التفاسير

< >
عرض

أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ ٱللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ ٱللَّهِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
١٤٠
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل الكوفة غير أبي بكر وابن عامر أم تقولون بالتاء والباقون بالياء.
الحجة: الأول على الخطاب فتكون أم متصلة بما قبلها من الاستفهام كأنه قال أتحاجوننا في الله أم تقولون أن الأنبياء كانوا على دينكم, والتقدير بأي الحجتين تتعلقون في أمرنا بالتوحيد فنحن مُوحّدون أم باتباع دين الأنبياء فنحن لهم تبعون, والثاني وهو القراءة بالياء على العدول من الحجاج الأول إلى حجاج آخر فكأنه قال بل تقولون أن الأنبياء من قبل أن تنزل التوراة والإنجيل كانوا هوداً أو نصارى, وتكون أم هذه هي المنقطعة فيكون قد أعرض عن خطابهم استجهالاً لهم بما كان منهم كما يُقبل العالم على من بحضرته بعد ارتكاب مخاطبه جهالة شنيعة فيقول قد قامت عليه الحجة أم يقول بإبطال النظر المؤدي إلى المعرفة.
اللغة: الأعلم والأعرف والأدرى بمعنى واحد والأظلم والأجور والأعتى نظائر وأفعل هذه تستعمل بمعنى الزيادة وإنما يصح معناه فيما يقع فيه التزايد كقولـهم أفضل وأطول, وقد قال المحققون الصفات على ثلاثة أضرب صفة ذات وصفة تحصل بالفاعل وصفة تحصل بالمعنى فالأول: مثل كون الذات جوهراً أو سواداً وهذا لا يصح فيه التزايد والثاني: كالوجود ولا يصح فيه أيضاً التزايد والثالث: على ضربين أحدهما: يصح فيه التزايد وهو كل ما يوجبه معنى له مثل كالألوان والأكوان ونحوها والآخر: لا يصح فيه التزايد وهو كل ما يوجبه معنى, وكتَم وأخفى وأسرّ واحد والغفلة والسهو والنسيان نظائر وهو ذهاب المعنى عن النفس, والصحيح أن السهو ليس بمعنى وإنما هو فقد علوم مخصوصة فإن استمر به السهو مع صحة سمي جنوناً فإذا قارنه ضرب من الضعف سمي إغماء وإذا قارنه ضرب من الإسترخاء سمي نوماً فإن قارنه نوع من الطرب سمي سكراً وإذا حصل السهو بعد علم سمي نسياناً.
الإعراب: { أم الله } الله مبتدأ وخبره محذوف تقديره أم الله أعلم وعنده ظرف مكان لكتم أو يكون صفة لشهادة تقديره شهادة كائنة عنده ومن الله صفة لشهادة أيضاً وهي صفة بعد صفة.
المعنى: قد ذكرنا الفرق في المعنى بين قولـه أم تقولون على المخاطبة وقولـه أم يقولون بالياء على أن يكون المعنى لليهود والنصارى وهم غُيَّب, وفي هذا احتجاج عليهم في قولـهم: { لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } من وجوه أحدها: ما أخبر به نبينا صلى الله عليه وسلم مع ظهور المعجز الدال على صدقه والثاني: ما في التوراة والإنجيل من أن هولاء الأنبياء كانوا على الحنيفية والثالث: أن عندهم إنما يقع اسم اليهودية على من تمسك بشريعة التوراة واسم النصرانية على من تمسك بشريعة الإنجيل والكتابان أنزلا بعدهم كما قال سبحانه وما أُنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده والرابع: أنهم ادّعوا ذلك من غير برهان فوَّبخهم الله سبحانه بهذه الوجوه.
وقولـه: { قل ءأنتم أعلم أم الله } صورته صورة الاستفهام والمراد به التوبيخ ومثله قولـه:
{ أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها } [النازعات: 27] ومعناه قل يا محمد لهم أأنتم أعلم أم الله وقد أخبر سبحانه أنهم كانوا على الحنيفية وزعمتم أنهم كانوا هوداً أو نصارى فيلزمكم أن تَدّعوا أنكم أعلم من الله وهذا غاية الخزي, فإن قيل لم قال أأنتم أعلم أم الله وقد كانوا يعلمونه فكتموه وإنما ظاهر هذا الخطاب لمن لا يعلم فالجواب أنّ من قال أنهم كانوا على ظن وتوهم فوجه الكلام على قولـه واضح ومن قال أنهم كانوا يعلمون ذلك وإنما كانوا يجحدونه فمعناه أن منزلتكم منزلة المعترض على ما يعلم أن الله أخبر به فما ينفعه ذلك مع إقراره بأن الله أعلم منه وأنه لا يخفى عليه شيء لأن ما دل على أنه أعلم هو الدال على أنه لا يخفى عليه شيء وهو أنه عالم لذاته يعلم جميع المعلومات.
وقولـه: { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله } فيه أقوال أحدها: أنّ من في قولـه من الله لابتداء الغاية وهو متصل بالشهادة لا بالكتمان ومعناه وما أحد أظلم ممن يكون عنده شهادة من الله فيكتمها والمراد بهذه الشهادة أن الله تعالى بَيَّن في كتابهم صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والبشارة به عن الحسن وقتادة, وقيل المراد بها أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وأولاده كانوا حنفاء مسلمين فكتموا هذه الشهادة وادعوا أنهم كانوا على دينهم عن مجاهد. فهذه شهادة من الله عندهم كتموها. والثاني: أن من متصل بالكتمان أي من أظلم ممن كتم ما في التوراة من الله أي من عبادة الله أو كتم شهادة أن يؤديها إلى الله. والثالث: أن المراد من أظلم في كتمان الشهادة من الله لو كتمها وذلك نحو قولـهم من أظلم ممن يجور على الفقير الضعيف من السلطان الغني القوي والمعنى أنه يلزمكم أنه لا أحد أظلم من الله إذا كتم شهادة عنده ليوقع عباده في الضلال وهو الغني عن ذلك المتعالي أن لو كانوا هوداً أو نصارى لأخبر بذلك وهذا المعنى قول البلخي وأبي مسلم.
وقولـه: { وما الله بغافل عما تعملون } أوْعَدهم سبحانه بما يجمع كل وعيد أي ليس الله بساهٍ عن كتمان الشهادة التي لزمكم القيام بها لله وقيل هو على عمومه أي لا يخفى على الله شيء من المعلومات فكونوا على حذر من الجزاء على أعمالكم بما تستحقونه من العقاب.