التفاسير

< >
عرض

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ
١٧
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: المثل والمثل والشبه والشبه نظائر وحقيقة المثل ما جعل كالعلم على معنى سائر يشبه فيه الثاني بالأول ومثاله قول كعب بن زهير:

كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبِ لَنَا مَثَلاً وَمَا مَوَاعِيدُه إِلاَّ الأَبَاطِيلُ

فمواعيد عرقوب علم في كل ما لا يصح من المواعيد ومنه التمثال لأنه يشبه الصورة والذي قد يوضع موضع الجمع كقولـه تعالى: { { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } [الزمر: 33] ثم قال { { وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } [البقرة: 177] قال الشاعر:

وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِماؤُهُمْ هُمُ القَوْمُ كُلُّ القَوْمِ يَا أُمَّ خالِدِ

واستوقد بمعنى أوقد مثل استجاب بمعنى أجاب وقيل استوقد أي طلب الوقود والوقود بفتح الواو الحطب والنار جوهر مضيء حار محرق وأصله من النور يقال نار وأنار واستنار بمعنى, والمنارات العلامات وأضاء يكون لازماً ومتعدياً يقال أضاء الشيء بنفسه وأضاء غيره والذي في الآية متعدّ والترك للشيء والكف عنه, والإِمساك نظائر والظلمات جمع ظلمة وأصلها انتقاص الحق من قولـه ولا تظلم منه شيئاً أي لم تنقص ومنه ومن أشبه أباه فما ظلم أي ما انتقص حق الشيء والإبصار إِدراك الشيء بحاسة البصر يقال أبصر بعينه والإبصار بالقلب مشبه به.
الإعراب: مثلهم مبتدأ وكمثل الذي خبره والكاف زائدة تقديره مثلهم مثل الذي استوقد ناراً ونحوه قولـه:
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ } [الشورى: 11] أي ليس مثله شيء واستوقد ناراً وما اتصل به من صلة الذي والعائد إلى الذي المضمر الذي في استوقد ولما يدل على وقوع الشيء لوقوع غيره وهو بمعنى الظرف والعامل فيه جوابه منصوب بوقوعِ الإِضاءة عليه وحوله نصب على الظرف وهو صلة ما يقال هم حولَه وحولَيْه وحوالَه وحوالَيْه وقوله ذهب الله بنورهم أي أذهب الله نورهم, والفعل الذي لا يتعدى يتعدى إلى المفعول بحرف الجر وبهمزة النقل, والباء في قوله بنورهم يتعلق بذهب وفي ظلمات يتعلق بتركهم وقوله لا يبصرون في موضع نصب على الحال والعامل فيه تركهم أي تركهم غير مبصرين.
المعنى: مثلهم أي مثل هؤلاء المنافقين لما أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر { كمثل الذي استوقد } أي أوقد ناراً أو كمثل الذي طلب الضياء بإيقاد النار في ليلة مظلمة فاستضاء بها واستدفأ ورأى ما حوله فاتقى ما يحذر ويخاف وأمن فبينا هو كذلك إذ أطْفِئت ناره فبقي مظلماً خائفاً متحيراً, كذلك المنافقون لما أظهروا كلمة الإيمان واستناروا بنورها واعتزّوا بعزها فناكحوا المسلمين ووارثوهم وأمنوا على أموالهم وأولادهم فلما ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف وبقوا في العذاب وذلك معنى قولـه: { فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم } وهذا هو المروي عن ابن عباس وقتادة والضحاك والسدّي وكان يجب في حق النظم أن يكون اللفظ فلما أضاءت ما حوله أطفأ الله ناره ليشاكل جواب لمّا معنى هذه القضية ولكن لما كان أطفاء هذه النار مثلاً لإذهاب أقيم إذهاب النور مقام الإطفاء وحذف جواب لما إيجازاً واختصاراً لدلالة الكلام عليه كما قال أبو ذؤيب:

دَعانِي إِلَيْهَا القَلْبُ إِنّي لأمره مُطِيعٌ فَمَا أَدْرِي أرُشْدٌ طِلابُهَا

وتقديره أرشد أم غيُّ طلابها فحذف للإيجاز. ومعنى إذهاب الله نورهم هو أن الله تعالى يسلبهم ما أعطوه من النور مع المؤمنين في الآخرة وذلك قولـه تعالى فيما أخبر عنهم { { ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } [الحديد: 13] قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً وقيل في معنى إِذهاب نور المنافقين وجه آخر وهو اطلاع الله المؤمنين على كفرهم فقد ذهب منهم نور الإِسلام بما أظهر الله من كفرهم. وقال سعيد بن جبير ومحمد بن كعب وعطاء الآية نزلت في اليهود وانتظارهم خروج النبي صلى الله عليه وسلم وإيمانهم به واستفتاحهم به على مشركي العرب فلما خرج كفروا به وذلك أن قريظة والنضير وبني قَينقاع قدموا من الشام إلى يثرب حين انقطعت النبوة من بني إسرائيل وأفضت إلى العرب فدخلوا المدينة يشهدون لمحمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة وأن أمته خير الأمم, وكان يغشاهم رجل من بني إسرائيل يقال له عبد الله بن هيبان قبل أن يوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم كل سنة فيحضّهم على طاعة الله عز وجل وإقامة التوراة والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ويقول إذا خرج فلا تفرقوا عليه وانصروه وقد كنت أطمع أن أدركه ثم مات قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم فقبلوا منه ثم لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به فضرب الله لهم هذا المثل.
سؤال: كيف الله شبه المنافقين أو اليهود وهم جماعة بالذي استوقد ناراً وهو واحد.
الجواب: على وجوه أحدها: أن الذي في معنى الجمع كما قيل في الآية الأخرى والذي جاء بالصدق وَصدّق به وثانيها: أن يقال النون محذوفة من الذي كما جاء في قول الأخطل:

أَبني كُلَيْبٍ إنَّ عَمَّيَّ اللّذَا قَتَلا المُلُوكَ وفَككَّاَ الأغلاَلا

وثالثها: أن يكون الكلام على حذف كأنه قال: مثلهم كمثل أتباع الذي استوقد ناراً ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه كما قال الجعدي:

وكَيْفَ تُوَاصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ خِلاَلَتُه كأبِي مَرَحَبِ

يريد كخلالة أبي مرحب ورابعها: أن يقال أراد بالمستوقد الجنس لما في الذي من الإبهام إذ ليس يراد به تعريف واحد بعينه وعلى هذا يكون جواب لما أضاءت ما حوله محذوفاً كأنه قال طفئت والضمير في قولـه ذهب الله بنورهم يعود إلى المنافقين وخامسها: أن يقال هذا تشبيه الحال بالحال فتقديره حال بالحال فتقديره حال هؤلاء المنافقين في جهلهم كحال المستوقد ناراً وتشبيه الحال بالحال جائز كما يقال بلادة هؤلاء كبلادة الحمار ولو قلت هؤلاء كالحمار لم يجز ومعنى قولـه وتركهم في ظلمات لا يبصرون معناه لم يفعل الله لهم النور إذا جاء في صفات الله تعالى, فالمعنى أن لا يفعل الترك هو الكفّ عن الفعل بالفعل وهذا إنما يصح فيمن حلّه فعله والله سبحانه منزه عن أن يحلَّه فعله فمعناه أنه لم يفعل لهم النور حتى صاروا في ظلمة أشد مما كان قبل الإيقاد وقولـه لا يبصرون أي لا يبصرون الطريق.