التفاسير

< >
عرض

بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
١١٧
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ ابن عامر فيكون بالنصب والباقون بالرفع.
الإِعراب والحجة: قال علي يمتنع النصب في قولـه فيكون لأن قولـه { كن } وإِن كان على لفظ الأمر فليس بأمر ولكن المراد به الخبر لأن المنفي الذي ليس بكائن لا يؤمر ولا يخاطب فالتقدير نُكون فيكون فاللفظ لفظ الأمر والمراد الخبر كقولـهم في التعجب أكرِم بزيد فإِذا لم يكن قولـه كن أمراً في المعنى وإِن كان على لفظه لم يجزأ أن ينصب الفعل بعد الفاء بأنه جواب كما لم يجز النصب في الفعل الذي يدخله الفاء بعد الإِيجاب نحو آتيك فأحدّثُك إِلا أن يكون في شعر نحو قولـه:

لَنَا هَضْبَةٌ لاَ يَنْزِلُ الذُّلُّ وَسْطَهَا وَيَأوِي إِلَيْهَا المُسْتَجِيرُ فيُعْصَمَا

ويدلّ أيضاً على امتناع النصب فيه أن الجواب بالفاء مضارع الجزاء فلا يجوز ذاهب فيذهبَ على قياس قراءة ابن عامر كن فيكونَ لأن المعنى يصير إِن ذهبتَ وهذا الكلام لا يفيد وإِنما يفيد إِذا اختلف الفاعلان والفعلان نحو قم فأعطيك لأن المعنى إن قمت أعطيتك وإِذا كان الأمر على هذا لم يكن ما روي عنه من نصبه فيكونَ متجهاً, ويمكن أن يقال فيه أن اللفظ لما كان على لفظ الأمر حمله على اللفظ كما حمل أبو الحسن في نحو قولـه { { قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة } [إبراهيم: 31]على أنه أجري مجرى جواب الأمر وإِن لم يكن جواباً له على الحقيقة فالوجه في يكون الرفع على أن يكون معطوفاً على كن لأن المراد به نُكوّن فيكون أو يكون خبر مبتدأ محذوف كأنه قال فهو يكون.
اللغة: البديع بمعنى المبدع كالسميع بمعنى المسمع وبينهما فرق من حيث إن في بديع مبالغة ليست في مبدع ويستحق الوصف به في غير حال الفعل على الحقيقة بمعنى أن من شأنه إِنشاء الأَشياء على غير مثال واحتذاء والابتداع والاختراع والإِنشاء نظائر وكل من أحدث شيئاً فقد أبدعه والاسم البدعة وفي الحديث:
"كل بدعة ضلالة وكل ضلالة سبيلها إلى النار" والقضاء والحكم من النظائر وأصل القضاء الفصل وإِحكام الشيء قال أبو ذؤيب:

وَعَليهمَا مَسْرُُودتَانِ قَضَاهُمَا دَاوُدُ أوْ صَنَعُ السَّوَابِغ تُبَّعُ

أي أَحكمهما ثم ينصرف على وجوه منها الأمر والوصية كقولـه تعالى: { { وقضى ربك ألا تعبدوا إِلا إِياه } [الإسراء: 23] أي وصى ربك وأمر ومنها أن يكون بمعنى الإخبار والإِعلام كقولـه { { وقضينا إلى بني إِسرائيل } [الإسراء: 4] أي أخبرناهم وقولـه { { وقضينا إِليه ذلك الأمر } [الحجر: 66] أي عهدنا إلى لوط ومنها أن يكون بمعنى الفراغ نحو قولـه { { فإِذا قضيتم مناسككم } [البقرة: 200] أي فرغتم من أمر المناسك وقولـه { فإِذا قضيتم الصلاة } [النساء: 103] وفيما رواه علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جده الصادق (ع) قال القضاء على عشرة أوجه ذكر فيه الوجوه الثلاثة التي ذكرناها.
والرابع: بمعنى الفعل في قولـه
{ فاقض ما أنت قاض } [طه: 72] أي فافعل ما أنت فاعل ومنه قولـه { { إِذا قضى أمراً } [آل عمران: 47] يعني إِذا فعل أمراً كان في علمه أن يفعله إِنما يقول له كن فيكون ومنه قولـه { { إِذا قضى الله ورسوله أمراً } [الأحزاب: 36] يقول ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا فعل الله ورسوله شيئاً في تزويج زينب أن يكون لهم الخيرة من أمرهم.
والخامس: في قولـه
{ { ليقض علينا ربك } [الزخرف: 77] أي ينزل علينا الموت والسادس: قولـه { { وأنذرهم يوم الحسرة إِذا قضي الأمر } [مريم: 39] والسابع: قولـه: { { وكان أمراً مقضياً } [مريم: 21] أي مكتوباً في اللوح المحفوظ أنه يكون والثامن: بمعنى الإِتمام في نحو قولـه { { فلما قضى موسى الأَجل } [القصص: 29] أي أتم وأيما الأَجلين قضيت أي أتممت وقولـه { { من قبل أن يُقضى إِليك وحيه } [طه: 114] يعني من قبل أن يتم جبرائيل إِليك الوحي والتاسع: بمعنى الحكم والفصل كقولـه { وقُضي بينهم بالحق } [الزمر: 69] { وإِن ربك يقضي بينهم } [يونس: 93] أي يفصل وفي غافر { يقضي بالحق } [غافر: 20] أي يفصل الأمر بيني وبينكم بالعذاب والعاشر: بمعنى الجعل في قولـه { { فقضاهن سبع سموات } [فصلت: 12] أي جعلهن.
المعنى: لما نزّه الله سبحانه نفسه عن اتخاذ الأولاد ودل عليه بأن له ما في السماوات والأرض أكَّد ذلك بقولـه { بديع السموات والأرض } أي منشىء السماوات والأرض على غير مثال امتَثَله ولا احتذاء من صنع خالق كان قبله { وإِذا قضى أمراً } قيل معناه إِذا فعل أمراً أي أراد إحداث أمرٍ كقولـه تعالى:
{ فإِذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } [النحل: 98] أي إِذا أردت قراءة القرآن وقيل معناه إِذا أحكم أمراً وقيل معناه حكم وحتم بأنه يفعل أمراً والأول أوجَه وقولـه { فإِنما يقول له كن فيكون } اختلف فيه على وجوه أحدها: أنه بمنزلة التمثيل لأن المعدوم لا يصح أن يخاطب ولا يؤمر وحقيقة معناه أنّ منزلة الفعل في تسهله وتيسره عليه وانتفاء التعذر منه كمنزلة ما يقال كن فيكون كما يقال فلان برأسه أو بيده كذا إِذا حرك رأسه أو أومى بيده ولم يقل شيئاً على الحقيقة وكما قال أبو النجم:

