التفاسير

< >
عرض

الۤـمۤ
١
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

كوفيّ: اختلف العلماء في الحروف المعجمة المفتتحة بها السور فذهب بعضهم إلى أنها من المتشابهات التي استأثر الله تعالى ولا يعلم تأويلها إلا هو؛ هذا هو المروي عن أئمتنا عليهم السلام وروت العامة عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال إنّ لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي. وعن الشعبي قال: لله في كل كتاب سرٌّ وسره في القرآن سائر حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور وفسرها الآخرون على وجوه:
أحدها: إنها أسماء السور ومفاتحها عن الحسن وزيد بن أسلم.
وثانيها: أن المراد بها الدلالة على أسماء الله تعالى فقولـه تعالى: { الم } معناه أنا الله أعلم و{ المر } معناه: أنا الله أعلم وأرى و{ المص } معناه أنا الله أعلم وأفصل والكاف في كهيعص من كاف والهاء من هادٍ والياء من حكيم والعين من عليم والصاد من صادق عن ابن عباس. وعنه أيضاً: إن الم الألف منه تدل على اسم الله واللام تدل على اسم جبرائيل والميم تدل على اسم محمد صلى الله عليه وسلم وروى أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره مسنداً إلى علي بن موسى الرضا عليه السلام قال: سئل جعفر بن محمد الصادق عن قولـه الم فقال في الألف ست صفات من صفات الله تعالى: (الابتداء) فإِن الله ابتدأ جميع الخلق والألف ابتداء الحروف و(الإستواء) فهو عادل غير جائر والألف مستو في ذاته و(الانفراد) فالله فرد والألف فرد و(اتصال الخلق بالله) والله لا يتصل بالخلق وكلهم محتاجون إلى الله والله غني عنهم وكذلك الألف لا يتصل بالحروف والحروف متصلة به وهو منقطع من غيره والله عز وجل باين بجميع صفاته من خلقه ومعناه من الألفة فكما أن الله عز وجل سبب إلفة الخلق فكذلك الألف عليه تألفت الحروف وهو سبب ألفتها.
وثالثها: أنها أسماء الله تعالى منقطعة لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم تقول: الر وحم ون فيكون الرحمن وكذلك سائرها إلا أنا لا نقدر على وصلها والجمع بينها عن سعيد بن جبير.
ورابعها: أنها أسماء القرآن عن قتادة.
وخامسها: أنها أقسام أقسم الله تعالى بها وهي من أسمائه عن ابن عباس وعكرمة. قال الأخفش: وإنما أقسم الله تعالى بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها ولأنها مباني كتبه المنزلة بالألسنة المختلفة وأسمائه الحسنى وصفاته العليا وأصول كلام الأمم كلها بها يتعارفون ويذكرون الله عز اسمه ويوحدونه فكأنه هو أقسم بهذه الحروف أن القرآن كتابه وكلامه.
وسادسها: أن كل حرف منها مفتاح اسم من أسماء الله تعالى وليس فيها حرف إلا وهو في آلائه وبلائه وليس فيها حرف إلا وهو في مدة قوم وآجال آخرين, عن أبي العالية. وقد ورد أيضاً مثل ذلك في أخبارنا.
وسابعها: أن المراد بها مدة بقاء هذه الامة. عن مقاتل بن سليمان قال مقاتل: حسبنا هذه الحروف التي في أوائل السور باسقاط المكرر فبلغت سبعمائة وأربعاً وأربعين سنة وهي بقية مدة هذه الامة. قال علي بن فضال المجاشعي النحوي: وحسبت هذه الحروف التي ذكرها مقاتل فبلغت ثلاثة آلاف وخمسة وستين فحذفت المكررات فبقي ستمائة وثلاث وتسعون والله أعلم بما فيها. وأقول قد حسبتها أنا أيضاً فوجدتها كذلك. ويروى أن اليهود لما سمعوا الم قالوا مدة ملك محمد صلى الله عليه وسلم قصيرة إنما تبلغ إحدى وسبعين سنة فلما نزلت الر والمر والمص وكهيعص اتسع عليهم الأمر هذه أقوال أهل التفسير.
وثامنها: أن المراد بها حروف المعجم استغنى بذكر ما منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها التي هي تمام الثمانية والعشرين حرفاً كما يستغنى بذكر قِفانَبَكِ عن ذكر باقي القصيدة وكما يقال اب في أبجد وفي أ ب ت ث ولم يذكروا باقي الحروف قال الراجز:

