التفاسير

< >
عرض

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ
١٨٠
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

اللغة: المعروف هو العدل الذي لا يجوز أن ينكر ولا حيف فيه ولا جور والحضور وجود الشيء بحيث يمكن أن يدرك والحق هو الفعل الذي لا يجوز إنكاره وقيل هو ما علم صحته سواء كان قولاً أو فعلاً أو اعتقاداً وهو مصدر حق يحق حقاً.
الإعراب: قولـه كتب عليكم المعنى وكتب عليكم إلاّ أنّ الكلام إذا طال استغنى عن العطف بالواو وعلم أن معناه معنى الواو لأن القصة الأولى قد استتمت وفي القصة الثانية ذكر مما في الأولى فاتصلت هذه بتلك لأجل الذكر, والوصية ارتفعت لأحد وجهين إما بأنه اسم ما لم يسم فاعله وهو كتب وإما بأنه مبتدأ وقولـه للوالدين خبره والجملة في موضع رفع على الحكاية لأن معنى كتب عليكم قيل لكم الوصية للوالدين وأما العامل في إذا ففيه وجهان أحدهما: كتب فكأنه قيل كتب عليكم الوصية وقت المرض والآخر: ما قاله الزجاج وهو أن الوصية رغب فيها في حال الصحة فتقديره كتب عليكم أن توصوا وأنتم قادرون على الوصية قائلين إذا حضرنا الموت فلفلان كذا وحقاً نصب على المصدر وتقديره أحق ذلك حقاً وقد استعمل على وجه الصفة بمعنى ذي الحق كما وصف بالعدل فعلى هذا يكون نصباً على الحال ويجوز أن يكون مصدر كتب من غير لفظة تقديره كتب كتاباً.
المعنى: ثم بيّن سبحانه شريعة أخرى وهو الوصية فقال: { كتب عليكم } أي فرض عليكم { إذا حضر أحدكم الموت } أي أسباب الموت من مرض ونحوه من الهرم ولم يرد إذا عاين البأس وملك الموت لأن تلك الحالة تشغله عن الوصية وقيل فرض عليكم الوصية في حال الصحة أن تقولوا إذا حضرنا الموت فافعلوا كذا { إن ترك خيراً } أي مالاً واختلف في المقدار الذي يجب الوصية عنده, فقال الزهري في القليل والكثير مما يقع عليه اسم المال, وقال إبراهيم النخعي من ألف درهم إلى خمسمائة, وقال ابن عباس إلى ثمانمائة درهم وروي عن علي (ع) أنه دخل على مولى له في مرضه وله سبعمائة أو ستمائة درهم فقال: ألا أوصي فقال لا إن الله سبحانه قال إن ترك خيراً وليس لك كثير مال وهذا هو المأخوذ به عندنا لأن قولـه حجة.
{ الوصية للوالدين والأقربين } أي الوصية لوالديه وقرابته { بالمعروف } أي بالشيء الذي يعرف أهل التمييز أنه لا جور فيه ولا حيف ويحتمل أن يرجع ذلك إلى قدر ما يوصي لأن من يملك المال الكثير إذا أوصى بدرهم فلم يوص بالمعروف ويحتمل أن يرجع إلى الموصى لهم فكأنه أمر بالطريقة الجميلة في الوصية فليس من المعروف أن يوصي للغني ويترك الفقير ويوصي للقريب ويترك الأقرب منه ويجب حمله على كلا الوجهين: { حقاً على المتقين } أي حقاً واجباً على من آثر التقوى وهذا تأكيد في الوجوب واختلف في هذه الآية فقيل إنها منسوخة وقيل إنها منسوخة في المواريث ثأبتة في غير الوارث, وقيل إنها غير منسوخة أصلاً وهو الصحيح عند المحققين من أصحابنا لأن من قال إنها منسوخة بآية المواريث فقولـه باطل بأن النسخ بين الخبرين إنما يكون إذا تنافى العمل بموجبهما ولا تنافي بين آية المواريث وآية الوصية فكيف تكون هذه ناسخة بتلك مع فقد التنافي ومن قال إنها منسوخة بقولـه (ع)
" لا وصية لوارث " فقد أبعد لأن الخبر لو سَلَم من كل قدح لكان يقتضي الظن ولا يجوز أن ينسخ كتاب الله تعالى الذي يوجب العلم اليقين بما يقتضي الظن ولو سلمنا الخبر مع ما ورد من الطعن على رواية لخصصنا عموم الآية وحملناها على أنه لا وصية لوارث بما يزيد على الثلث لأن ظاهر الآية يقتضي أن الوصية جائزة لهم بجميع ما يملك وقول من قال حصول الإجماع على أن الوصية ليست بفرض يدل على أنها منسوخة يفسد بأن الإجماع إنما هو على أنها لا تفيد الفرض وذلك لا يمنع من كونها مندوباً إليها مرغباً فيها وقد روى أصحابنا عن أبي جعفر عليه السلام أنه سئل هل تجوز الوصية للوارث فقال: نعم وتلا هذه الآية وروى السكوني عن أبي عبد الله عن أبيه عن علي (ع) قال: من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية ومما يؤيّد ما ذكرناه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " "من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية" " وعنه عليه السلام أنه قال: " من لم يحسن وصيته عند موته كان نقصاً في مروءته وعقله" ", وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: "ما ينبغي لامرىء مسلم أن يبيت إلا ووصيته تحت رأسه".