التفاسير

< >
عرض

ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
٢
-البقرة

مجمع البيان في تفسير القرآن

القراءة: قرأ ابن كثير فيهي هدى بوصل الهاء بياء في اللفظ وكذلك كل هاء كتابية قبلها ياء ساكنة فإِن كان قبلها ساكن غير الياء وصلها بالواو ووافقه حفص في قولـه فيهي مهاناً وقتيبة في قولـه فملاقيه وسأصليه والباقون لا يُشبعون وإِذا تحرك ما قبل الهاء فهم مجمعون على إشباعه.
الحجة: اعلم أنه يجوز في العربية في فيه أربعة أوجه فيهو وفيهي وفيهُ وفيهِ والأصل فيهو كما قيل لهو مال فمن كسر الهاء من فيه ونحوه مع أن الأصل الضم فلأجل الياء أو الكسرة قبل الهاء والهاء تشبه الألف لكونها من حروف الخلق ولما فيها من الخفاء فكما نحواً بالألف نحو الياء بالإمالة لأجل الكسرة أو الياء كذلك كسروا الهاء للكسرة أو الياء ليتجانس الصوتان ومن ترك الإشباع فلكراهة اجتماع المشابهة فإن اكتنفها ساكنان من حروف اللين كان كأنّ الساكنين التقيا لخفاء الهاء فإنهم لم يعتدوا بها حاجزاً في نحو فيهي وخُذُ وهُو كما لم يعتد بها في نحو ردّ من أتبع الضم الضم إذا وصل الفعل بضمير المؤنث فقال ردها بالفتح لا غير ولم يتبع الضم الضم وجعل الدال كأنها لازقة بالألف وأما من أشبع واتبعها الياء قال الهاء وإن كانت خفية فليس يخرجها ذلك من أن تكون كغيرها من حروف المعجم التي لا خفاء فيها فإذا كان كذلك كان حجَزها بين الساكنين كحجز غيرها من الحروف التي لا خفاء فيها.
اللغة: ذلك لفظة يشار بها إلى ما بَعُدَ وهذا: إلى ما قرب والاسم من ذلك ذا والكاف زيدت للخطاب ولاحظَّ لها من الإعراب واللام تزاد للتأكيد وكسرت لالتقاء الساكنين وتسقط معها هاء تقول ذاك وذلك وهذاك ولا تقول هذا لك والكتاب مصدر وهو بمعنى المكتوب كالحساب قال الشاعر:

بَشَرْتُ عِيالي إذ رَأَيْتُ صَحِيفَةً أَتَتْكَ مِنَ الحَجَّاجِ يُتْلى كِتَابُها

أي مكتوبها وأصله الجمع من قولـهم كتبت القربة إذا خرزتها والكتبة الخرزة وكتبت البغلة إذا جمعت بين شفريها بحلقة ومنه قيل للجند كَتِيبَة لانضمام بعضهم إلى بعض والريب الشك وقيل هو أسوأ الشك وهو مصدر رابني الشيء من فلان يريبني إذا كنت مستيقناً منه بالريبة فإذا أسأت به الظن ولم تستيقن بالريبة منه قلت أرابني من فلان أمر إرابة, وأراب الرجل إذا صار صاحب ريبة كما قيل ألام أي استحق أن يلام والهدى الدلالة مصدر هديته وفُعَل قليل في المصادر. قال أبو علي: يجوز أن يكون فعل مصدر اختص به المعتل وإن لم يكن في المصادر كما كان كينونة ونحوه لا يكون في الصحيح والفعل منه يتعدى إلى مفعولين يتعدى إلى الثاني منهما بأحد حرفي جر إلى أو اللام كقولـه: { وَٱهْدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَاطِ } [ص: 22] و { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا } [الأعراف: 43] وقد يحذف منه حرف الجر فيصل الفعل إلى المفعول نحو: { إهدنا الصراط المستقيم } أي دلنا عليه وأسلك بنا فيه وكأنه استنجازٌ لما وعدوا به في قولـه: { { يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ٱلسَّلاَمِ } [المائدة: 16] أي سبل دار السلام والأصل في المتقين الموتقين مفتعلين من الوقاية فقبلت الواو تاء وأدغمتها في التاء التي بعدها وحذفت الكسرة من الياء استثقالاً لها ثم حذفتها لالتقاء الساكنين فبقي متقين والتقوى أصله وقوى قلبت الواو تاء كالتراث أصله وراث وأصل الاتقاء الحجز بين الشيئين يقال: أتقاه بالترس أي جعله حاجزاً بينه وبينه قال الشاعر:

