً جدداً فأقبل يوسف وتنظف من درن السجن ولبس ثيابه وأتى الملك وهو يومئذٍ ابن ثلاثين سنة فلما رآه الملك شاباً حدث السن قال يا غلام هذا تأويل رؤياي ولم يعلمه السحرة ولا الكهنة قال: نعم فأقعده قدامه وقصَّ عليه رؤياه.
وروي أن يوسف لما خرج من السجن دعا لأهله. وقال: اللهم اعطف عليهم بقلوب الأخيار ولا تعمّ عليهم الأخبار فلذلك يكون أصحاب السجن أعرف الناس بالأخبار في كل بلدة وكتب على باب السجن هذا قبور الأحياء وبيت الأحزان وتجربة الأصدقاء وشماتة الأعداء.
قال وهب: ولما وقف بباب الملك قال: حسبي ربي من دنياي وحسبي ربي من خلقه عز جاره وجل ثناؤه ولا إله غيره. ولما دخل على الملك قال اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بك من شّره وشرّ غيره ولما نظر إليه الملك سلَّم عليه يوسف بالعربية فقال له الملك ما هذا اللسان. قال: لسان عمي إسماعيل ثم دعا له بالعبرانية فقال له الملك ما هذا اللسان قال لسان آبائي.
قال وهب: وكان الملك يتكلم بسبعين لساناً فكلما كلم يوسف بلسان أجابه بذلك اللسان فأعجب الملك ما رأى منه فقال له: إني أحب أن أسمع رؤياي منك شفاهاً فقال يوسف نعم أيها الملك رأيت سبع بقرات سمان شهب غرّ حسان كشف لك عنهن النيل فطلعن عليك من شاطئه تشخب أخلافهن لبناً فبينا تنظر إليهن ويعجبك حسنهن إذ نضب النيل فغار ماؤه وبدا يبسه فخرج من حمئه ووحله سبع بقرات عجاف شعث غبر مقلصات البطون ليس لهن ضروع ولا أخلاف ولهن أنياب وأضراس وأكف كأكف الكلاب وخراطيم كخراطيم السباع فاختلطن بالسمان فافترستهن افتراس السبع فأكلن لحومهن ومزقن جلودهن وحطمن عظامهن وتمششن مخهن فبينا أنت تنظر وتتعجب إذا سبع سنابل خضر وأخر سود في منبت واحد عروقهن في الثرى والماء فبينا أنت تقول في نفسك أنَّى هذا وهؤلاء خضر مثمرات وهؤلاء سود يابسات والمنبت واحد وأصولهن في الماء إذ هبَّت ريح فذرت الأرفات من اليابسات السود على الثمرات الخضر فاشتعلت فيهن النار وأحرقتهن وصرن سوداً متغيرات فهذا آخر ما رأيت من الرؤيا ثم انتبهت من نومك مذعوراً.
فقال الملك: والله ما شأن هذه الرؤيا وإن كانت عجباً بأعجب مما سمعته منك فما ترى في رؤياي أيها الصديق فقال يوسف أرى أن تجمع الطعام وتزرع زرعاً كثيراً في هذه السنين المخصبة وتبني الأهراء والخزائن فتجمع الطعام فيها بقصبه وسنبله ليكون قصبه وسنبله علفاً للدواب وتأمر الناس فيرفعون من طعامهم الخمس فيكفيك من الطعام الذي جمعته لأهل مصر ومن حولها ويأتيك الخلق من النواحي فيمتارون منك بحكمك ويجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد ذلك فقال الملك ومن لي بهذا ومن يجمعه ويبيعه ويكفي الشغل فيه؟ فعند ذلك { قال } يوسف: { اجعلني على خزائن الأرض } الألف واللام فرب الأرض للعهد دون الجنس يعني اجعلني على خزائن أرضك حافظاً ووالياً واجعل تدبيرها إليَّ: فـ { إني حفيظ } أي حافظ لما استودعتني لحفظه عن أن تجري فيه خيانة { عليم } بمن يستحق منها شيئاً ومن لا يستحق فأضعها مواضعها عن قتادة وابن إسحاق والجبائي. وقيل: حفيظ عليم أي كاتب حاسب عن وهب. وقيل: حفيظ للتقدير في هذه السنين الجدبة عليم بوقت الجوع حين يقع عن الكلبي. وقيل: حفيظ للحساب عالم بالألسن وذلك أن الناس يفدون من كل ناحية ويتكلمون بلغات مختلفة عن السدي وفي هذا دلالة على أنه يجوز للإنسان أن يصف نفسه بالفضل عند من لا يعرفه فإنه عرف الملك حاله ليقيمه في الأمور التي في إيالتها صلاح العباد والبلاد ولم يدخل بذلك تحت قوله سبحانه:
{ فلا تزكوا أنفسكم } [النجم: 32] قالوا فقال الملك ومن أحق به منك فولاه ذلك.
