التفاسير

< >
عرض

وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ تَٱللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ
٥٦
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ٱلْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ
٥٧
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِٱلأُنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ
٥٨
يَتَوَارَىٰ مِنَ ٱلْقَوْمِ مِن سُوۤءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي ٱلتُّرَابِ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ
٥٩
لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ مَثَلُ ٱلسَّوْءِ وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٦٠
-النحل

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: يقال ظل يفعل كذا إذا فعله في صدر النهار ويقال ظللت أظل ظلولاً ومثله أضحى غير أنه كثر حتى صار بمنزلة أخذ يفعل, والكظيم المغموم الذي يطبق فاه لا يتكلم للغم الذي به مأخوذ من الكظامة وهي اسم لما يشد به فم القربة, والكظامة أيضاً العقب على رؤوس القذذ, والكظامة أيضاً البئر ومنه الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى كظامة فتوضأ ومسح على قدميه, وجمعها كظائم والهون الهوان والمشقة وهي لغة قريش قال الحطيئة:

فَلَما خَشيتُ الْهُونَ وَالْعَيْنُ مُمْسِك عَلــى رَغْمِهِ ما أثْبَتَ الخَيْلَ حافِرُهُ

ودسست الشيء في التراب أدسه دساً إذا أخفيته والدساسة حية صماء تندس تحت التراب.
الإعراب: ولهم ما يشتهون إن شئت جعلت ما في موضع نصب بمعنى يجعلون لهم البنين الذين يشتهون هم ويكون قوله سبحانه اعتراضاً بين المعطوف عليه وإن شئت جعلته في موضع رفع على الاستئناف فيكون مرفوعاً على الابتداء ولهم خبره أو مرفوعاً على أن الظرف عمل فيه على ما ذكرنا من الاختلاف فيه فيما مضى والهاء في يمسكه يعود إلى قوله ما بشَّر به فلذلك ذكّر وقيل معناه ويجعلون للأصنام الذين لا يعلمون ولا يجعلون نصيباً من الأنعام والزرع فكنّى عن لفظة ما في قوله: { لما لا يعلمون } بالواو لأنهم جعلوا الأصنام هنا بمنزلة العقلاء عن أبي علي الفارسي وقال أيضاً يجوز أن يكون تقديره ويجعلون لما لا يعلمونه إلهاً نصيباً ويكون الضميران في يجعلون ويعلمون للمشركين وحذف المفعولان.
المعنى: ثم ذكر سبحانه فعلاً آخر من أفعال المشركين على جهلهم فقال { ويجعلون لما لا يعلمون } والواو في يعلمون تعود إلى المشركين أي لما لا يعلمون أنه يضر وينفع { نصيباً مما رزقناهم } يتقربون بذلك إليه كما يجب أن يتقرب إلى الله تعالى وهو ما حكى الله عنهم في سورة الأنعام من الحرث وغير ذلك وقولهم هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا عن مجاهد وقتادة وابن زيد.
ثم أقسم تعالى فقال { تالله لتسألن } في الآخرة { عما كنتم تفترون } أي تكذبون به في دار الدنيا لتلتزموا به الحجة وتعاقبوا بعد اعترافكم على أنفسكم ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من جهالاتهم فقال { ويجعلون لله البنات } أي ويثبتون لله البنات ويضيفون إليه البنات وهو قولهم بنات الله كما قال سبحانه وجعلوا الملائكة هم عباد الرحمن إناثاً ثم نزَّه سبحانه نفسه عما قالوا فقال { سبحانه } أي تنزيهاً له عن اتخاذ البنات { ولهم ما يشتهون } أي ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون ويحبُّونه من البنين دون البنات وعلى الوجه الآخر ولهم ما يحبونه يعني البنين.
{ وإذا بشر أحدهم بالأنثى } أي وإذا بشر واحد منهم بأنه ولد له بنت { ظل وجهه مسوداً } أي صار لون وجهه متغيراً إلى السواد لما يظهر فيه من أثر الحزن والكراهة فقد جعلوا لله ما يكرهونه لأنفسهم وهذا غاية الجهل { وهو كظيم } أي ممتلىء غيظاً وحزناً { يتوارى من القوم من سوء ما بشر به } يعني أن هذا الذي بشر بالبنت يستخفي من القوم الذين يستخبرونه عما ولد له استنكافاً منه وخجلاً وحياء من سوء ما بشر به من الأنثى وقبحه عنده.
{ أيمسكه على هون أم يدسه في التراب } يعني يميل نفسه ويدبر في أمر البنت المولودة له أيمسكه على ذل وهوان أم يخفيه في التراب ويدفنه حياً وهو الوأد الذي كان من عادة العرب وهو أن أحدهم كان يحفر حفيرة صغيرة وإذا ولد له أنثى جعلها فيها وحثا عليها التراب حتى تموت تحته وكانوا يفعلون ذلك مخافة الفقر عليهن فيطمع غير الإكفاء فيهن.
{ ألا ساء ما يحكمون } أي بئس الحكم ما يحكمونه وهو أن يجعلوا لنفوسهم ما يشتهون ولله ما يكرهون وقيل معناه ساء ما يحكمونه في قتل البنات مع مساواتهن للبنين في حرمة الولادة ولعل الجارية خير من الغلام وروي عن ابن عباس أنه قال: لو أطاع الله الناس في الناس لما كان الناس لأنه ليس أحد إلا ويحب أن يولد ذكر ولو كان الجميع ذكوراً لما كان لهم أولاد فيفنى الناس.
ثم قال سبحانه { للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى } أي لهؤلاء الكفار الذين وصف الله بالولد صفة السوء أي الصفة القبيحة التي هي سواد الوجه والحزن ولله الصفة العليا من السلطان والقدرة وقيل له صفات النقص من الجهل والكفر والضلال والعمى وصفة الحدوث والضعف والعجز والحاجة إلى الأبناء وقتل البنات خوف الفقر ولله صفات الإلهية والاستغناء عن الصاحبة والولد والربوبية وإخلاص التوحيد ويسأل فيقال كيف يمكن الجمع بين قوله سبحانه وتعالى { ولله المثل الأعلى } وقوله
{ { فلا تضربوا لله الأمثال } [النحل: 74] والجواب أن المراد بالأمثال هناك الأشباه أي لا تشبهوا الله بشيء والمراد بالمثل الأعلى هنا الوصف الأعلى الذي هو كونه قديماً قادراً حياً ليس كمثله شيء وقيل إن المراد بقوله المثل الأعلى المثل المضروب بالحق وبقوله فلا تضربوا لله الأمثال الأمثال المضروبة بالباطل.
{ وهو العزيز } أي القادر الذي لا يمتنع عليه شيء { الحكيم } الذي يضع الأشياء مواضعها على ما هو حكمة وصواب وفي الآية دلالة على أنه لا يضاف إلى الله تعالى إلا دون فإن الله سبحانه قد عاب المشركين بإضافتهم إليه ما لا يرضونه لأنفسهم فإذا كره الإنسان إضافة القبيح إلى نفسه للنقص الذي فيه فكيف يجوز أن يضيفه إلى الله تعالى.