فَأَلْقَتِ قِنَاعاً دُونَها الشَّمْسُ واتَّقَتْ بِأحْسَنِ مَوْصُولَيْن كفٍّ ومِعْصَمِ

ومنه الوقاية لأنها تمنع رؤية الشعر.
الإعراب: ذلك في موضع رفع من وجوه: أحدها: أن تجعله خبراً عن ألم كما مضى القول فيه وثانيها: أن يكون متبدأ والكتاب خبره وثالثها: أن يكون مبتدأ والكتاب عطف بيان أو صفة له أو بدل منه ولا ريب فيه جملة في موضع الخبر ورابعها: أن يكون مبتدأ وخبره هدىً ويكون لا ريب في موضع الحال والعامل في الحال معنى الإشارة وخامسها: أن يكون لا ريب فيه وهدى جميعاً خبراً بعد كقولك هذا حلو حامض أي جمع الطعمين ومنه قول الشاعر:

مَنْ يَكُ ذا بَتٍّ فَهذَا بَتّي مُقَيّظٌ مصَيّفٌ مُشَتّي

وسادسها: أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا ذلك الكتاب وإن حملت على هذا الوجه أو على أنه مبتدأ ولا ريب فيه الخبر أو على أنه خبر ألم أو على أن الكتاب خبر عنه كان قولـه هدى في موضع نصب على الحال أي هادياً للمتقين والعامل فيه معنى الإشارة والاستقرار الذي يتعلق به فيه وقولـه: { لا ريب } قال سيبويه: لا تعمل فيما بعدها فتنصبه بغير تنوين وقال غيره من حذاق النحويين: جعل لا مع النكرة الشائعة مركباً فهو أوكد من تضمين الاسم معنى الحرف لأنه جعل جزءاً من الاسم بدلالة إنك تضيف إليه مجموعاً وتدخل عليه حرف الجر فتقول جئتك بلا مال ولا زاد فلما صار كذلك بني على الفتح وهما جميعاً في موضع الرفع على الابتداء فموضع خبره موضع خبر المبتدأ وعلى هذا فيجوز أن تجعل فيه خبر ويجوز أن تجعله صفة فإن جعلته صفة, أضمرت الخبر وأن جعلته خبراً كان موضعه رفعاً في قياس قول سيبويه من حيث يرتفع خبر المبتدأ وعلى قول أبي الحسن الأخفش موضعه رفع والموضع للظرف نفسه لا لما كان يتعلق به لأن الحكم له من دون ما كان يكون الظرف منتصباً به في الأصل ألا ترى أن الضمير قد صار في الظرف.
وأما قولـه: { هدى } فيجوز أن يكون في موضع رفع من ثلاثة أوجه غير الوجه الذي ذكرناه قبل وهو أن يكون خبراً عن ذلك أحدها أن يكون مبتدأ وفيه الخبر على أن تضمر للا ريب خبراً كأنك قلت لا ريب فيه فيه هدى والوقف على هذا الوجه يكون على قولـه لا ريب ويبتدئ فيه هدى للمتقين وإن شئت جعلت فيه هذه الظاهرة خبراً عن لا ريب وأضمرت لهدى خبراً كأنك قلت لا ريب فيه فيه هدى والوقف على هذا الوجه على قولـه لا ريب فيه ويبتدئ هدى للمتقين والوجه الثاني أن يكون خبراً عن ألم على قول من جعله اسما للسورة والوجه الثالث أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف تقديره هو هدى.
المعنى: المراد بالكتاب القرآن وقال الأخفش ذلك بمعنى هذا لأن الكتاب كان حاضراً وأنشد لخفاف بن ندبة:

