التفاسير

< >
عرض

كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِيۤ أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ لِّتَتْلُوَاْ عَلَيْهِمُ ٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِٱلرَّحْمَـٰنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ
٣٠
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ ٱلْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ ٱلأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ ٱلْمَوْتَىٰ بَل للَّهِ ٱلأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ
٣١
-الرعد

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ علي وابن عباس وعلي بن الحسين (ع) وزيد بن علي وجعفر بن محمد وابن أبي مليكة وعكرمة والجحدري وأبو يزيد المزني أفلم يتبين والقراءة المشهورة ييائس.
الحجة: قال ابن جني هذه القراءة فيها تفسير قوله: { أفلم ييأس الذين آمنوا } وروي عن علي بن عياش أنها لغة فخذ من النَّخَع قال:

أَلَـمْ يَيْأَسِ الأَقْـوامُ أَنّـي أَنَـا ابْنُهُ وَإِنْ كُنْتُ عَنْ أَرْضِ العَشِيرَةِ نَائِيا

وقال سحيم بن وثيل:

أَقُولُ لأَهْلِ الشَّعْبِ إِذْ يَأسِرُونَني أَلـَمْ يَيُأَسُوا أَنْي ابنُ فارِس زَهْدَمِ

وروي إذ ييسرونني أي يقسمونني أي أَلم يعلموا. قال ويشبه عندي أن يكون هذا أيضاً راجعاً إلى معنى اليأس وذلك أن المتأمل للشيء المتطلب لعلمه ذاهب بفكره في جهات تعرفه إياه فإذا ثبت نفسه على شيء اعتقده وأضرب عما سواه فلم ينصرف إليه كما ينصرف اليائس عن الشيء عنه ولا يلتفت إليه, هذا طريق الصنعة فيها.
اللغة: المتاب التوبة تاب يتوب توباً ومتاباً والتوبة الفعلة الواحدة والتسيير تصيير الشيء بحيث يسير يقال سار يسير سيراً وسيَّره غيره والتقطيع تكثير القطع تفصيل المتصل والحلول حصول الشيء في الشيء كحصول العرض في الجوهر وحصول الجوهر في الوعاء والأول الأول والثاني مشبه به والقارعة الشديدة من شدائد الدهر ومنه سميت القيامة قارعة وأصله من القرع وهو الضرب ومقارعة الأبطال ضرب بعضهم بعضاً وقوارع القرآن الآيات التي من قرأها أمن من الشيطان كأنها تضرب الشياطين إذا قرئت.
النزول: نزلت الآية الأولى في صلح الحديبية حين أرادوا كتاب الصلح
" "فقال رسول الله رصلى الله عليه وسلم لعلي (ع) اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل بن عمرو والمشركون ما نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب أكتب باسمك اللهم وهكذا كان أهل الجاهلية يكتبون ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله فقال مشركو قريش لئن كنت رسول ثم قاتلناك وصددناك لقد ظلمناك ولكن اكتب هذا ما صالح محمد بن عبد الله فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دعنا نقاتلهم قال: لا ولكن اكتبوا كما يريدون" فأنزل الله عز وجل { كذلك أرسلناك في أمة } الآية عن قتادة ومقاتل وابن جريج.
وقيل: نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم
"اسجدوا للرحمن" قالوا وما الرحمن عن الضحاك عن ابن عباس.
ونزلت الآية الأخرى في نفر من مشركي مكة منهم أبو جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية المخزومي جلسوا خلف الكعبة ثم أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم فقال له عبد الله بن أمية إن سرك أن نتبعك فسير لنا جبال مكة بالقرآن فأذهبها عنا حتى تنفسخ فإنها أرض ضيقة واجعل لنا فيها عيوناً وأنهاراً حتى نغرس ونزرع فلست كما زعمت أهون على ربك من داود (ع) حيث سخر له الجبال تسبح معه أو سخر لنا الريح فنركبها إلى الشام فنقضي عليها مسيرتنا وحوائجنا ثم نرجع من يومنا فقد كان سليمان سخرت له الريح فكما زعمت لنا فلست أهون على ربك من سليمان واحيي لنا جدك قصياً أو من شئت من موتانا لنسأله أحق ما تقول أم باطل فإن عيسى (ع) كان يحيي الموتى ولست بأهون على الله منه فأنزل الله سبحانه { ولو أن قرآناً } الآية.
المعنى: لما ذكر سبحانه النعمة على من تقدَّم ذكره بالثواب وحسن المآب عقَّبه بذكر النعمة على من أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال { كذلك أرسلناك } أي كما أنعمنا على المذكورين بالثواب في الجنة أنعمنا على المرسل إليهم بإرسالك وقيل إن معنى التشبيه أنا كما أرسلنا الأنبياء في الأمم قبلك أرسلناك { في أمة قد خلت من قبلها أمم } أي في جماعة قد مضت من قبلها قرون وجماعات { لتتلوا عليهم الذي أوحينا إليك } بين الغرض في إرساله وهو أن يقرأ عليهم القرآن ليتدبروا آياته ويتَّعظوا بها.
{ وهم يكفرون بالرحمن } أي وقريش يكفرون بالرحمن أي ويقولون قد عرفنا الله ولا ندري ما الرحمن كما أخبر عنهم بأنهم قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا عن الحسن وقتادة وقيل معناه أنهم يجحدون بالوحدانية.
{ قل } يا محمد { هو ربي } أي الرحمن الذي أنكرتموه ربي أي خالقي ومدبري { لا إله إلا هو عليه توكلت } أي إليه فوضت أمري متمسكاً بطاعته راضياً بحكمه { وإليه متاب } أي مرجعي وقيل معناه إلى الرحمن توبتي { ولو أن قرآناً سيرت به الجبال } أي جعل به الجبال سائرة فأذهبت من مواضعها وقلعت من أماكنها { أو قطعت به الأرض } أي شققت فجعلت أنهاراً وعيوناً { أو كلم به الموتى } أي أحيي به الموتى حتى يعيشوا ويتكلموا وحذف جواب لو لأن في الكلام دليلاً عليه والتقدير لكان هذا القرآن لعظم محله وعلو أمره وجلالة قدره قال الزجاج أو الذي أتوهم وقد قاله بعضهم أن المعنى لو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى لما آمنوا ودليله قوله:
{ ولو أنزلنا إليهم الملائكة } [الأنعام: 111] إلى قولـه: { ما كانوا ليؤمنوا } [الأنعام: 111] وحذف جواب لو يكثر في الكلام قال امرؤ القيس:

فَلَوْ أَنَّها نَفْسٌ تَمُوتُ سَوِيَّة وَلكِنــَّها نَفْسٌ تُساقِط أَنْفُسَا

وهو آخر القصيدة وقال:

وَجَــدِّكَ لَوْ شَيءٌ أَتانا رَسُولُهُ سِواكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعا

{ بل لله الأمر جميعاً } معناه أن جميع ما ذكر من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى وكل تدبير يجري هذا المجرى لله لأنه لا يملكه سواه ولا يقدر عليه غيره ولكنه لا يفعل لأن فيما أنزل من الآيات مقنعاً وكفاية للمنصفين والأمر ما يصح أن يؤمر به وينهى عنه وهو عام وأصله الأمر نقيض النهي { أفلم ييأس الذين آمنوا } أي أفلم يعلموا ويتبينوا عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وأبي مسلم وقيل معناه أفلم يعلم الذين آمنوا علماً ييأسوا معه من أن يكون غيره ما علموه عن الفراء, وقيل معناه أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء الذين وصفهم الله عز وجل بأنهم لا يؤمنون عن الزجاج قال لأنه قال { أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً } أي أن الله لو أراد أن يهدي الخلق كلهم إلى جنته لهداهم لكنه كلفهم لينالوا الثواب بطاعاتهم على وجه الاستحقاق وقيل أراد به مشيئة الإلجاء أي لو أراد أن يلجئهم إلى الاهتداء لقدر على ذلك لكنه ينافي التكليف ويبطل الغرض به.
{ ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا } من كفرهم وأعمالهم الخبيثة { قارعة } أي نازلة وداهية تقرعهم ومصيبة شديدة من الحرب والجدب والقتل والأسر عليهم على جهة العقوبة للتنبيه والزجر وقيل أراد بالقارعة سرايا النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعثها إليهم وقيل أراد بذلك ما مرّ ذكره من حديث أربد وعامر.
{ أو تحل قريباً من دارهم } وقيل إن التاء في تحل للتأنيث والمعنى أو تحل تلك القارعة قريباً من دارهم فتجاورهم حتى يحصل لهم المخافة منه عن الحسن وقتادة وأبي مسلم والجبائي. وقيل إن التاء للخطاب والمعنى أو تحل أنت يا محمد بنفسك قريباً من دارهم { حتى يأتي وعد الله } أي ما وعد الله من فتح مكة عن ابن عباس قال وهذه الآية مدنية وقيل حتى يأتي يوم القيامة عن الحسن { إن الله لا يخلف الميعاد } ظاهر المعنى.
النظم: اتصلت الآية الأخيرة بقوله: { ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه } والتقدير أن مثل هذا القرآن أُنزل عليهم وهم يطلبون آيات أخر عن الجبائي وقيل اتصلت بقوله: { كذلك أرسلناك } الآية لأن المفهوم من قولـه: { لتتلوا عليهم } أنه قرأ عليهم القرآن وأنهم كفروا به.