قَدْ قَالَتِ الأَنسَاعُ لِلْبَطْنِ الْحَقِ قُدُماً فَآضتْ كَالْفَنِيقِ المُحْنِقِ

وقال العجاج يصف ثوراً:

وَفِيهِ كَالأَعْرَاضِ لِلْعُكُورِ فَكَّرَ ثُمَّ قَالَ في التَّفْكِيْرِ
إن الحَيَاة اليوْمَ في الكُرُور

وقال عمرو بن قَميئَة السدوسي:

فَأَصْبَحْتُ مِثْلَ النَّسْرِ طَارَتْ فِرَاخُهُ إِذا رَامَ تَطْيـَــاراً يُقَــالُ لَهُ قَعِ

وقال آخر:

وقَالَتْ لَهُ العَيْنَانُ سَمْعاً وَطَاعَةً وَحَدَّرَتَا كَالدُّرّ لَمَّــــا يُثَقَّــــبِ

والمشهور فيه قول الشاعر:

امتَلأَ الحَوْضُ وَقَالَ قَطنِي مهْلاً رُوَيْداً قَدْ مَلأَتَ بَطْني

وهو قول أبي علي وأبي القاسم وجماعة من المفسرين وثانيها: أنه علامة جعلها الله للملائكة إِذا سمعوها علموا أنه أحدث أمراً وهذا هو المحكي عن أبي الهذيل. وثالثها: ما قاله بعضهم أن الأشياء المعدومة لما كانت معلومة عند الله تعالى صارت كالموجودة فصح أن يخاطبها ويقول لما شاء إِيجاده منها كن والأصح من الأقوال الأول وهو الأشبه بكلام العرب ويؤيده قولـه تعالى: { فقال لها وللأرض أئتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين } [فصلت: 11] وإن حمل على القول الثاني فالمراد أن يقول للملائكة على جهة الإعلام منه لهم وإخباره إِياهم عن الغيب كن أي يقول أُكوّن فيكون فاعل كن الله وهو في معنى الخبر وإِن كان اللفظ لفظ الأمر على ما تقدم بيانه وقد يجوز على هذا أن يكون فاعل كن الشيء المعدوم المراد كونه وتقديره يقول من أجله للملائكة يكون شيء كذا فيكون ذلك على ما يخبر به لا خلف له ولا تبديل عما يخبر به.
وأما القول الثالث فبعيد لأن المعدوم لا يصح خطابه ولا أمره بالكون والوجود ليخرج بهذا الأمر إلى الوجود لأن ذلك امتثال للأمر وتَلقّ له بالقبول والطاعة وهذا إنما يتصور من المأمور الموجود دون المعدوم ولو صح ذلك لوجب أن يكون المأمور المعدوم فاعلاً لنفسه كما يكون المتلقي لما يؤمر به بالقبول فاعلاً لما أمر به وهذا فاسد ظاهر البطلان وقال بعضهم إِنما يقول كن عند وجود الأشياء لا قبلها ولا بعدها كقولـه تعالى:
{ ثم إِذا دعاكم دعوة من الأرض إِذا أنتم تخرجون } [الروم: 25] وإِنما أراد أنه يدعوهم في حال خروجهم لا قبله ولا بعده وهذا الوجه أيضاً ضعيف لأن مِن شرط حسن الأمر أن يتقدم المأمور به وكذلك الدعاء وفي هذه الآية دلالة على أنه سبحانه لا يجوز أن يتخذ ولداً لأنه إِذا أثبت أنه منشىء السماوات والأرض ثبت بذلك أنه سبحانه ليس بصفة الأجسام والجواهر لأن الجسم يتعذر عليه فعل الأجسام ومن كان بهذه الصفة لم يجز عليه اتخاذ الولد ولأنه سبحانه قد أنشأ عيسى من غير أب من حيث هو مبدع الأشياء فجل عن اتخاذ الأبناء وتعالى علواً كبيرا.
ً