وقيل: إن الملك الأكبر فوض إليه أمر مصر ودخل بيته وعزل قطفير وجعل يوسف مكانه. وقيل: أن قطفير هلك في تلك الليالي فزوج الملك يوسف راعيل امرأة قطفير العزيز فدخل بها يوسف فوجدها عذراء ولما دخل عليها قال أليس هذا خيراً مما كنت تريدين وولدت له أفرائيم وميشا واستوثق ليوسف ملك مصر. وقيل: إنه لم يتزوجها يوسف وأنها لما رأته في موكبه بكت وقالت الحمد لله الذي جعل الملوك بالمعصية عبيداً والعبيد بالطاعة ملوكاً فضمَّها إليه وكانت من عياله حتى ماتت عنده ولم يتزوجها.
وفي تفسير علي بن إبراهيم بن هاشم قال لما مات العزيز وذلك في السنين الجدبة افتقرت امرأة العزيز واحتاجت حتى سألت الناس فقالوا لها: ما يضرك لو قعدت للعزيز وكان يوسف يسمى العزيز وكل ملك كان لهم سموه بهذا الاسم فقالت: أستحي منه فلم يزالوا بها حتى قعدت له فأقبل يوسف في موكبه فقامت إليه زليخا وقالت: سبحان من جعل الملوك بالمعصية عبيداً والعبيد بالطاعة ملوكاً فقال لها يوسف: أأنت تيك قالت: نعم وكان اسمها زليخا فقال لها: هل لك فيَّ قالت: دعني بعدما يئست أتهزأ بي قال: لا قالت: نعم قال: فأمر بها فحوّلت إلى منزله وكانت هرمة فقال لها يوسف: ألست فعلت بي كذا وكذا قالت يا نبي الله لا تلمني فإني بليت في بلاء لم يبل به أحد قال: وما هو قالت: بليت بحبك ولم يخلق الله لك نظيراً في الدنيا وبليت بأنه لم تكن بمصر امرأه أجمل مني ولا أكثر مالاً مني وبليت بزوج عنين فقال لها يوسف: فما حاجتك قالت تسأل الله أن يرد عليَّ شبابي فسأل الله فردَّ عليها فتزوجها وهي بكر.
وروي عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لولاه من ساعته ولكنه أخّر ذلك سنة" قال ابن عباس: فأقام في بيت الملك سنة فلما انصرمت السنة من يوم سأل الإمارة دعاه الأمير فتوَّجه ورداه بسيفه وأمر بأن يوضع له سرير من ذهب مكلل بالدر والياقوت ويضرب عليه كلة من استبرق ثم أمره أن يخرج متوَّجاً لونه كالثلج ووجهه كالقمر يرى الناظر وجهه في صفاء لون وجهه فانطلق حتى جلس على السرير ودانت له الملوك فعدل بين الناس فأحبه الرجال والنساء وذلك قولـه عز اسمه { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض } أي ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه أقدرنا يوسف على ما يريد في الأرض يعني أرض مصر { يتبوأ منها حيث يشاء } أي يتصرف فيها حيث يشاء وينزل منها حيث يشاء { نصيب برحمتنا من نشاء } أي نخصُّ بنعم الدين والدنيا من نشاء { ولا نضيع أجر المحسنين } أي المطيعين. وقيل: الصابرين عن ابن عباس. وقيل: إنه دعا الملك إلى الإسلام فأسلم عن مجاهد وغيره. قالوا: وأسلم أيضاً كثير من الناس فهذا في الدنيا.