أقُولُ لَهُ والرُّمْحُ يأطِرُ متْنُهُ تأمَّل خُفَافاً إِنَّني أنا ذلِكا

أي أنا هذا وهذا البيت يمكن إجراؤه على ظاهره أي إنني أنا ذلك الرجل الذي سمعت شجاعته وإذا جرى للشيء ذكر يجوز أن يقول السامع هذا كما قلت وذلك كما قلت وتقول أنفقت ثلاثة وثلاثة فهذا ستة أو فذلك ستة, وإنما تقول هذا لقربه بالإخبار عنه وتقول ذلك لكونه ماضياً وقيل إن الله وعد نبيه أن ينزل عليه كتاباً لا يمحوه الماء ولا يخلق على كثرة الرد فلما أنزل القرآن قال هذا القرآن ذلك الكتاب الذي وعدتك, عن الفراء وأبي علي الجبائي. وقيل معناه هذا القرآن ذلك الكتاب الذي وعدتك به في الكتب السالفة عن المبرد. ومن قال إن المراد بالكتاب التوراة والإنجيل فقولـه فاسد لأنه وصف الكتاب بأنه لا ريب فيه وأنه هدى ووصف ما في أيدي اليهود والنصارى بأنه محرّف بقولـه: { { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } [النساء: 46] ومعنى قولـه لا ريب فيه أي أنه بيان وهدى وحق ومعجز فمن ههنا استحق الوصف بأنه لا شك فيه لا على جهة الإخبار بنفي الشاكين وقيل إنه على الحذف كأنه قال لا سبب شك فيه لأن الأسباب التي توجب الشك في الكلام هي التلبيس والتعقيد والتناقض والدعاوى العارية من البرهان وهذه كلها منفية عن كتاب الله تعالى وقيل إن معناه النهي وإن كان لفظه الخبر أي لا ترتابوا أو لا تشكوا فيه كقولـه تعالى: { { لاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ } [البقرة: 197] وأما تخصيص المتقين بأن القرآن هدى لهم وإن كان هدى لجميع الناس فلأنهم هم الذين انتفعوا به واهتدوا بهداه كما قال إنما انتفع بإنذاره من يخشى نار جهنم على أنه ليس في الإخبار بأنه هدى للمتقين ما يدل على أنه ليس بهدى لغيرهم وبيَّن في آية أخرى أنه هدى للناس.
فصل في التقوى والمتقي
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"جماع التقوى في قولـه تعالى: { إن الله يأمر بالعدل والإحسان }" [النحل: 90] وقيل: المتقي الذي اتقى ما حرم عليه وفعل ما أوجب عليه. وقيل: هو الذي يتقي بصالح أعماله عذاب الله وسأل عمر بن الخطاب كعب الأحبار عن التقوى فقال: هل أخذت طريقاً ذا شوك. فقال: نعم, قال: فما عملت فيه قال حذرت وتشمرت. فقال كعب: ذلك التقوى ونظمه بعض الناس فقال:

خلِّ الذنوبَ صغيرَها وكبيرَها فهو التُقى
واصنع كماشٍ فوق أر ض الشَوك يحذر ما يَرى
لا تحَقِرنَّ صغيرة إن الجبال من الحصى

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما سمي المتقون لتركهم ما لا بأس به حذراً للوقوع فيما به بأس" وقال عمر بن عبد العزيز: التقي ملجم كالمجرم في الحرم. وقال بعضهم: التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك.