التفاسير

< >
عرض

قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قُلِ ٱللَّهُ قُلْ أَفَٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي ٱلظُّلُمَاتُ وَٱلنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ ٱلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ ٱللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ
١٦
-الرعد

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل الكوفة غير حفص أم هل يستوي الظلمات بالياء والباقون بالتاء.
الحجة: من قرأ بالتاء فإنه مسند إلى مؤنث لم يفصل بينه وبين فاعله بشيء كقوله وقالت اليهود وقالت الأعراب وقد جاء في مثل ذلك التذكير كقوله:
{ وقال نسوة } [يوسف: 30] ومن قرأ بالياء فإنه مؤنث غير حقيقي.
المعنى: لما بيَّن سبحانه في الآية الأولى أنه المستحق للعبادة وأن له من في السماوات والأرض عقَّبه بما يجري مجرى الحجة على ذلك فقال { قل } يا محمد لهؤلاء الكفار { من رب السماوات والأرض } أي من مدبّرهما ومصرّفهما على ما فيهما من البدائع فإذا استعجم عليهم الجواب ولا يمكنهم أن يقولوا الأصنام { قل } أنت لهم رب السماوات والأرض وما بينهما من أنواع الحيوان والنباتات والجماد { الله } فإذا أقرُّوا بذلك.
{ قل } لهم على وجه التبكيت والتوبيخ لفعلهم { أفاتخذتم من دونه أولياء } توجهون عبادتكم إليهم فالصورة صورة الاستفهام والمراد به التقريع. ثم بيَّن أن هؤلاء الذين اتخذوهم من دونه أولياء { لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً } ومن لا يملك لنفسه ذلك فالأولى والأحرى أن لا يملك لغيره ومن كان كذلك فكيف يستحق العبادة. وإذا قيل كيف يكون هو السائل والمجيب والملزم بقولـه قل أفاتخذتم من دونه أولياء فالجواب أنه إذا كان القصد بالحجاج ما يُبيّنه من بعد لم يمتنع ذلك فكأنه قال الله الخالق فلماذا اتخذتم من دون الله أولياء لأن الأمر الظاهر الذي لا يجيب الخصم إلا به لا يمتنع أن يبادر السائل إلى ذكره.
ثم يورد الكلام عليه تفادياً من التطويل ويكون تقدير الكلام أليس الله رب السماوات والأرض فلم اتخذتم من دونه أولياء ثم ضرب لهم سبحانه مثلاً بعد إلزام الحجة فقال { قل هل يستوي الأعمى والبصير } أي كما لا يستوي الأعمى والبصير كذلك لا يستوي المؤمن والكافر لأن المؤمن يعمل على بصيرة ويعبد الله الذي يملك النفع والضر والكافر يعمل على عمى ويعبد من لا يملك النفع والضر.
ثم زاد في الإيضاح فقال { أم هل تستوي الظلمات والنور } أي هل يستوي الكفر والإيمان أو الضلالة والهدى أو الجهل والعلم { أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه } أي هل جعل هؤلاء الكفار لله شركاء في العبادة خلقوا أفعالاً مثل خلق الله تعالى من الأجسام والألوان والطعوم والأراييح والقدرة والحياة وغير ذلك من الأفعال التي يختص سبحانه بالقدرة عليها.
{ فتشابه الخلق عليهم } أي فاشتبه لذلك عليهم ما الذي خلق الله وما الذي خلق الأوثان فظنُّوا أن الأوثان تستحق العبادة لأن أفعالها مثل أفعال الله فإذا لم يكن ذلك مشتبهاً إذ كان كله لله تعالى لم يبق شبهة أنه الإله لا يستحق العبادة سواه { قل } لهم { الله خالق كل شيء } يستحق به العبادة من أصول النعم وفروعها { وهو الواحد } ومعناه أنه يستحق من الصفات ما لا يستحقه غيره فهو قديم لذاته قادر لذاته عالم لذاته حيّ لذاته غني لا مثل له ولا شبه وقيل الواحد هو الذي لا يتجزأ ولا يتبعض وقيل هو الواحد في الإلهية لا ثاني له في القدم.
{ القهار } الذي يقهر كل قادر سواه ولا يمتنع عليه شيء واستدلت المجبرة بقوله الله تعالى خالق كل شيء على أن أفعال العباد مخلوقة لله لأن ظاهر العموم يقتضي دخول أفعال العباد فيه وبقوله أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه قالوا لأنه أنكر أن يكون خالق خلق كخلقه.
وأجيب عن ذلك بأن الآية وردت حجة على الكفار إذ لو كان المراد ما قالوا لكان فيها حجة لهم على الله لأنه إذا كان الخالق لعبادتهم الأصنام هو الله فلا يتوجه التوبيخ إلى الكفار ولا يلحقهم اللوم بذلك بل يكون لهم أن يقولوا إنك خلقت فينا ذلك فلم توبخنا على فعل فعلته فينا فيبطل حينئذ فائدة الآية. وأيضاً فإن أكثر أصحابنا لا يطلقون على غيره سبحانه أنه يخلق أصلاً فضلاً عن أن يقولوا إنه يخلق كخلق الله ولكن يقولون إن العباد يفعلون ويحدثون ومعنى الخلق عندهم الاختراع ولا يقدر العباد عليه ومن جوَّز منهم إطلاق لفظ الخلق في أفعال العباد فإنه يقول إنه سبحانه إنما نفى أن يكون أحد يخلق مثل خلقه ونحن لا نقول ذلك لأن خلق الله اختراع وإبداع وأفعال غيره مفعولة في محل القدرة عليها مباشراً أو متولداً في الغير بسبب حال في محل القدرة ولا يقدر على اختراع الأفعال في الغير على وجه من الوجوه إلا الله سبحانه الذي أبدع السماوات والأرض وما فيهما وينشىء الأجناس من الأعراض التي لا يقدر عليها غيره فكيف يشبه الخلق مع هذا التمييز الظاهر على أن عندهم كل حركة هي كسب للعبد وفعل الله تعالى ولا يتميز فقد حصل التشابه هنا ونحن نقول: إن أحدنا يفعل بقدرة محدثة يفعلها الله تعالى فيه والله يفعل لكونه قادراً لذاته فالفرق والتمييز ظاهر فعلمنا أن المراد بقوله خالق كل شيء ما قدَّمناه من أنه خالق كل شيء يستحق لخلقه العبادة.