{ ولأجر الآخرة } أي ثواب الآخرة { خير للذين آمنوا وكانوا يتقون } لخلوصه عن الشوائب والأقذار وفي هذه إشارة إلى أنه سبحانه يؤتي يوسف في الآخرة من الثواب والدرجات ما هو خير مما آتاه الله في الدنيا من الملك والنعمة.
(سؤال) قالوا: كيف جاز ليوسف أن يطلب الولاية من قبل الكفرة الظلمة؟ وجوابه: لأنه علم أنه يتمكن بذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووضع الحقوق مواضعها وقد جعل الله سبحانه جميع ذلك له من جهة كونه نبياً إماماً وكان يفعل ذلك من قبل الله تعالى وإنما سأل الولاية ليتمكن من الأمور التي له أن يفعلها وأيضاً فإنه علم أنه سبب يتوصل به إلى الدعاء إلى الخير وإلى رؤية والديه واخوته وفي الآية دلالة على أن ذلك التمكين والملك والتدبير كان بلطف الله سبحانه وفضله وفيها دلالة أيضاً على جواز تولي القضاء من جهة الباغي والظالم إذا يتمكن بذلك من إقامة أحكام الدين وفي قوله: { يتبوأ منها حيث يشاء } دلالة على أن تصرفه كان باختياره من غير رجوع إلى الملك وأنه صار بحيث لا أمر عليه.
وفي كتاب النبوة بالإسناد عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسن بن علي ابن بنت الياس قال: سمعت الرضا (ع) يقول: وأقبل يوسف على جمع الطعام فجمع في السبع السنين المخصبة فكبسه في الخزائن فلما مضت تلك السنون وأَقبلت المجدبة أقبل يوسف على بيع الطعام فباعهم في السنة الأولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق بمصر وما حولها دينار ولا درهم إلا صار في مملكة يوسف، وباعهم في السنة الثانية بالحلي والجواهر حتى لم يبق بمصر وما حولها حلي ولا جوهر إلا صار في مملكته، وباعهم في السنة الثالثة بالدواب والمواشي حتى لم يبق بمصر وما حولها دابة ولا ماشية إلا صارت في مملكته، وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والإماء حتى لم يبق بمصر عبد ولا أمة إلا صار في مملكته، وباعهم في السنة الخامسة بالدور والعقار حتى لم يبق بمصر وما حولها دار ولا عقار إلا صار في مملكته وباعهم في السنة السادسة بالمزارع والأنهار حتى لم يبق بمصر وما حولها نهر ولا مزرعة إلا صار في مملكته، وباعهم في السنة السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر وما حولها عبد ولا حر إلا صار عبد يوسف فملك أحرارهم وعبيدهم وأموالهم وقال الناس: ما رأينا ولا سمعنا بملك أعطاه الله من الملك ما أعطى هذا الملك حكماً وعلماً وتدبيراً.
ثم قال يوسف للملك: أَيها الملك ما ترى فيما خولني ربي من ملك مصر وأهلها أشر علينا برأيك فإني لم أصلحهم لأفسدهم ولم أنجهم من البلاء لأكون بلاء عليهم ولكن الله تعالى أنجاهم على يدي قال له الملك: الرأي رأيك قال يوسف: إني أشهد الله وأشهدك أيها الملك إني قد أعتقت أهل مصر كلهم ورددت عليهم أموالهم وعبيدهم ورددت عليك أيها الملك خاتمك وسريرك وتاجك على أن لا تسير إلا بسيرتي ولا تحكم إلا بحكمي قال له الملك إن ذلك لزيني وفخري أن لا أسير إلا بسيرتك ولا أحكم إلا بحكمك ولولاك ما قويت عليه ولا اهتديت له ولقد جعلت سلطاناً عزيزاً لا يرام وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك رسوله فأقم على ما ولّيتك فإنك لدينا مكين أمين.
وقيل: إن يوسف (ع) كان لا يمتلي شبعاً من الطعام في تلك الأيام المجدبة. فقيل له تجوع وبيدك خزائن الأرض فقال (ع) أخاف أن أشبع فأنسى الجياع.