التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ
١٥٨
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ أهل الكوفة غير عاصم من طوّع بالياء وتشديد الطاء والواو وكذلك ما بعده ووافقهم زيد ورويس عن يعقوب في الأول والباقون تطوع على أنه فعل ماض روي في الشواذ عن علي عليه السلام وابن عباس وأنس وسعيد بن جبير وأبي بن كعب وابن مسعود ألاّ يطوف بهما.
الحجة: يمكن أن يكون لا على هذه القراءة زائدة كما في قولـه لئلا يعلم أهل الكتاب أي ليعلم وكقولـه:

من غير لا عصف ولا اصطراف

أي من غير عصف وطوّع تقديره يتطوع إلا أنه أدغم التاء في الطاء لتقاربهما.
اللغة: الصفا في الأصل الحجر الأملس مأخوذ من الصفو واحده صفاة قال امرؤ القيس:

لَهَا كَفَلٌ كَصَفَاةِ المِسْيـ لِ أَبْرَزَ عَنْهَا جُحَافٌ مُضِرْ

فهو مثل حصاة وحصى ونواة ونوى وقيل إن الصفا واحد. قال المبرد: الصفا كل حجر لا يخلطه غيره من طين أو تراب وإنما اشتقاقه من صفا يصفو إذا خلص وأصله من الواو لأنك تقول في تثنيته صفوان ولا يجوز إمالته والمروة في الأصل الحجارة الصلبة اللينة وقيل الحصاة الصغيرة والمرو لغة في المروة وقيل هو جمع مثل تمرة وتمر قال أبو ذؤيب:

حَتَّى كَأنّي لِلْحَوادِثِ مَرْوَةٌ بِصَفَا المُشْرِقِ كُلَّ يوْمٍ تُقْرَعُ

والمرو نبت وأصله الصلابة فالنبت إنما سمي بذلك لصلابة بزره وقد صارا اسمين لجبلين معروفين بمكة والألف واللام فيهما للتعريف لا للجنس والشعائر المعالم للأعمال وشعائر الله المعالم التي جعلها مواطن للعبادة وكل معلم لعبادة من دعاء أو صلاة أو غيرهما فهو من مشعر لتلك العبادة وواحد الشعائر شعيرة فشعائر الله أعلام متعبداته من موقف أو مسعى أو منحر من شعرت به أي علمت قال الكميت:

نُقّتلُهُمْ جِيْلاً فَجِيْلاً تَرَاهُمُ شَعَائِرَ قُرْبَانٍ بِهِمْ يُتَقَرَّبُ

والحج في اللغة هو القصد على وجه التكرار وفي الشريعة عبارة عن قصد البيت بالعمل المشروع من الإحرام والطواف والسعي والوقوف بالموقفين وغير ذلك قال الشاعر:

وَأَشْهَدُ مِنْ عَوْفٍ حُلُولاً كثِيرَةً يَحُجُّونَ بَيْتَ الزّبِرْقانِ المُزْعفَرا

