التفاسير

< >
عرض

يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ
٢٧
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ ٱلْبَوَارِ
٢٨
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ ٱلْقَرَارُ
٢٩
وَجَعَلُواْ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى ٱلنَّارِ
٣٠
-إبراهيم

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: الإحلال وضع الشيء في محل إما بمجاورة إن كان من قبيل الأجسام أو بمداخلة إن كان من قبيل الإعراض والبوار الهلاك يقال الشيء يبور بوراً إذا هلك ورجل بور أي هالك وقوم بور أيضاً قال ابن الزبعرى:

يا رَسُولَ المَلِيكِ إنَّ لِسانِي راتِــقٌ ما فَتَقْـتَ إذْ أَنا بُورُ

والأنداد الأمثال المنادُّون قال:

تُهْدى رُؤوسُ الْمتْرفين الأنْدادْ إلى أميـر الْمُؤمنــين المُمْـتادْ

الإعراب: جهنم انتصب على البدل من قوله: { دار البوار } و { يصلونها } في موضع نصب على الحال من قومهم وإن شئت كان حالا ًمن جهنم وإن شئت فمنهما كقوله: { تحمله } بعد قوله: { { فأتت به قومها } [مريم: 27].
المعنى: لما قدّم سبحانه ذكر الكلمة الطيبة عقّبه بذكر ما يحصل لصاحبها من المثوبة والكرامة فقال: { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } أي يثبتهم في كرامته وثوابه بالقول الثابت الذي وجد منهم وهو كلمة الإيمان لأنه ثابت بالحجج والأدلة وقيل معناه يثبت الله المؤمنين بسبب كلمة التوحيد وحرمتها في الحياة الدنيا حتى لا يزلوا ولا يضلوا عن طريق الحق ويثبتهم بها حتى لا يزلّوا ولا يضلّوا عن طريق الجنة وقيل معناه يثبتهم بالتمكين في الأرض والنصرة والفتح في الدنيا وبإسكانهم الجنة في الآخرة عن أبي مسلم.
وقال أكثر المفسرين أن المراد بقوله: { في الآخرة } في القبر والآية وردت في سؤال القبر وهو قول ابن عباس وابن مسعود وهو المروي عن أئمتنا (ع) وروى محمد بن يعقوب الكليني في كتاب الكافي بإسناده عن سويد بن غفلة عن أمير المؤمنين علي (ع) قال: إن ابن آدم إذا كان في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة مُثّل له ماله وولده وعمله فيلتفت إلى ماله فيقول والله إني كنت عليك لحريصاً شحيحاً فمالي عندك فيقول خذ مني كفنك فيلتفت إلى ولده فيقول والله إني كنت لكم لمحباً وعليكم لمحامياً فماذا لي عندكم فيقولون نؤديك إلى حفرتك نواريك فيها.
قال: فيلتفت إلى عمله فيقول والله إني كنت فيك لزاهداً وإن كنت علي لثقيلاً فماذا لي عندك فيقول: أنا قرينك في قبرك ويوم نشرك حتى أعرض أنا وأنت على ربك قال فإن كان لله ولياً أتاه أطيب الناس ريحاً وأحسنهم منظراً وأحسنهم رياشاً فقال أبشر بروح وريحان وجنة نعيم ومقدمك خير مقدم فيقول له من أنت فيقول أنا عملك الصالح ارتحل من الدنيا إلى الجنة وأنه ليعرف غاسله ويناشد حامله أن يعجله فإذا أدخل قبره أتاه ملكا القبر يجران أشعارهما ويخدان الأرض بأنيابهما أصواتهما كالرعد القاصف وأبصارهما كالبرق الخاطف فيقولان له من ربك وما دينك ومن نبيك فيقول الله ربي وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم فيقولان ثبتك الله فيما تحب وترضى وهو قوله سبحانه: { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } ثم يفسحان له في قبره مدّ بصره ثم يفتحان له باباً إلى الجنة ثم يقولان له نم قرير العين نوم الشاب الناعم فإن الله يقول:
{ { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً } [الفرقان: 24].
قال: وإذا كان لربه عدواً فإنه يأتيه أقبح خلق الله زياً وأنتنه ريحاً فيقول أبشر بنزل من حميم وتصلية جحيم وأنه ليعرف غاسله ويناشد حملته أن يحتبسوه فإذا أدخل القبر أتاه ملكا القبر فألقيا أكفانه ثم يقولان له: من ربك وما دينك ومن نبيك فيقول لا أدري فيقولان له: لا دريت ولا هديت فيضربان يافوخه بمرزبة معهما ضربة ما خلق الله من دابة إلا تذعر لها ما خلا الثقلين ثم يفتحان له باباً إلى النار ثم يقولان له: نم بشرٍّ حال فيه من الضيق مثل ما فيه القناه من الزج حتى أن دماغه ليخرج من بين ظفره ولحمه ويسلط الله عليه حيات الأرض وعقاربها وهوامها فتنهشه حتى يبعثه الله من قبره وأنه ليتمنى قيام الساعة مما هو فيه من الشر نعوذ بالله من عذاب القبر.
{ ويضل الله الظالمين } أي ويضلّهم عن هذا التثبيت في الدنيا وفي الآخرة: { ويفعل الله ما يشاء } من الإمهال والانتقام وضغطة القبر ومساءلة منكر ونكير لا اعتراض عليه في ذلك ولا قدرة لأحد على منعه وهذا من تمام الترغيب والترهيب.
ثم خاطب سبحانه نبيَّه صلى الله عليه وسلم فقال: { ألم تر إلى الذين بدَّلوا نعمة الله كفراً } يحتمل أن يكون المراد ألم تر إلى هؤلاء الكفار عرفوا نعمة الله بمحمد صلى الله عليه وسلم أي عرفوا محمداً ثم كفروا به فبدَّلوا مكان الشكر كفراً وروي عن الصادق (ع) أنه قال نحن والله نعمة الله التي أنعمها أنعم بها على عباده وبنا يفوز من فاز ذكره علي بن إبراهيم في تفسيره ويحتمل أن يكون المراد جميع نعم الله على العموم بدلوها أقبح التبديل إذا جعلوا مكان شكرها الكفر بها واختلف في المعنى بالآية فروي عن أمير المؤمنين علي (ع) وابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك ومجاهد أنهم كفار قريش كذبوا نبيهم ونصبوا له الحرب والعداوة.
وسأل رجل أمير المؤمنين علياً (ع) عن هذه الآية فقال هم الافجران من قريش بنو أمية وبنو المغيرة فأما بنو أمية فمتعوهم إلى حين وأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر وقيل إنهم جبلة بن الأيهم ومن اتبعوه من العرب تنصروا ولحقوا بالروم.
{ وأحلوا قومهم دار البوار } أي أنزلوا قومهم دار الهلاك بأن أخرجوهم إلى بدر وقيل معناه أنزلوهم دار الهلاك وهي النار بدعائهم إياهم إلى الكفر بالنبي إياهم { جهنم يصلونها وبئس القرار } وهذا تفسير لدار البوار يعني أن تلك الدار هي جهنم يدخلونها وبئس القرار قرار النار { وجعلوا لله أنداداً } أي وجعل هؤلاء الكفار الذين بدَّلوا نعمة الله كفراً لله نظراء وأمثالاً في العبادة زيادة على كفرهم وجحدهم { ليضلوا عن سبيله } أي ليكون عاقبة أمرهم إلى الضلال الذي هو الهلاك وليست هذه اللام لام الغرض لأنهم لم يعبدوا الأوثان من دون الله وغرضهم أن يهلكوا ومن قرأ ليُضلوا بضم الياء فمعناه ليضل الناس عن سبيل الله ثم قال سبحانه لنبيّه صلى الله عليه وسلم: { قل } لهؤلاء الكفار الذين وصفناهم { تمتعوا } وانتفعوا بما تهوون من عاجل هذه الدنيا والمراد به التهديد وإن كان بصورة الأمر { فإن مصيركم } أي مرجعكم ومآلكم: { إلى النار } والكون فيها وكان قد يكون.