لَمَّا رَأيْتُ أنَّها في حُطِّي أَخَذَت مِنْها بقُرُونٍ شُمْطِ

وإِنما أراد الخبر عن المراءة بأنها في أبجد فأقام قولـه حطي مقامه لدلالة الكلام عليه.
وتاسعها: أنها تسكيت للكفار لأن المشركين كانوا تواصوا فيما بينهم أن لا يستمعوا لهذا القرآن وأن يلغوا فيه كما ورد به التنزيل من قولـه:
{ { لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ } [فصلت: 26] فربما صفروا وربما صفقوا وربما لغطوا ليُغلِّطوا النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الحروف حتى إذا سمعوا شيئاً غريباً استمعوا إليه وتفكروا واشتغلوا عن تغليطه فيقع القرآن في مسامعهم ويكون ذلك سبباً موصلاً لهم إلى درك منافعهم.
وعاشرها: أن المراد بها أن هذا القرآن الذي عجزتم عن معارضته من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في خطبكم وكلامكم فإِذا لم تقدروا عليه فاعلموا أنه من عند الله لأن العادة لم تجر بأن الناس يتفاوتون في القدر هذا التفاوت العظيم وإنما كررت في مواضع استظهاراً في الحجة وهو المحكي عن قطرب واختاره أبو مسلم محمد ابن بحر الأصفهاني.
اللغة: أجود هذه الأقوال القول الأول المحكي عن الحسن لأن أسماء الأعلام منقولة إلى التسمية عن أصولها للتفرقة بين المسميات فتكون حروف المعجم منقولة إلى التسمية ولهذا في أسماء العرب نظير قالوا أوس بن حارثة بن لام الطائي ولا خلاف بين النحويين أنه لا يجوز أن يسمى بحروف المعجم كما يجوز أن يسمى بالجمل نحو تأبط شراً وبرق نحره وكل كلمة لم تكن على معنى الأصل فهي منقولة إلى التسمية للفرق نحو جعفر إذا لم يرد به معنى النهر لم يكن إلا منقولاً إلى العلمية وكذلك اشباهه ولو سميت بألم لحكيت جميع ذلك وأما قول ابن عباس أنه اختصار من أسماء يعلم النبي صلى الله عليه وسلم تمامها فنحوه قول الشاعر:

نَادَوهُمُ أنْ أَلْجِمُوا ألاَتا قَالُوا جَمِيعاً كُلُّهُمْ ألافَا

يريد ألا تركبون قالوا ألا فاركبوا وقول الآخر:

قُلْنَا لَهَا قفِي قَالَتْ قَافْ لا تَحْسَبِي أَنَّا نَسِينَا الايجَافْ

يريد: قالت أنا واقفة.
الإعراب: أما موضع الم من الإعراب فمختلف على حسب اختلاف هذه المذاهب إما على مذهب الحسن فموضعها رفع على اضمار مبتدأ محذوف كأنه قال هذه الم وأجاز الرماني أن يكون الم مبتدأ وذلك الكتاب خبره وتقديره حروف المعجم ذلك الكتاب وهذا فيه بعد لأن حكم المبتدأ أن يكون هو الخبر في المعنى ولم يكن الكتاب هو حروف المعجم ويجوز أن يكون ألم في موضع نصب على اضمار فعل تقديره اتلُ الم وأما على مذهب من جعلها قسماً فموضعها نصب بإضمار فعل لأن حرف القسم إذا حذف يصل الفعل إلى المقسم به فينصبه فإِن معنى قولك بالله: أقسم بالله ثم حذفت أقسم فبقي بالله فلو حذفت الباء لقلت الله لأفعلنَّ وأما على مذهب من جعل هذه الحروف اختصاراً من كلام أو حروفاً مقطعة فلا موضع لها من الإعراب لأنها بمنزلة قولك زيد قائم في أن موضعه لاحظ له في الاعراب وإِنما يكون للجملة موضع إذا وقعت موقع الفرد كقولك زيد أبوه قائم وإن زيداً أبوه قائم لأنه بمنزلة قولك زيد قائم وأن زيداً قائم, وهذه الحروف موقوفة على الحكاية كما يفعل بحروف التهجي لأنها مبنية على السكت كما أن العدد مبني على السكت يدل على ذلك جمعك بين ساكنين في قولك لام ميم وتقول في العدد واحد اثنان ثلاثة أربعة فتقطع ألف اثنين وألف اثنين ألف وصل وتذكر الهاء في ثلاثة وأربعة ولولا أنك تقدر السكت لقلت ثلاثة بالتاء ويدل عليه قول الشاعر:

أَقْبَلْتُ مِنْ عِنْدِ زِيادٍ كالخَرفِ تَخُطُّ رِجْلاي بِخَطٍّ مُخْتَلِفِ
تُكتِبانِ في الطَّريقِ لامَ الفِ

كأنه قال لام ألف ولكنه ألقى حركة همزة الألف على الميم ففتحها وإِذا أخبرت عن حروف الهجاء أو أسماء الأعداد أعربتها لأنك أدخلتها بالأخبار عنها في جملة الأسماء المتمكنة وأخرجتها بذلك من حيّز الأصوات كما قال الشاعر:

كما بُيِّنت كافٌ تلوح وميمُها

وقال آخر:

إذا اجْتَمَعُوا عَلَى ألِفٍ وبَاءٍ وَواوٍ هَاجَ بَينَهُمُ جِدالُ

وتقول هذا كاف حسن وهذه كاف حسنة من ذكَّره فعلى معنى الحرف ومن أنَّثه فعلى معنى الكلمة.