يعني يكثرون التردد إليه لسؤدده, والعمرة هي الزيارة أخذ من العمارة لأن الزائر يعمر المكان بزيارته وهي في الشرع زيارة البيت بالعمل المشروع, والجناح الميل عن الحق يقال جنح إليه جنوحاً إذا مال وأجنحته فاجتنح أي أملته وجناحا الطائر يداه ويدا الإنسان جناحاه, وجناحا العسكر جانباه, والطواف الدوران حول الشيء ومنه الطائف وفي عرف الشرع الدور حول البيت, والطائفة الجماعة كالحلقة الدائرة ويطوف أصله يتطوف ومثله يطوّع والفرق بين الطاعة والتطوع أن الطاعة موافقة الإرادة في الفريضة, والنافلة والتطوع التبرع بالنافلة خاصة وأصلهما من الطوع الذي هو الانقياد والشاكر فاعل الشكر وإنما يوصف سبحانه بأنه شاكر مجازاً وتوسعاً لأنه في الأصل هو المظهر للأنعام عليه والله يتعالى عن أن يكون عليه نعمة لأحد.
الإعراب: قولـه من حج ومَن تطوع يحتمل أمرين أحدهما: أن يكون من موصولاً بمنزلة الذي والآخر أن يكون للجزاء فإن كان موصولاً فلا موضع للفعل الذي بعده هو مع صلته في موضع رفع الابتداء والفاء على هذا مع ما بعده قولـه فلا جناح عليه فإن الله شاكر في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ الموصول وإن كان للجزاء كان الفعل الذي بعده في موضع الجزم وكانت الفاء مع ما بعدها أيضاً في موضع جزم لوقوعها موقع الفعل المجزوم الذي هو جزاء والفعل الذي هو حَجَّ أو تطوع على لفظ الماضي والتقدير به المستقبل كما أن ذلك في قولك إن أكرمتني أكرمتك كذلك وقولـه فإن الله شاكر عليم إنما يصح أن يقع موقع الجزاء أو موقع خبر المبتدأ وإن لم يكن فيه ضمير عائد لأن تقديره يعامله معاملة الشاكر بحسن المجازاة وإيجاب المكافأة وإنما دخلت الفاء في خبر المبتدأ الموصول لما فيه من معنى الجزاء وإن لم يكن في موضع الجزم ألا ترى أن هذه الفاء تؤذن بأن الثاني وجب لوجوب الأول.
المعنى: لمّا ذكر سبحانه امتحان العباد بالتكليف والإلزام مرة وبالمصائب والآلام أخرى ذكر سبحانه أنّ من جملة ذلك أمر الحج فقال { إن الصفا والمروة من شعائر الله } أي إنهما من أعلام متعبداته وقيل من مواضع نسكه وطاعاته عن ابن عباس, وقيل من دين الله عن الحسن, وقيل فيه حذف وتقديره الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله. وروي عن جعفر الصادق عليه السلام أنه قال نزل آدم على الصفا ونزلت حواء على المروة فسمي الصفا باسم آدم المصطفى وسميت المروة باسم المرأة وقولـه { فمن حج البيت } أي قصده بالأفعال المشروعة { أو اعتمر } أي أتى بالعمرة بالمناسك المشروعة وقولـه { فلا جناح عليه } أي لا حرج عليه { أن يطوف بهما }.
قال الصادق (ع): كان المسلمون يرون أن الصفا والمروة مما ابتدع أهل الجاهلية فأنزل الله هذه الآية وإنما قال فلا جناح عليه أن يطوف بهما وهو واجب أو طاعة على الخلاف فيه لأنه كان على الصفا صنم يقال له أساف وعلى المروة صنم يقال له نائلة وكان المشركون إذا طافوا بهما مسحوهما فتحرَّج المسلمون عن الطواف بهما لأجل الصنمين فأنزل الله تعالى هذه الآية عن الشعبي وكثير من العلماء فرجع رفع الجناح عن الطواف بهما إلى تحرّجهم عن الطواف بهما لأجل الصنمين لا إلى عين الطواف كما لو كان الإنسان محبوساً في موضع لا يمكنه الصلاة إلا بالتوجه إلى ما يكره التوجه إليه من المخرج وغيره فيقال له لا جناح عليك في الصلاة إلى ذلك المكان فلا يرجع رفع الجناح إلى عين الصلاة لأن عين الصلاة واجبة إنما يرجع إلى التوجه إلى ذلك المكان.
ورويت رواية أخرى عن أبي عبد الله عليه السلام أنه كان ذلك في عمرة القضاء وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام فتشاغل رجل من أصحابه حتى أعيدت الأصنام فجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له إن فلاناً لم يَطُف وقد أعيدت الأصنام فنزلت هذه الآية { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } أي والأصنام عليهما قال فكان الناس يسعون والأصنام على حالها فلما حج النبي صلى الله عليه وسلم رمى بها.
وقولـه: { من تطوع خيراً } فيه أقوال أولها: أن معناه من تبرَّع بالطواف والسعي بين الصفا والمروة بعد ما أدى الواجب من ذلك عن ابن عباس وغيره وثانيها أن معناه من تطوع بالحج والعمرة بعد أداء الحج والعمرة المفروضين عن الأصم وثالثها أن معناه من تطوع بالخيرات وأنواع الطاعات عن الحسن. ومن قال أن السعي ليس بواجب قال معناه من تبرع بالسعي بين الصفا والمروة.
وقولـه: { فإن الله شكر عليم } أي مجازيه على ذلك وإنما ذكر لفظ الشاكر تلطفاً بعباده ومظاهرة في الإحسان والإنعام إليهم كما قال:
{ { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } [البقرة: 245] والله سبحانه لا يستقرض عن عَوز ولكنه ذكر هذا اللفظ على طريق التلطف أي يعامل عباده معاملة المستقرض من حيث إن العبد ينفق في حال غناه فيأخذ أضعاف ذلك في حال فقره وحاجته وكذلك لما كان يعامل عباده معاملة الشاكرين من حيث إنه يوجب الثناء له والثواب سمّى نفسه شاكراً وقولـه عليم أي بما تفعلونه من الأفعال فيجازيكم عليها وقيل عليم بقدر الجزاء فلا يبخس أحداً حقه. وفي هذه الآية دلالة على أن السعي بين الصفا والمروة عبادة ولا خلاف في ذلك وهو عندنا فرض واجب في الحج وفي العمرة وبه قال الحسن وعائشة وهو مذهب الشافعي وأصحابه وقال إن السنة أوجبت السعي وهو قولـه صلى الله عليه وسلم: " كتب عليكم السعي فاسعوا" " فأما ظاهر الآية فإنما يدل على إباحة ما كرهوه من السعي وعند أبي حنيفة وأصحابه هو تطوع وهو اختيار الجبائي وروي ذلك عن أنس وابن عباس وعندنا وعند الشافعي من تركه متعمداً فلا حج له.