التفاسير

< >
عرض

فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ
١٠
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ ابن عامر وحمزة فزادهم الله بإمالة الزاي وكذلك شاء وجاء وقرأ أهل الكوفة يكذبون بفتح الياء مخففاً والباقون يُكذّبون.
الحجة: حجة من أمال الألف في زاد أنه يريد أن يدل بالإمالة على أن العين ياء كما أبدلوا من الضمة كسرة في عين وبيض جمع أعين وأبيض لتصح الياء ولا تقلب إلى الواو. وحجة من قرأ يكذبون أن يقول إن ذلك أشبه بما قبل الكلمة وما بعدها لأن قولـهم آمنا بالله كذب منهم فلهم عذاب أليم بكذبهم وما وصلته بمعنى المصدر, وفي قولـهم فيما بعد إذا خلوا إلى شياطينهم إنا معكم دلالة أيضاً على كذبهم فيما ادّعوه من إيمانهم وإذا كان أشبه بما قبله وما بعده كان أولى, وحجة من قرأ يُكذّبون بالتشديد قولـه:
{ { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ } [الأنعام: 34] وقولـه وإن كذّبوك فقل لي عملي وقولـه { { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ } [يونس: 39] و { { إِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ } [فاطر: 4] ونحو ذلك والتكذيب أكثر من الكذب لأن كل من كَذّب صادقاً فقد كذب وليس كل من كذب مُكذّباً فكأنه قال ولهم عذاب أليم بتكذيبهم وأدخل كان ليدل على أن ذلك كان فيما مضى.
اللغة: المرض العلة في البدن ونقيضه الصحة قال سيبويه أمرضته جعلته مريضاً ومَرَّضته قمت عليه ووليته وزاد فعل يتعدى إلى مفعولين قال الله تعالى:
{ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } [الكهف: 13] { وَزَادَهُ بَسْطَةً } [البقرة: 247] ومصدره الزيادة والزيد قال:

كذلك زيد المرء بعد انتقاصه

والأليم الموجع فعيل بمعنى مُفعل كالسميع بمعنى المُسمع والنذير بمعنى المُنذر والبديع بمعنى المبدع قال ذو الرّمة:

يصكّ وجوهَها وَهَجٌ أليمُ

والكذب ضد الصدق وهو الإخبار عن الشيء لا على ما هو به, والكذب ضرب من القول وهو نطق فإذا جاز في القول أن يتسع فيه فيجعل غير نطق في نحو قولـه:

قد قالتِ الأنساعُ للبطن الحقي

جاز أيضاً في الكذب أن يُجعل غير نطق في نحو قولـه:

وذِبْيَانِيَّةٍ وَصَّتْ بَنِيْها بِأنْ كَذِبَ القَرَاطِفُ والقُرُوفُ

فيكون في ذلك انتفاء لها كما أنه إذا أخبر عن الشيء بخلاف ما هو به كان فيه انتفاء للصدق أي كذب القراطف فأوجدوها بالغارة.
المعنى: في قلوبهم مرض المراد بالمرض في الآية الشك والنفاق بلا خلاف وإنما سمي الشك في الدين مرضاً لأن المرض هو الخروج عن حد الاعتدال, فالبدن ما لم تصبه آفة يكون صحيحاً سوياً, وكذلك القلب ما لم تصبه آفة من الشك يكون صحيحاً وقل أصل المرض الفتور فهو في القلب فتوره عن الحق كما أنّه في البدن فتور الأعضاء. وتقدير الآية في اعتقاد قلوبهم الذي يعتقدونه في الله ورسولهِ مرض أي شك حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وقولـه فزادهم الله مرضاً قيل فيه وجوه:
أحدها: أن معناه ازدادوا شكاً عندما زاد الله من البيان بالآيات والحجج إلا أنه لما حصل ذلك عند فعله نسب إليه كقولـه تعالى في قصة نوح (ع)
{ { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً } [نوح: 6] لما ازدادوا فراراً عند دعاء نوح (ع) نسب إليه وكذلك قولـه { { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } [التوبة: 125] الآيات لم تزدهم رجساً وإنما ازدادوا رجساً عندها وثانيها: ما قاله أبو علي الجبائي إنه أراد في قلوبهم غم بنزول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وبتمكنه فيها وظهور المسلمين وقوّتهم فزادهم الله غماً بما زاده من التمكين والقوة وأمدّه به من التأييد والنصرة وثالثها: ما قاله السُدّي إن معناه زادتهم عداوة الله مرضاً وهذا في حذف المضاف مثل قولـه تعالى { { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ ٱللَّهِ } [الزمر: 22] أي من ترك ذكر الله ورابعها: أن المراد في قلوبهم حزن بنزول القرآن بفضائحهم ومخازيهم فزادهم الله مرضاً بأن زاد في إظهار مقابحهم ومساويهم والإخبار عن خبث سرائرهم وسوء ضمائرهم وسُمّيَ الغم مرضاً لأنه يُضيّق الصدر كما يُضيّقه المرض وخامسها: ما قاله أبو مسلم الأصفهاني إن ذلك على سبيل الدعاء عليهم كقولـه تعالى { ثُمَّ ٱنصَرَفُواْ صَرَفَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم } [التوبة: 127] فكأنه دعاءٌ عليهم بأن يُخلّيَهم الله وما اختاروه ولا يعطيهم من زيادة التوفيق والإلطاف ما يعطي المؤمنين فيكون خذلاناً لهم وهو في الحقيقة إخبار عن خذلان الله إياهم وإن خرج في اللفظ مخرجَ الدعاء عليهم ثم قال ولهم عذاب أليم وهو عذاب الناس بما كانوا يكذبون أي بتكذيبهم الله ورسوله فيما جاء به من الدين أو بكذبهم في قولـهم { آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [البقرة: 8].